ومفاد المسألة كتاب من الأخ زكي….. من الولايات المتحدة الأمريكية يسأل فيه عما إذا كان يجوز له بيع المحرمات لغير المسلمين، خاصة أنه محكوم في قضية يقول: إنه ظُلِم فيها، وإن ما قد يحصل عليه من هذا البيع سوف يساعده في توكيل محام يدافع عنه في قضيته.

حكم ما إذا كان يجوز للمسلم بيع المحرمات لغير المسلم

والجواب عن هذا من حيث العموم: أن الإسلام حرم بيعَ أو شراءَ أو تعاطيَ كلِّ ما هو محرم في ذاته، كما حرم كل ما يؤدي في غايته أو وسيلته إلى ضرر الإنسان في نفسه، أو دينه، أو ماله، أو عرضه، أو عقله، وهذه المحرمات معلومة من الدين بالضرورة، ومنها تحريم الربا، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل؛ لما ينشأ عن ذلك من فساد أحوال الناس في معاشهم، وفي علاقاتهم، وفي هذا قال -عز وجل-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقال: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188].

ومن هذه المحرمات: تطفيف الكيل والوزن؛ لما فيه من بخس الحقوق، وأكل أموال الناس دون حق، وقد توعد الله عليه بالعذاب في قوله  -عز وجل-: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون} [سورة المطففين: 3].

ومن هذه المحرمات: الفساد في الأرض، والعلو فيها، خلافًا لحكمة الله في جعلها أمنًا وسلامًا، يعبد ويوحد فيها، وتجتنب فيها محرماته من القتل والزنا والسرقة وغير ذلك، فقال  -عز وجل-: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: 85]، وقال -تعالى-: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [القصص: 83].

ومن هذه المحرمات: بخس الناس أشياءهم كالغش، والخداع، والحِيَلِ؛ لما يؤدي إليه ذلك من الاقتتال والتشاجر والخصومات، وسائر أنواع الفتن.

ومن هذه المحرمات: ارتكاب الظلم؛ لما فيه من تسلط القوي على الضعيف، وسيادة القوة والطغيان، واختلال الأمن في الأرض، وقد توعد الله على ذلك بالعذاب الأليم في قوله  -عز وجل-: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19].

ومن هذه المحرمات: تعاطي القمار، وشرب الخمر، وما في حكمه من المخدرات؛ لما ينشأ عن ذلك من ضياع الأموال، وفساد العقول والأحوال وفي هذا قال الله  -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90].

ومن هذه المحرمات: بيع الأفلام الجنسية، أو الصور العارية، أو أدوات اللهو، أو نحو ذلك مما يشيع الفواحش، ويفسد الأخلاق.

وإلى جانب هذه الأحكام جاءت سنة نبي الله ورسوله بتحريم كل ما يؤدي في غايته أو وسيلته إلى فساد العلائق في الأمة كالغش، والكذب، والاستغلال، فهذه الأحكام تعد قواعد تبين للمسلم ما يجب عليه في تعامله مع غيره، سواءٌ كان مسلمًا أم غير مسلم، فالفساد في الأرض -مثلاً- يشمل إشاعة الفواحش والمخدرات، وسائر أنواع الرذيلة والفسوق، وذلك أن هذه المحرمات إذا انتشرت عمت في مخاطرها وأضرارها سائر البشر رغم تباعد أماكنهم وأجناسهم ومعتقداتهم، ومثال هذا واضح فيما يشهده العالم في هذا الزمان من تفشي مرض نقص المناعة، وانتشار المخدرات، وانعكاس هذه الأمراض على حياة الإنسان، وتأثيرها عليه.

قلت: ومما لا مراء فيه أن الله  -عز وجل- وضع هذه الأحكام لمصلحة الإنسان بصرف النظر عن لونه، وجنسه، ومعتقده، وذلك أن رسالة الإسلام رسالة أممية شاملة، أرادها الله لصيانة الإنسان في آدميته وكرامته، وحفظ حقوقه، وهذا واضح في آيات كثيرة من كتاب الله، منها: قوله  -عز وجل-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وقوله -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقوله  -عز وجل-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقوله -تعالى-: {وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة: 190]، وقوله لنبيه ورسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107]، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: 13]، فهذه الآيات في عموم أحكامها تدل على كرامة الإنسان في عمومه، وما يجب له من العدل والاحسان، وأن الله أرسل رسوله للبشرية كلها رسولَ عدلٍ ومحبة، وأن الله خلق عباده ذكرهم وأنثاهم، لا فرق بينهم إلا فيما يتفاضلون به في تقواه.

قلت: وقد حدد الإسلام بشكل خاص العلاقة بين أتباعه وأهل الكتاب في عدة آيات، منها: قول الله -تعالى-: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]، وقوله  -عز وجل-: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [العنكبوت: 46]، وقوله  -عز وجل-: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الممتحنة: 8].

وقد تفرع من هذه الأحكام فروع تتعلق بحقوق أهل الكتاب في طعامهم وشرابهم، ومسائل زواجهم وطلاقهم، وأماكن عبادتهم وممارسة شعائرهم، ونحو ذلك مما هو معروف في فقه الإسلام وأحكامه، كما تفرع عنها مسائل واجتهادات تتعلق بالعلاقة وتبادل المنافع المباحة معهم، ومن ذلك: عيادة مرضاهم، وزيارتهم، وتعزيتهم في من يتوفى من أقاربهم، وفي هذا قال يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حتبة البجلي المشهور بأبي يوسف قال: “سألت أبا حنيفة عن اليهودي والنصراني يموت له الولد أو القرابة، كيف يعزى؟، قال: يقول: إن الله كتب الموت على خلقه، فنسأل الله أن يجعله خير غائب ينتظر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، عليك بالصبر فيما نزل بك، لا نقص الله لك عدداً”.

قال أبو يوسف: “وبلغنا أن رجلًا نصرانيًّا كان يأتي الحسن، ويغشى مجلسه، فمات، فسار الحسن إلى أخيه ليعزيه، فقال له: أثابك الله على مصيبتك ثواب من أصيب بمثلها من أهل دينك، وبارك لنا في الموت، وجعله خير غائب ننتظره، عليك بالصبر فيما نزل بك من المصائب”([1]).

قلت: ولا يظن ظان أن هذا يتعارض مع الأحكام الخاصة بمسألة الموالاة، فما ذكر آنفًا أمر، ومسألة الموالاة أمر آخر، وذلك أن أحكام العلاقة بين المسلم وغير المسلم سواءٌ ما كان منها نصًّا أو اجتهادًا مبنية على السلام، أما إذا اختلت هذه العلاقة من جانب غير المسلم بما يقع منه من عداء أو ظلم أو بخس للحقوق، فتكون العلاقة معه حينئذ مسألة أخرى.

وينبني على ما سبق أنه لا يجوز للأخ السائل بيع المحرمات لغير المسلم؛ لأن ما حرم الله في دين الإسلام هو محرم على المسلم وغيره، وما أبيح من شيء في ملة غير المسلم يحرم على المسلم التعامل معه فيه بيعًا، أو شراءً، أو اتجارًا، أو خلاف ذلك، إذا كان ذلك الشيء محرمًا في الإسلام.

وخلاصة ما سبق: أن الإسلام حرم بيع أو شراء أو تعاطي كل ما هو محرم في ذاته، كما حرم كل ما يؤدي في غايته أو وسيلته إلى ضرر الإنسان في نفسه، أو دينه، أو ماله، أو عرضه، أو عقله، وهذه المحرمات كثيرة، ومعلومة من الدين بالضرورة، ومنها: الخمر، والمخدرات، وبيع الأفلام الجنسية، والصور العارية، ونحو ذلك مما يُشيع الفواحش، ويفسد الأخلاق، ولا شك أن الله  -عز وجل-وضع هذه الأحكام لمصلحة الإنسان بصرف النظر عن لونه، وجنسه، ومعتقده.

لهذا لا يجوز للمسلم بيع ما حرم الله لغير المسلم، وذلك لمناطه بمحل التحريم ذاته، أي: أن ما حرم الله في دين الإسلام محرم على المسلم وغيره، وما أبيح من شيء في ملة غير المسلم يحرم على المسلم التعامل معه فيه إذا كان ذلك الشيء محرمًا في الإسلام.

والله -تعالى-أعلم.

 

([1]) كتاب الخراج ص415.