ومفاد المسألة قول السائل: إنه اشترى خضارًا مستوردًا، وبعد طبخه لاحظ فيه تغير طعمه على غير المعهود في مثله، فكره أكله، وقد سأل عن ذلك بعض معارفه، فأفادوه أن هذا الخضار يُسْقى بمياه نجسة، وأن ذلك هو السبب في تغير طعمه، ويسأل عن جواز أكل ما يسقى من الخضار وغيره بهذه المياه؟.

حكم أكل الأطعمة إذا كانت تسقى بمياه نجسة

والجواب على هذا: أن الإسلام حَرَصَ على درء كل ما يضر الإنسان في جسده أو نفسه، كما حرص على طهارة كل ما يستعمله أكلًا، وشربًا، ولبسًا، وتنقيته من الشوائب والأدران والأوساخ، فأمر الله نبيه بتطهير ثيابه في قوله -تعالى-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر}([1])، وبيّن أنه يحب المتطهرين، فقال -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}([2]).

ونهى الإسلام عن النجاسات؛ لما فيها من الأدران والإضرار بالنفس والجسد، ومن ذلك: أكل الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}([3])، ولم يكن تحريم لحم الخنزير إلا لعلة، هي أكله للقاذورات مما هو معروف في طبيعة هذا الحيوان، ولم يكن تحريم “الجلالة”([4]) إلا لكونها تأكل القاذورات، ومن هذه الكليات تتفرع الجزئيات، فكل ما كان فيه ضرر حرُم أكله أيًّا كانت صفته أو نوعه.

ومسألة الطهارة والنجاسة من المسائل الفقهية الكبرى التي تعدد الاجتهاد الفقهي فيها تيسيرًا للأمة، واستعدادًا لما يواجهها من المستجدات في مختلف العصور والأزمنة.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن أو نحوهما فإنها لا تزول إلا بالغسل، سواء كانت رطبة أو يابسة، أو سائلة، أو لها جرم.

وعند محمد صاحب الإمام أبي حنيفة: إذا تشرب المحل بالنجس، ولا يحتمل العصر لا يطهر أبدًا.

وعند أبي يوسف: ينقع في الماء ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، فيكون معظم النجاسة قد زال، فجعل القليل عفوًا للضرورة، لا أن يطهر المحل حقيقة.

وفي المذهب: إذا أصابت النجاسة الأرض، فجفت، وذهب أثرها، تجوز الصلاة عليها. وعند الإمام زفر: لا تجوز فيها الصلاة. وفي قول آخر في المذهب: هناك طريقان:

أحدهما -وهو قول لأبي يوسف-: أن الأرض لم تطهر حقيقة، ولكن زال معظم النجاسة عنها، وبقي شيء قليل، فيعفى عنه للضرورة.

الطريق الثاني -وهو قول لمحمد-: أن الأرض طهرت حقيقة؛ لأن من طبعها أنها تحيل الأشياء، وتغيرها إلى طبعها، فصارت ترابًا بمرور الزمن، ولم يبق نجس، ومن ذلك العذرة إذا أحرقت بالنار، وصارت رمادًا، وطين البالوعة إذا جف، وذهب أثره، والنجاسة إذا دفنت في الأرض، وذهب أثرها بمرور الزمان([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: يعد من الطاهر الزرع المسقي بنجس، أو ما نبت من بذور نجس، وظاهره نجس، فيغسل قبل أكله، أي: أن الزرع إذا سُقي بماء نجس لا تنجس ذاته، وإن كان ظاهره نجسًا، ويدخل في ذلك البقل والكرات ونحوهما من النباتات. وفي قول لابن نافع: لا يسقى البقل بالماء النجس إلا أن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس..، وعلى أي حال فإنه “لا بد من غسل ظاهر ما وصلت إليه النجاسة من أصول الزرع إلا أن يسقى بعد ذلك بماء طاهر يبلغ إلى ما بلغ إليه النجس والمنجس”([6]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يعد الزرع النابت على نجاسة طاهر العين، ويطهر ظاهره بالغسل، وإذا سنبل فحبه طاهر بلا غسل، ومثله القثاء، وأغصان الشجر المسقي بماء نجس، وثمارها، ولكن نجس العين لا يطهر بغسل، ولا باستحالة، ومن ذلك: الكلب لو احترق، فصار رمادًا([7]).

وفي مذهب الإمام أحمد ورد في المغنى: “أن ظاهر المذهب أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلًّا، وما عداه لا يطهر، كالنجاسات إذا احترقت، فصارت رمادًا، والخنزير إذا وقع في الملاحة، وصار ملحًا، والدخان المترقي من وقود النجاسة، والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل، ثم قطر، فهو نجس..”([8]).

وعند الإمام ابن حزم: أن العذرة أو الميتة إذا أحرقت، أو تغيرت، فصارت رمادًا أو ترابًا، فذلك طاهر…؛ وذلك أن الأحكام على ما حكم الله -تعالى- بها مما يقع عليه ذلك الاسم الذي خاطبنا الله -عز وجل-، فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط الحكم، وأنه غير الذي حكم الله -تعالى- فيه”([9])، وبمثل ذلك قال الشوكاني([10]).

ومن هذه الأقوال التي نقلناها باختصار من مصادرها يتضح تباين أراء الفقهاء فيما يعتبر طاهرًا، وما لا يعتبر، فمنهم من شدّد في مسألة الطهارة، فمثلًا يرى أن الأرض إذا تعرضت للنجاسة، ثم جفّت، وذهب أثرها، طهُرت، ومن ثم تجوز الصلاة فيها، ومنهم من رأى أنها تظل نجسة، فلا تجوز فيها الصلاة، ومنهم من رأى أنها لا تطهر حقيقة، ولكن زال معظم النجاسة عنها، فيعفى عن القليل للضرورة، ومنهم من رأى أنها تحيل الأشياء، وتغيرها إلى طبعها بمرور الزمن.

ولعل ما ورد في المذهب الحنبلي من أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة هو الأصوب، فالأصل الشرعي الذي لا خلاف فيه أن الإسلام حرّم كل ما فيه ضرر للإنسان من طعام أو شراب أو غيرهما، سواءٌ كان هذا الضرر حالًّا أم آجلًا، والمعيار في ذلك ثبوت هذا الضرر وفقًا للطبيعة التي يكون عليها الطعام أو الشراب، فجفاف الأرض من النجاسة ليس بالضرورة كافيًا للحكم بخلوها من الجراثيم المتولدة من النجاسة، وسقي الأرض الملوثة بماء طاهر قد لا يكون كافيًا للحكم على أن هذا التلوث قد زال منها، وطبخ الخضار المنتج من أرض ملوثة بالنجاسة قد لا يكون كافيًا للحكم على أن هذا الخضار سليم في ذاته، وصالح لاستعمال الآدمي، وغسل ثمار الشجر النابت في أرض ملوثة قد لا يكون -أيضًا- كافيًا لهذا الاستعمال، وهكذا.

والمرجع في ذلك معرفة واقع الأرض، وطبيعة ما نبت فيها من زرع وشجر، وسلامته من الجراثيم، وهذا لا يتأتى إلا بالتحليل العلمي، خاصة في هذا الوقت الذي فسدتْ فيه بيئة الإنسان بفعل التلوث الذي تتعرض له، وما يتولد عنه من جراثيم، كما هو الحال في انتشار وباء الكبد والسرطان ونحو ذلك.

وتغير طعم الأطعمة التي تسقى بمياه نجسة ولونها وارد كما ذكر في السؤال؛ لأن طبيعة هذه المياه قد تغيّرت عن الحال التي كانت عليها أصلًا، ومن طبيعة هذا التغير: فسادها في ذاتها، وليس بالضرورة أن يكون لهذه المياه طعم، ولون، ورائحة، فقد تبدو عادية، غير أنها تشتمل في ذاتها -كما ذكر- على فساد ينتج عنه ضرر لمن يستعملها ومن هنا حرص الإسلام على طهارة المسلم في مطعمه ومشربه وملبسه، ومختلف شؤونه دفعًا لما ينتج عن النجاسة من أضرار.

وينبني على ذلك أنه لا يجوز أكل الأطعمة من خضار، وفواكه، ونحوها إذا كانت تسقى بمياه نجسة.

وخلاصة المسألة: أن الإسلام حرص على درء كل ما يضر الإنسان في جسده، كما حرص على طهارة كل ما يستعمله أكلًا وشربًا ولبسًا، وتنقيته من الشوائب والأوساخ والأدران، ولهذا أمر بالطهارة، وحرم النجاسة.

وقد تباينت أراء الفقهاء فيما يعتبر طاهرًا، وما لا يعتبر طاهرًا، فمنهم من شدّد في مسألة الطهارة، فرأى أن الأرض إذا تعرضت للنجاسة، ثم جفّتْ، وذهب أثرها، طهرت، ومن ثم تجوز الصلاة فيها.

ومنهم من رأى أنها تظل نجسة، فلا تجوز فيها الصلاة.

ومنهم من رأى أنها لا تطهر حقيقة، ولكن معظم النجاسة يزول عنها، فيعفى عن القليل للضرورة.

ولعل أحسن الأراء ذلك الذي يقول: إنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة، إلا ما ورد فيه الاستثناء؛ وذلك أن جفاف الأرض من النجاسة، أو سقيها بماء طاهر ليس كافيًا للحكم بسلامتها من النجاسة، وما يتولد عنها من أمراض، والمرجع في ذلك التحليل العلمي، وعلى هذا لا يجوز أكل الأطعمة من خضار وفواكه ونحوها إذا كانت تسقى بمياه نجسة؛ لما في ذلك من الضرر بالنفس التي أمر الإسلام بالحفاظ عليها. والله أعلم.

 

([1]) سورة المدثر الآية 4.

([2]) سورة البقرة من الآية 222.

([3]) سورة الأنعام من الآية 145.

([4]) الجلَّالة: هي البهيمة التي تأكل العذرة. انظر: المصباح المنير للفيومي، ج1 ص106، وقال ابن الأثير: “الجلالة من الحيوان: التي تأكل العذرة، والجِلّة: البعر، فوُضِع موضع العذِرة”، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ج1 ص288، صححه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن الدارقطني، (٤٧٥٣)..

([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني، ج1 ص84-85، وانظر: حاشية رد المحتار للإمام ابن عابدين، ج1 ص203-204.

([6]) شرح منح الجليل للشيخ عليش، ج1 ص48-49، وانظر: مواهب الجليل للحطاب وبهامشه التاج والإكليل للمواق، ج1 ص97-98.

([7]) مغني المحتاج للشربيني الخطيب على متن المنهاج للنووي، ج1 ص81-82، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج1 ص101، 247-248.

([8]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج1 ص60.

([9]) المحلى بالآثار، لابن حزم، ج1 ص136.

([10]) انظر: السيل الجرار للشوكاني، ج1 ص52-53.