وكذلك هل يجوز وصف مثل هذه الحالات بأنها تشوهاتٌ “خَلْقِيّة أو عيوبٌ خَلْقِيَّة” كما هو شائع؟.
وكذلك ما حكم مثل هذه الحالات في الوجهين التاليين:
– إذا كان العضو يؤدي الوظيفة المعروفة التي خُلق من أجلها تمامًا، وكانت الإزالة والتجميل إنما قصد بهما فقط الوصول للشكل المعتاد، ولغرض الزينة مثلًا؟.
– إذا كان العضو لا يؤدي الوظيفة المعتادة بالصورة المعروفة فهل يعد التدخل الجراحي بالتجميل والإزالة تغييرًا في خلق الله، وتدخلًا في شؤونه الخَلْقِيَّةِ؟، ألا يعد هذا التدخل إزالة لآية من آيات الله؟.
هكذا ورد السؤال.
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: تحريم تغيير خلق الله:
من حيث الأصل يحرم تغيير ما خلقه الله من إنسان، وحيوان وغيرهما؛ لأنه -تعالى-أعلم بخلقه، وأحكم في علمه، وأعظم في تصرفه، وقد خلق الإنسان في أجمل صورة إحسانًا له، وتكريمًا له، فقال -عز وجل-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}([1]) أي: أنه -جل وعلا- صوَّر هذا التصوير، فجاء في أحسن حال للإنسـان من بعض مخلوقـات الله الأخرى كالحيوان والطيـر والجماد، وقـال -عز وجل-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}([2])، وهذا -أيضًا- تصوير وتكريم بالمعنى السابق.
ولما كان الله أعلم بما خلق، وأحكم فيما صنع، فان التغيير في هذا الخلق يعد عبثًا وتعديًا على حدود الخالق، سواء كان هذا التعدي على إنسان أو حيوان أو طير أو غير ذلك، فما من خلق خلقه الله إلا وله حكمة ومنفعة مقدَّرة، فقد خلق الله الإنسان لعبادته، وخلق الحيوان والكثير من المخلوقات لمنفعة الإنسان، فقال -تعالى-: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون}([3]).
والحكم واحد في تحريم تغيير خلق الله، سواء كان من جنس الإنسان أو الحيوان أو الطير.
والجرأة على تغيير خلق الله لا تكون إلا ممن اتبع الشيطان في ضلاله، واستجاب لغوايته، فقد حكى الله عنه في قوله -تعالى-: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}([4]) أي: سوف أضلهم بضلالي، وأغويهم بغوايتي، وهم هنا من تنكب عن طاعة الله، فارتكب معصيته، فأصبح بذلك من أتباع الشيطان، فجاز عليه ضلاله وغوايته، ثم قال: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}([5]) والتَّبْتِيكُ هنا: تعذيب الحيوان، سواء بتبتيك آذانه (قطعها)، أو بأي فعل آخر يؤدي إلى تغيير خلق الله فيه، وقد جاء في الحديث القدسي: «وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا»([6]).
والذين يقصدون تغيير خلق الله يفعلون ذلك إما لانحراف في عقيدتهم، وإما لقصد الزينة المحضة، وإما لقصد الخداع والتدليس.
فانحراف العقيدة يتخذ عدة صور، فالذين يعبدون النار غيروا خلق الله حين جعلوها في غير ما أراده الله منها، والذين يعبدون الحيوان غيروا خلق الله حين صرفوا منفعته في غير ما أراد الله، والذين اتخذوا من الحجارة أوثانًا وأصنامًا تعبد غيروا خلق الله([7])، فجعلوا ما أراده منفعة لهم في غير هذه المنفعة، ناهيك بجحودهم لربوبية الخالق وألوهيته.
ومن هذه الصورة: ما كان يفعله أهل الجاهلية من تعذيب الحيوان بقطع أذنيه، أو طمس عينيه، أو خصائه لمجرد العبث.
ومن هذه الصور: ما يفعله اليوم بعض الشواذ من الرجال من التحول إلى الانوثة، وكذلك العكس بالنسبة للنساء المترجلات من تحولهنَّ إلى الذكورة.
ومن هذه الصور: عمليات التجميل الكبرى والصغرى التي يقصد منها تغيير معالم الوجه؛ لإخفاء معالم جريمة ارتكبها صاحبها -مثلًا-، فهذه الأفعال وأمثالها تعد تغييرًا لخلق الله، ويُعد فاعلها مرتكبًا لإثم كبير؛ لكونه قد اتخذ الشيطان وليًّا من دون الله، فخسر بذلك خسرانًا مبينًا.
ومن تغيير خلق الله: ما يقصد به الزينة المحضة، ويدخل في ذلك توصيل الشعر، وتوشيم اليدين أو الذراعين، وتنميص شعر الوجه (خلعه)، وتفليج الأسنان؛ لتكون على غير الصورة التي خلقها الله.
وقد دل على تحريم ذلك قول رسول الله -ﷺ-: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله)([8]).
ومن تغيير خلق الله: ما يقصد به التدليس، ومن ذلك: توصيل الشعر؛ لما يدل عليه من الخداع، وما يترتب على ذلك من النزاع في الحالات التي يتم فيها التعامل، أو تعقد فيها العقود بالتدليس، فقد روت أسماء بنت أبي بكر أن امرأة جاءت إلى رسول الله -ﷺ-، فقالت: يا رسول الله! إن لي ابنة عُرَيِّسًا، أصابتها الحصبة، فتمزق شعرها، أفأصله؟، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «لعن الله الواصلة والمستوصلة»([9]).
ويدخل تحت هذا المعنى كل فعل الهدف منه التدليس والخداع (كالباروكة) و(شد الوجه)، ونحو ذلك مما يدل على تغيير الحقيقة في الشيء، وتزيينه بما ليس فيه؛ مما يجعله عرضة للنزاع والشقاق بين أصحاب العلاقة.
ثانيًا: ما لا يعد من تغيير خلق الله:
توجد أفعال لا تقع في دائرة الانحراف في العقيدة، أو قصد مضاهاة الخالق، والتعدي على حدوده، وهذه ينبغي النظر إليها أو الحكم عليها من خلال النية والقصد، أو مقتضيات الضرورة وأحكامها.
النية والقصد:
الأصل أن النية لا تبرر ترك فعل مأمور به، أو ارتكاب فعل منهي عنه، فليس لتارك الصلاة مثلًا عذر في تركها، مع أنه لا ينوي أو يقصد تركها، وليس لتارك الزكاة عذر في تركها، وإن كان لم يقصد تركها، وهكذا في بقية الأركان والأصول، ولكن النية قد ترفع الإثم عندما تنتفي العلة في الأمر المنهي عنه، فخصاء البهائم لمجرد العبث فعل محرم، فإن كان لقصد المنفعة كتسمين الحيوان فقد رخص فيه طائفة من العلماء، وفي المقابل يحرم خصاء الآدمي؛ لمخالفته لحكمة الله في الخلق والنسل، ووسم الحيوان تمييزًا له عن غيره فعل مباح، وقد كان رسول الله -ﷺ- يسم إبل الصدقة، ورغم ما في الوسم من مس الحيوان بالنار إلا أن تعذيبه لم يكن مقصودًا، وقد دعت الحاجة إلى وسمه؛ ليعرف كل ذي حق حقه، وتغيير الشيب بغير السواد مباح، مع أن فيه تغييرًا للون الشعر الذي خلقه الله، والعلة في التغيير ليس القصد منها تغييرًا لخلق الله، أو مضاهاته، وإنما لقصد التجميل والتزيين، وهذا مما أمر الله به في اللباس في قوله -تعالى-: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}([10]).
وقد أمر رسول الله -ﷺ- أن يغير شعر عبد الله بن أبي قحافة (والد أبي بكر)، لَمَّا رأى لحيته قد ابيضت بياضًا قد تنفر منه الطباع، فقال: (غيروه، وجنّبوه السواد)([11]).
وينبني على هذا عدد من الأحكام:
منها: لو (شدت) المرأة وجهها للتزين لزوجها كان فعلها مباحًا، وذلك على عكس ما إذا كان الشد لقصد التدليس والخداع؛ للظهور بمظهر المرأة الشابة أمام من يخطبها.
ومن هذه الأحكام: وصل الشعر بغير جنسه، كما لو وصلت المرأة شعرها بخيوط من حرير أو نحوه، أو وضعت باروكة مع علم زوجها بذلك، فلا بأس؛ لأن الفعل هنا ليس بقصد التدليس والخداع، أو تغيير خلق الله، وإنما لقصد التزين للزوج، و«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» كما قال ذلك رسول الله -ﷺ([12]).
مقتضيات الضرورة:
ليس كل تصرف في جزء أو أجزاء من الجسم يُعد تغييرًا لخلق الله، بل ثمة أشياء تقضي السنة بإزالتها منه، كما هو الحال في خصال الفطرة، كقص الشعر، والأظافر والختان للولد، وهناك -أيضًا- أشياء أخرى قد تقضي الضرورة فعلها إما لقصد العلاج، وإما لإزالة جزء يسبب ألمًا نفسيًّا لصاحبه.
ومن العلاج: ما تعرض له الفقهاء من جواز حلق جميع شعر المرأة ما عدا شعرَ رأسِها، وتعويض الأنف الساقط بأنف من ذهب أو فضة، وربط السن المتساقطة أو الساقطة بخيط من ذهب أو فضة، ورد السن الساقطة بشريط من ذهب أو فضة، أو رد بدلها سنًّا من حيوان مذكى([13]).
وقد انبنى على هذا عدد من الأحكام المعاصرة، كجواز نقل القرنية والكلية والكبد وغير ذلك مما فيه مصلحة للحي.
وينبني على هذا جواز زرع الشعر، سواء من آدمي أو من حيوان، وقطع الثآليل، وإزالة اللحمة العالقة في الوجه إذا كانت تسبب لصاحبها ألمًا جسديًّا أو نفسيًّا، كما ينبني عليه إزالة الأورام من أي موضع في الجسم، وقطع الإصبع الزائدة إذا كانت تعيق حركة اليد أو الرجل، أو كانت تسبب لصاحبها ألمًا نفسيًّا، وتعديل الأذن الملتصقة مع الخد، وخيط الشفاه المشقوقة، أو تعديلها بأي صفة طبية، ولا يعد هذا تغييرًا لخلق الله؛ لأنه من باب العلاج والتداوي الذي أباحه الله، وأمر به رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في قوله: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام»([14]).
وخلاصة ما سبق: تحريم تغيير خلق الله؛ لأنه أعلم بخلقه، وأحكم في علمه، وأعظم في تصرفه، والذين يقصدون تغيير خلق الله يفعلون ذلك إما لانحراف في عقيدتهم كمن يتخذ من الحجارة أصنامًا، أو لقصد الزينة المحضة كتوشيم اليدين بحبس الدم فيهما، وإمّا لقصد التدليس والخداع كتوصيل الشعر من جنسه؛ لكي تظهر المرأة بغير مظهرها الحقيقي في السن أو الشكل.
وسواء كان التغيير في الانسان أو في الحيوان كتعذيبه أو التمثيل به بأي صفة لمجرد العبث والتعدي.
ولا يُعد من تغيير خلق الله ما كان القصد منه عدم تغيير خلق الله، أو مضاهاته في خلقه.
ومن ذلك: خصاء الحيوان بقصد تسمينه، أو وسمه بعلامة يميز بها عن غيره.
ومن ذلك: تغيير لون الشعر من الأبيض إلى لون آخر غير السواد، ووصل الشعر من غير جنسه، ولا يعد من تغيير خلق الله ما تقتضيه الضرورة للعلاج كزرع الأسنان والشعر، وقطع الثآليل، وإزالة اللحمة الزائدة في الوجه، وازالة الأورام، وتعديل الأذن الملتصقة مع الخد، وخيط الشفاه المشقوقة أو تعديلها، وقطع الإصبع الزائدة إذا كانت تعيق حركة اليد أو الرجل، أو كانت تسبب لصاحبها ألمًا نفسيًّا، وما عدا ذلك فلا. والله أعلم.
([1]) سورة التغابن من الآية 3.
([4]) سورة النساء من الآية 118.
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، صحيح مسلم بشرح النووي، ج17، ص197-198.
([7]) وبهذا قال طائفة من العلماء بأن المراد بالتغيير لخلق الله هو أنه -تعالى- جعل الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات ليُعتبر ويُنتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة. (انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج5-6، ص394).
([8]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب اللباس والزينة، باب المتنمصات، صحيح البخاري، ج7 ص63، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج41 ص105-106.
([9])متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب اللباس والزينة، باب الموصولة، صحيح البخاري، ج7 ص63، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج41 ص103.
([10]) سورة الأعراف من الآية 31.
([11]) أخرجه مسلم (٢١٠٢)، أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج3، ص 322.
([12])أخرجه الإمام البخاري في كتاب بدء الوحي، برقم (1)، فتح الباري، ج1 ص15، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، ج1 ص25، وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، برقم (2201)، سنن أبي داود، ج2 ص262.
([13]) انظر في مذهب الإمام مالك: شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ عليش ج1، ص58، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج1، ص63، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ج2، ص342، ونهاية المحتاج على شرح المنهاج للرملي ج3، ص91-92، والمغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة ج1، ص77، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج1، ص391-392، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج5، ص388-395، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني ج10، ص 384-393.
([14]) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم (3874)، سنن أبي داود، ج4، ص7، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٦٩٠)..