والجواب عن هذا ينبغي التمهيد له بخلاصة عن حكم الإسلام في الاختلاف، ثم نتعرض بإيجاز إلى مسألة الخلاف بين الأئمة.
الأصل الذي لا جدال فيه ولا مراء أن شريعة الإسلام شريعة واحدة، جاءت من عند الله تأمر في كل أصولها وفروعها بالوحدة، وتنهى عن الاختلاف والفرقة، والأصل والمرجع في ذلك الكتاب والسنة.
أما الكتاب: ففيه أحكام كثيرة، منها قول الله -تعالى-: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقوله -تعالى-: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقوله -تعالى-: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقوله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد} [البقرة:176].
أما السنة فالأحاديث في هذا المعنى كثيرة، منها ما رواه العرباض بن سارية أن رسول الله -ﷺ- صلى بهم ذات يوم، ثم أقبل بوجهه، فوعظ موعظة بليغة أحسَّ أصحابه أنها موعظة مودع، فقام أحدهم، فقال: يا رسول الله! ماذا تعهد فينا؟، فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة..الحديث»([1])، ومنها ما رواه أبو هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتُوا منه ما استطعتم»([2])، ومنها ما رواه عبد الله بن عمر أن عمر -رضي الله عنه- خطب في الجابية، فقال: قام فينا رسول الله -ﷺ- خطيبا، فقال: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن»([3]).
هذه الآيات والأحاديث غيض من فيض، وقليل من كثير، فالأصل إذًا في الشريعة الإسلامية الأمر بالوحدة ولزوم الجماعة، ووحدة الأمة، والنهي والتحذير من الفرقة، ولم يكن هذا في جانب من جوانب الشريعة فحسب، بل هو أساس تقوم عليه الشريعة كلها، سواء ما يتعلق منها بالعبادات، أو بالماديات، ألم تروا أن الصلاة لا تكمل إلا إذا كانت صفوف المصلين متراصة ومستقيمة؟، فقد جعل الله الخشوع من صفات المؤمنين في صلاتهم، فقال -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} [المؤمنون: 1، 2]، وأمر رسول الله -عليه الصلاة والسلام- بتسوية الصفوف بقوله: «سووا صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم»([4]).
ألم تروا أن حياة الأمة لا تقوم ولا تستقر إلا إذا انقاد أفرادها لحاكم يحكمها، ويقوم على تسيير أمورها، وتنظيم حياتها، ولهذا أمر الله بطاعة ولي الأمر ومن في حكمه في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، ألم تروا أن الإيمان لا يتحقق لأحد إلا إذا كان سليم القلب، نقي السريرة، يحب لغيره ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، أليس ذلك أساسًا من أسس الوحدة بين أفراد الأمة، ينفي عنها أسباب الفرقة، ويؤكد بينها روابط المحبة؟، ذلك هو قول رسول الله -ﷺ-: «لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([5]).
أما السؤال عن اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم فلا بد من معرفة حقيقتين:
الحقيقة الأولي: الأحكام التي ثبتت ثبوتًا قطعيًّا بنص القرآن أو السنة:
فهذه لا مجال البتة للاجتهاد فيها، ومن ذلك: ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام الخمسة، وتحريم الربا، وتحريم نكاح المحارم، وتحريم القتل بغير حق، وسائر أنواع الفواحش، وغير ذلك من الأوامر والنواهي الواردة بالأدلة القطعية.
الحقيقة الثانية: الأحكام القابلة للاجتهاد:
وهذه مما وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، ولكن مما لا شك فيه أن أحدًا منهم لم يكن ليخالف رسول الله -ﷺ- في قول أو فعل أو تقرير ثبت عنه، وفي هذا قال الإمام ابن تيمية: “ولْيُعْلَمْ أنه ليس لأحد من الأئمة -المقبولين عند الأمة قبولًا عامًّا- يتعمد مخالفة رسول الله -ﷺ- في شيء من سنته دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول -ﷺ-، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -ﷺ-، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد أن يكون له من عذر في تركه”([6]).
وقد بين -رحمه الله – أن هذه الأعذار ثلاثة:
الأول: عدم اعتقاده أن النبي -ﷺ- قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: عدم اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وقد فرع هذه الأعذار إلى عشرة أسباب:
الأول: ألا يكون الحديث قد بلغه.
والثاني: أن يكون الحديث قد بلغه، لكنه لم يثبت عنده.
والثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره.
والرابع: اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطًا يخالفه فيها غيره.
والخامس: أن يكون الحديث قد بلغه، وثبت عنده، ولكنه نسيه.
السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث.
السابع: اعتقاده أنْ لا دلالة في الحديث.
الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مراده.
السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارَضٌ بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلًا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضًا بالاتفاق، مثل آية أو حديث آخر، أو مثل إجماع.
السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارضًا، أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا([7]).
هذه هي الأسباب لاختلاف الفقهاء في الفروع -كما ذكرها الإمام ابن تيمية-، وقد دلت الآثار على جواز هذا الاختلاف، منها: ما حدث في غزوة بني قريظة، فقد قال رسول الله -ﷺ- لأصحابه المجاهدين يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فلما أدركت بعضَهم الصلاةُ في الطريق صلى، بينما قال البعض الآخر: لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فلما ذكر ذلك للنبي -ﷺ- فما عنف واحدًا من الفريقين([8]).
ومن هذه الآثار ما روي أن رسول الله -ﷺ- قال: «مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة)([9]).
هذه هي أسباب الخلاف، وأدلة جوازه، ذكرناها بإيجاز، ولعل قائلًا يقول: وما فائدة هذا الاختلاف؟.
نعم! لهذا الاختلاف في الفروع فوائد متعددة، تتمثل في التيسير والرحمة والسعة ورفع الحرج عن الأمة، وفي ذلك قال الخليفة عمر بن عبد العزيز: “ما سرني لو أن أصحاب محمد -ﷺ- لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة”([10]).
ولقد أبى الإمام مالك أن تكون مؤلفاته مرجعًا وحيدًا في الفقه والحديث، فقد قال له الخليفة هارون الرشيد: “يا أبا عبد الله! نكتب هذه الكتب (مؤلفات الإمام مالك)، ونفرقها في آفاق الإسلام؛ لنحمل عليها الأمة؟، فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين! إن اختلاف العلماء رحمة من الله -تعالى- على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكل يريد الله -تعالى-“([11]).
كما روي عن القاسم بن محمد قوله: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله -ﷺ- في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله([12]).
ويرى ابن عابدين أن الاختلاف بين المجتهدين -لا مطلق الاختلاف- من آثار الرحمة، فإن اختلافهم توسعة للناس. وقال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر([13]).
لقد فهم الأئمة أن اختلافهم في الفروع ليس مجرد تعصب لرأي، أو اتباع لهوى أو رغبة في التفرد بطريقة.
فالإمام أبو حنيفة -كما قال عنه أصحابه- أبعد الناس عن القول بالرأي في دين الله -عز وجل-، وكان لا يضع مسألة في العلم حتى يجمع أصحابه عليها، ويعقد عليها مجلسًا، فإن اتفق أصحابه كلهم على موافقتها للشريعة الإسلامية قال لأبي يوسف أو غيره: ضعها في الباب الفلاني، وصح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي([14]).
والإمام مالك أبى أن يكون مُوَطَّؤُهُ مرجعًا للناس، ولم يكن ذلك ورعًا وتقوى فحسب، بل أراد أن يجعل للأمة عددًا من المصادر التي تيسر عليها دينها ومعاملاتها([15]).
والإمام الشافعي قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -ﷺ- فقولوا بسنة رسول الله -ﷺ-، ودعوا قولي([16]).
والإمام أحمد بن حنبل ذلك العالم الورع التقي الذي عانى وقاسى في سبيل الدفاع عن السنة، لم يرد أن يكون له مذهب، بل كان يقتفي أثر من كان قبله، ويبحث عن السنة الصحيحة في مظانها من الآثار المروية عن رسول الله -ﷺ-.
كان كل واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام يحترم من سبقه، ويقتفي أثره، ويستفيد من علمه وفقهه، وجاء بعد هؤلاء بعض من الأتباع جهلوا طرائق متبوعيهم، فلم يقتفوا آثارهم في التسامح والمحبة، بل جعلوا من المذاهب فرقة، سرعان ما تحولت إلى تعصب كل منهم لمذهبه، حتى سأل بعضهم عما إذا كان يحق للمنتمي إلى هذا المذهب أن يتزوج من امرأة تتبع مذهبًا آخر([17]).
فلهذا جمدت العقول، وركدت المواهب، فتوقف الاجتهاد، وانسدت منافذ العلم والفقه، فصار التقليد علمًا، والاجتهاد جهلًا، فظهرت على إثر ذلك فرق كثيرة تقول بغير علم، وتحرف الكلم عن مواضعه وما زالت هذه الفرق تتابع، وآخر ما سمعناه أن إحداها صارت تحرم المباحات، وتحلل المحرمات، ومن ذلك: إباحتها للزنا إذا كانت المزنيُّ بها غير مسلمة، وتعطيلها للجهاد، والعبث بالسنة، وتحريف أحكام الله.
وخلاصة المسألة: أن الأصل الذي لا جدال فيه ولا مراء هو أن شريعة الإسلام شريعة واحدة، جاءت من عند الله، تأمر في أصولها وفروعها بالوحدة، وتنهى عن الاختلاف والفرقة، والأصل في ذلك كتاب الله الكريم وسنة رسوله المصطفى-عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
أما عن اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم فلا بد من معرفة حقيقتين:
الحقيقة الأولى: الأحكام التي ثبتت ثبوتًا قطعيًّا بنص القرآن والسنة، فهذه لا مجال البتة للاجتهاد فيها، ومن ذلك: ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام الخمسة، وتحريم الربا، وتحريم نكاح المحارم، وتحريم القتل، وسائر أنواع الفواحش.
الحقيقة الثانية: الأحكام القابلة للاجتهاد: وهذه مما وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، ولكن لم يكن أحد منهم يخالف رسول الله -ﷺ- في قول أو فعل أو تقرير ثبت عنه، ولهذا الاختلاف فوائد متعددة، تتمثل في التيسير والرحمة والسعة، ورفع الحرج عن الأمة.
ولقد فهم الأئمة الأعلام أن اختلافهم في الفروع ليس مجرد تعصب لرأي، أو رغبة في التفرد بطريقة، فكان هدفهم البحث عن الحقيقة، وكان كل واحد منهم يحترم من سبقه، ويقتفي أثره، ويستفيد من علمه. والله أعلم.
([1]) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب لزوم السنة، برقم (4607)، سنن أبي داود، ج4 ص200-201، وأخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676)، سنن الترمذي، ج5 ص43، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٦٧٦).
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه-ﷺ-، صحيح مسلم بشرح النووي، ج15 ص109-110.
([3]) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، برقم (2165)، سنن الترمذي، ج4 ص404، والجابية من أعمال دمشق. ومعنى بحبوحة الجنة: أوسطها وأوسعها وأرجحها، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٢٧٨٠)..
([4]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 994، سنن ابن ماجة، ج1 ص318، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٨٢٠).
([5]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، صحيح البخاري، ج1 ص9، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من خصال الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص16-17.
([6]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج20 ص232.
([7]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ص232-249.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب صلاة الطالب والمطلوب، صحيح البخاري، ج1 ص227، ومختصر صحيح مسلم للمنذري، 353.
([9]) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس، ج1 ص66، قال العجلوني: “أخرجه الطبراني والديلمي، وفيه ضعف”.
([10]) كشف الخفاء ومزيل الإلباس، ج1 ص66، والموافقات للشاطبي، ج4 ص125.
([11]) كشف الخفاء، ج1 ص67-68، وانظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين، ج1 ص68.
([12]) الموافقات للشاطبي، ج4 ص125.
([13]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج1 ص68.
([14]) حاشية رد المحتار، ج1 ص67.
([15]) انظر: موطأ الإمام مالك، رواية محمد بن الحسن الشيباني، ص13.