ومفاد المسألة سؤال يقول: كان أحد القضاة ينظر في دعوى متخاصمين في سجل قديم سبق أن نظر فيه أحد القضاة قبله، وأصدر فيه حكمًا دونه في وثيقة مختومة، وقد تقدم أحد الخصمين بهذه الوثيقة؛ ليؤيد بها حقه اعتقادًا منه أن القضية قد حسمت بهذه الوثيقة، وبعد انتهاء المرافعة بين المتخاصمين أصدر القاضي حكمًا تعرض فيه لحكم القاضي، وأبطله.

حكم ما إذا كان يجوز للقاضي أن يتعرض بالمراجعة أو النقض لقضاء من سبقه

والسؤال هو عما إذا كان يحق لهذا القاضي أن يتعرض لقضاء من سبقه.

هكذا ورد السؤال، والجواب سيكون عن ظاهره كما ورد بنصه، أما إذا كان في القضية مداخلات أخرى فمحلها القضاء.

أما الفقه فالأصل فيه بقاء أحكام القضاء على ما هي عليه، ما لم يكن فيها مخالفة لشريعة الله، وعامة الفقهاء على ذلك:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا رفع إلى القاضي حكم حاكم قبله أمضاه، إلا إذا كان في هذا الحكم مخالفة لكتاب الله في تحليل ما حرمه، أو تحريم ما أحله؛ مما هو معروف من الدين بالضرورة، أو كان فيه مخالفة للسنة النبوية مثل قول رسول الله -ﷺ-: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»، أو كان في هذا الحكم مخالفة للإجماع، كما لو اتفق أهل الإجماع على حكم، فخالفهم فيه، مثل إجازة بيع الدرهم بالدرهمين أو نحو ذلك، وفيما عدا ذلك يجب تنفيذ الحكم([1]).

وفي مذهب الإمام مالك: ليس للقاضي أن ينقض قضاء غيره إذا كان عدلًا عالمًا، ولا يتعقب أحكامه إلا إذا خالف نصًّا قاطعًا، فإنه ينقض ما خالف فيه القاطع من أحكام([2]). وقال المتيطي من أصحاب المذهب: أحكام القضاة عند الإمام مالك وجميع أصحابه على ثلاثة أوجه: عدل عالم، وعدل مقلد، وعدل جاهل عرف منه أنه لا يشاور العلماء، فللقاضي أن يتصفح أحكامه، فما وجده منها موافقًا للحق، أو مخالفًا لما عليه الناس في بلده، إلا أنه وافق قول قائل من أهل العلم، فإن القاضي ينفذه، وما لم يصادف قول قائل، وكان خطًا نقضه([3]).

وعند ابن رشد: أن القاضي العدل العالم لا تتصفح أحكامه، ولا ينظر فيها إلا على وجه التحرير لها إن احتيج للنظر فيها لعارض خصومة، أو اختلاف في حد، لا على الكشف والتعقب لها إن سأل ذلك المحكوم عليه، فتنفذ كلها إلا أن يظهر في شيء منها عند النظر فيه على الوجه الجائز أنه خطأ ظاهر، لم يختلف فيه، فينقض ذلك([4]).

وفي مسائل ابن رشد: أن القاضي إذا بلغه أن قاضيًا قضى في أمر لم يكن له أن ينظر فيه، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كان القاضي الذي قضى في ذلك الأمر عدلًا. وأشار إلى ما وقع من الخصومة بين علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله في ضفير بين ضيعتيهما كان عليٌّ يحب أن يثبت، وطلحة يحب أن يزال، فوكل عليٌّ عبدَ الله بن جعفر، فتنازعا في الخصومة في ذلك بين يدي عثمان، فخرج -رضي الله عنه-، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، والناس معه على الضفير، فقال: يا هؤلاء! أخبرونا أكان هذا أيام عمر؟، فقالوا: نعم!، قال: فدعوه كما كان أيام عمر، لا أنظر في أمر قد قضى فيه عمر. ورجع([5]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: ليس للقاضي أن يتعقب حكم من كان قبله، فإن تظلم محكوم عليه قبله نظر فيما تظلم فيه، فإن وجده قضى عليه بما يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس فهذا خطأ يرده عليه، لا يسعه غيره، وإن لم يكن خلاف واحد مما ذكر، أو كان يراه باطلًا بان قياسًا عنده أرجح منه، وهو يحتمل القياس لم يرده؛ لأنه إذا احتمل المعنيين معًا فليس يرده من خطأ بين إلى صواب بين، كما يرده في خلاف الكتاب أو السنة أو الإجماع من خطأ بين إلى صواب بين([6]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ليس للقاضي أن ينقض حكم غيره إذا رفع فيه، إلا ما خالف نصًا من كتاب أو سنة أو إجماع؛ لأنه أصبح بذلك قضاء لم يصادف شرطه، فوجب نقضه([7]).

قلت: الأصل في الإسلام ألا يحكم القاضي إلا وفق القواعد من كتاب الله، وسنة رسوله -ﷺ-، وإجماع الأمة، أو ما يقتضيه اجتهاده المبني على هذه القواعد؛ وذلك عملًا بقول الله -عز وجل-: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقوله -عز وجل-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [المائدة: 49]، وعملًا بما ورد في سنة رسول الله -ﷺ- من قواعد تبين أسس القضاء وأحكامه، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: «البينة على المدعي، واليمين على المُدعى عليه»([8])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضيَ له على نحو ما أسمع منه..الحديث»([9]).

وإلى جانب هذا من الحكم وفق كتاب الله وسنة رسوله، على الحاكم الالتزام بما أجمعت عليه الأمة؛ عملًا بما ورد عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ»([10])، وعملًا بما كتبه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى شريح: “أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله -ﷺ-، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -ﷺ- فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فيما قضى به الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر..”([11]).

وإذا حكم الحاكم وفق هذه القواعد بما هداه إليه اجتهاده فليس لحاكم بعده أن يتعرض لحكمه، فإن فعل ذلك فقد ارتكب خطأ كبيرًا يجب رده عنه، ليس لأنه خالف حكمًا بُنِي على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة فحسب، بل لأنه ارتكب إثمًا كبيرًا بتجاوزه وخطئه في حق نفسه بتعديه على حكم غيره، ناهيك أن التعرض للأحكام السابقة لن ينتهي عند حد؛ لأن كل حاكم سيرى أن اجتهاده أفضل من اجتهاد غيره، فعندئذ يستمر التنازع، ولا تنفك الخصومات، ومن ثم تصبح الأحكام عرضة للتبديل والتعديل، وهذا مما يتعارض قطعًا مع شريعة الله.

وينبني على هذا أنه إذا كانت الوثيقة المشار إليها في المسألة صادرة من قاض مخول من ولي الأمر، وقد استوفت شروطها من ختم وتاريخ ونحو ذلك مما هو معروف في قواعد القضاء، فليس لأي حاكم أن يتعرض لها بالمراجعة أو النقض، بل عليه تنفيذها إحقاقًا للحق، وإنهاءً للخصومة.

وخلاصة المسألة: أن الأصل في الإسلام ألا يحكم القاضي إلا وفق القواعد من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، أو ما يقتضيه اجتهاده المبني على هذه القواعد، وبعد هذا ليس لقاض بعده أن يتعرض لحكمه، فإن فعل ذلك فقد ارتكب خطأ كبيرًا يجب رده عنه، ليس لأنه خالف حكمًا بني على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة فحسب، بل لأنه قد ارتكب إثمًا كبيرًا بتجاوزه وخطئه في حق نفسه بتعديه على حكم غيره، ناهيك أن التعرض للأحكام السابقة لن ينتهي عند حد؛ لأن كل حاكم (قاض) سيرى أن اجتهاده أفضل من اجتهاد غيره، وعندئذ يستمر التنازع، ولا تنفك الخصومات، وتصبح الأحكام عرضة للتبديل والتعديل، وهذا مما يتعارض قطعًا مع شريعة الله.

فإذا كانت الوثيقة المشار إليها في المسألة صادرة من قاض مخول من ولي الأمر، وقد استوفت شروطها من ختم وتاريخ ونحو ذلك مما هو معروف في قواعد القضاء، فليس لأي حاكم أن يتعرض لها، بل عليه تنفيذها إحقاقًا للحق، وإنهاءً للخصومات. والله أعلم، وهو أحكم الحاكمين.

 

([1]) فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني ج7 ص300-303، وانظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار ج3 ص192-193، والحديث أخرجه البخاري (٤٥٥٢)، ومسلم (١٧١١).

([2]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج3 ص114.

([3]) شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل لعليش ج8 ص338.

([4]) شرح منح الجليل ج8 ص339، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ج6 ص135-136.

([5]) البيان والتحصيل ج9 ص167-168.

([6]) الأم للأمام الشافعي ج6 ص204، وانظر: الحاوي الكبير للماوردي ج20 ص241-244، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج4 ص396-397، والمجموع شرح المهذب للنووي ج20 ص166-167.

([7]) المغني والشرح الكبير للإمامين ابني قدامة ج11 ص403-406، والفروع لابن مفلح ج6 ص456-457، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج7 ص259-262، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج11 ص315-319، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية ج30 ص70.

([8]) أخرجه البخاري (٤٥٥٢)، ومسلم (١٧١١)، أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، برقم (134)، ج3 ص626، وأخرجه الخطيب التبريزي في المشكاة في كتاب الإمارة والقضاء، باب الأقضية والشهادات، برقم (3769)، ج2 ص1112.

([9]) ومفاد الحديث كما هو عند البخاري عن أم سلمة-رضي الله عنها-أن رسول الله -ﷺ- قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضيَ نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، صحيح البخاري، ج8 ص112، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، برقم (5)، وصحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم ج6 ص228.

([10]) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، سنن أبي داود، ج4 ص200-201، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم (42)، سنن ابن ماجة، ج1 ص5-16، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، ج4 ص126، صحح إسناده الألباني في تخريج كتاب السنة، (٥٤).

([11]) أخرجه النسائي في كتاب آداب القضاء، باب الحكم باتفاق أهل العلم، ج8 ص230، قال الألباني في صحيح النسائي، (٥٤١٤): إسناده صحيح موقوفا.