والجواب: أن الأصل في الشرع الإسلامي حرمة المسلم في عرضه، فمن تعدى على أخيه المسلم بقذف، أو شتم، أو نحو ذلك مما يشينه فقد ظلمه، واستحق الجزاء على ظلمه، وقد جرى الحديث في مسائل سابقة عما يجب على المسلم من صيانة لسانه عن الأذى، سواء كان ذلك في صفة قذف، أو غيبة، أو نميمة، أو تجسس، أو ما أشبه ذلك مما يؤذي المسلم، ولا يستثنى من الجزاء إلا من تعرض لظلم، فأرأد أن يدفع الظلم عن نفسه؛ استدلالا بقول الله -تعالى-: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148].
كما لايستثنى من الجزاء في حال القذف إلا إذا أثبت القاذف ما نسبه إلى المقذوف.
والأصل في تحريم القذف الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور:4]، ومع أن هذا التحريم جاء بلفظ المحصنات من النساء -أي: العفيفات- فهو يشمل العفيفين من الرجال، ويقتضي هذا الحكم ثلاث عقوبات للقاذف في حال براءة المقذوف مما نسب إليه:
العقوبة الأولى: مادية، هي الجلد ثمانين جلدة.
العقوبة الثانية: معنوية، وهي عدم قبول شهادته، فتنتفي عنه صفة العدالة بين الناس في الدنيا.
العقوبة الثالثة: دينية، هي وصفه بالفسق، وهذا يستحق عليه الجزاء في الآخرة، ولا تسقط عنه هذه العقوبات إلا في حال التوبة مما فعله؛ استدلالا بقول الله -تعالى-: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [النور:5].
وأما السنة: فقد حد رسول الله -ﷺ- الرجل والمرأة بعد نزول براءة عائشة -رضي الله عنها-([1]).
إذا علم هذا فهل يجوز لصاحب الحق العفو عن القاذف؟، وإذا عفا عنه أو أبرأه هل تسقط عنه العقوبة أو لا؟.
لا خلاف في أن للمقذوف أن يسقط حقه، لكن سقوط العقوبة محل خلاف بين الفقهاء:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن العفو والصفح والاعتياض لا يحتمل بعد ثبوت الحجة؛ لأن حد القذف حق لله -تعالى- خالص، لا حق للعبد فيه، فلا يملك إسقاطه، والحجة في ذلك “أن سائر الحدود إنما كانت حقوق الله تبارك و-تعالى- على الخلوص؛ لأنها وجبت لمصالح العامة، وهي دفع فساد يرجع إليهم، ويقع حصول الصيانة لهم، فحد الزنا وجب لصيانة الأبضاع عن التعرض، وحد السرقة وقطع الطريق وجب لصيانة الأموال والأنفس عن القاصدين، وحد الشرب وجب لصيانة الأنفس والأموال والأبضاع في الحقيقة بواسطة صيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكر، وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة، ومنفعة جزائها تعود إلى العامة؛ كان الجزاء الواجب بها حقَّ الله -عز شأنه- على الخلوص؛ تأكيدا للنفع والدفع، كي لا يسقط بإسقاط العبد، وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا المعنى موجود في حد القذف؛ لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد تحصل للعامة بإقامة هذا الحد، فكان حق الله -عز شأنه- على الخلوص كسائر الحدود، إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف، وهذا لاينفي كونه حقا لله -عز شأنه- على الخلوص كحد السرقة أنه خالص حق الله -عز شأنه-، وإن كانت الدعوى من المسروق منه شرطا”([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: للمقذوف العفو عن قاذفه قبل بلوغ الإمام القذف، وله -أيضا- العفو عنه بعد بلوغ الإمام القذف إذا كان -أي المقذوف- يريد الستر على نفسه، أما إن كان العفو شفقة على قاذفه، أو جَبْرَ خاطرِ مَنْ شفع عنده؛ فلا يجوز العفو بعد بلوغ الإمام؛ استدلالا بأن رسول الله -ﷺ- لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد في عدم قطع يد المخزومية بعد رفعها له، وقوله -عليه الصلاة والسلام- لأسامة: «أتشفع في حد من حدود الله»([3])، واستدلالا بما ورد أن رجلا سرق بردة آخر وهو متوسد لها في المسجد، فلما أمر بقطع يد السارق جاء صاحب البردة، فقال: قد عفوت عنه يا رسول الله!، فقال: «فهلا قبل أن تأتيني به»([4]).
والستر مثل: أن يخشى ثبوت ما نسبه القاذف إليه، أو سبق إقامة الحد عليه قديما، فيخشى أن يظهر ذلك عليه الآن، ولا خلاف في المذهب في جواز عفو الابن عن أبيه بعد بلوغ الإمام([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن عقوبة القذف من حد أو تعزير تعد حقا للمقذوف، يستوفى إذا طالب به، ويسقط إذا عفا عنه؛ بدليل ما روي أن رسول الله -ﷺ- قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟، كان يقول: تصدقت بعرضي»([6])، والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما يجب للمقذوف لا يُستوفى إلا بمطالبته، فكان له العفو كالقصاص.
ومن مات ممن له الحق في الحد أو التعزير انتقل ذلك إلى الوارث، وإن جن من له هذا الحق لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه، فيؤخر إلى الإفاقة([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد روايتان:
الأولى: أن حد القذف حق للآدمي، وهذا هو المذهب.
والرواية الثانية: أن حد القذف حق لله -تعالى-.
فعلى الرواية الأولى يسقط الحد بعفو المقذوف بعد طلب القاذف، وعلى الرواية الثانية لايسقط الحد([8]).
وفي مذهب الإمام ابن حزم: لا يجوز للمقذوف العفو عن قاذفه.
واستدل أبو محمد بما روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: لما نزل عذري قام النبي -ﷺ- على المنبر، فأمر بالمرأة والرجلين، فضربوا حدهم([9])، وعلى هذا فإنه -عليه الصلاة والسلام- أقام حد القذف، ولم يشاور عائشة، ولو كان لها حق ما عطله -عليه الصلاة والسلام-، وهو أرحم الناس وأكثرهم حضا على العفو فيما يجوز فيه العفو.
كما استدل أبو محمد على أن الحد من حقوق الله -تعالى- بأن الأمة مجمعة على تسمية الجلد المأمور به في القذف حدا، ولم يأت نص ولا إجماع بأن لإنسان حكما في إسقاط حد من حدود الله، فصح أنه لا مدخل للعفو فيه([10]).
وينبني على ما سبق أن حد القذف في مذهب الإمام أبي حنيفة حق لله -تعالى-، ولكن تشترط فيه الدعوى من المقذوف، وهو كذلك في مذهب الإمام مالك- حق لله -تعالى-، يجوز فيه العفو قبل بلوغ الإمام. ويرى الإمامان: الشافعي وأحمد أنه حق للآدمي، يسقط بعفوه، أما الإمام ابن حزم فيرى أن القذف حق لله -تعالى-؛ لأنه حد لا يصح العفو فيه.
قلت: ولعل الصواب ما ورد في مذاهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وابن حزم، وفي الرواية الثانية في مذهب الإمام أحمد من أن حد القذف حق لله -تعالى-، وإن تباينت آراؤهم فيما إذا كان يجوز العفو فيه قبل أن يبلغ الإمام.
ولعل الصواب -أيضا-: أن يكون القذف حقا للمقذوف، فأما كونه حقا لله -تعالى- فإن شريعته حفظت للمسلم حقه في دينه، وفي نفسه، وعرضه، وماله، وجعلت هذا الحق من الضرورات التي يجب الحفاظ عليها، وهذا الحق يقتضي تحريم التعدي عليه، فأصبح مناطا بحق الله، وحقوق الله -تعالى- لا تسقط إلا بما أوجبه لسقوطها.
وقد أوجب إقامة الحد على من تعدى على حق غيره، ولو لم تقم الحدود التي شرعها الله لفسدت علاقات الناس بعضهم ببعض، وعم الفساد في الأرض، وأصبح الناس في ضيق من أمرهم وأحوالهم، فما كان القصاص إلا لردع القاتل عن القتل، ولولا ردعه لاستمر في تعديه على الأنفس، وما كان حد الخمر إلا لصيانة العقول من الفساد، وهكذا فإن حد القذف شرع ليكون رادعا للقاذف من التعرض لأعراض الناس وإيذائهم في سمعتهم وكرامتهم، ولعظم هذا الجرم بين الله عقوبة القاذف في كتابه الكريم، فجعلها ثلاث عقوبات لجريمة واحدة حين أوجب جلده ثمانين جلدة، ورد شهادته، ووصفه بالفسق.
وأما كون القذف حقا للمقذوف يجوز له العفو فيه فلأنه يتعلق بالتعدي عليه في سمعته، وقد يكون من مصلحته العفو عن قاذفه، وذلك من ثلاثة وجوه:
أولها: أن يكون ما نسب إليه صحيحا، فيسكت عن قاذفه، وفي السكوت خير له؛ لأن ذلك من باب الستر على نفسه المأمور به شرعا.
الوجه الثاني: ألا يكون ما نسب إليه صحيحا، ومع ذلك لا يرغب في إقامة الحد على قاذفه؛ لأن معرفة الناس بما نسب إليه -ولو كان كذبا- قد يسيء إليه، فهم جمع غير محدد، وما يبلغ بعضهم عن براءته قد لا يبلغ البعض الآخر.
الوجه الثالث: أن حق العفو مشروط بعدم معرفة ولي الأمر بجرم القذف، فأما إن علم به فلا يجوز العفو أو الشفاعة فيه؛ لأنه يصبح حينئذ من حقوق الله التي لا تسقط إلا بما أوجبه من سقوطها، وقد ذكر من قبل أن رسول الله -ﷺ- نفى شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية رغم مكانته منه -عليه الصلاة والسلام-، وقال: «أتشفع في حد من حدود الله»؟، كما ذكر من قبل أن رسول الله -ﷺ- أقام حد القذف بعد نزول براءة عائشة -رضي الله عنها-، ولم يشاورها فيه كما ذكره الإمام ابن حزم، وقد أثر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: لا عفو في الحدود عن شيء منها بعد أن يبلغ الإمام، وإن إقامتها من السنة([11]).
وخلاصة المسألة: أن حد القذف حق لله -تعالى-؛ لأن شريعته حفظت للمسلم حقه في دينه ونفسه وعرضه وماله، وجعلت هذا الحق من الضرورات التي يجب المحافظة عليها، وهذا الحق يقتضي بالضرورة تحريم التعدي عليه، فأصبح منوطا بحق الله -تعالى-، وحقوق الله -تعالى- لا تسقط إلا بما أوجبه لسقوطها، وقد شرع الله حد القذف ليكون رادعا للقاذف من التعرض لأعراض الناس، وإيذائهم في سمعتهم وكرامتهم، ولعظم هذا الجرم بين الله -تعالى- عقوبة القاذف في كتابه الكريم، فجعلها ثلاثا لجريمة واحدة، حين أوجب جلده ثمانين جلدة، ونفى شهادته، ووصفه بالفسق.
كما أن حد القذف حق للمقذوف، يجوز له العفو فيه، وقد يكون من مصلحته العفو عن قاذفه إذا كان ما نسب إليه صحيحا، ويريد الستر على نفسه، أو كان ما نسب إليه غير صحيح، ولكنه لا يرغب في إقامة الحد، ولو كان بريئا؛ لأن براءته قد لا تبلغ كل الناس.
وعلى أي حال فإن حق المقذوف في العفو مشروط بعدم معرفة ولي الأمر بجرم القذف، فأما إن علم فلا يجوز العفو ولا الشفاعة فيه؛ لأنه يصبح حينئذ من حقوق الله -تعالى-. والله أعلم.
([1]) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في حد القذف، برقم (4474)، سنن أبي داود، ج4 ص162، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النور، برقم (3181)، سنن الترمذي، ج5 ص314، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب حد القذف، برقم (2567)، سنن ابن ماجة، ج2 ص857، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، (٩/٢٣٥): رجاله رجال الصحيح.
([2]) بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص55-56، وانظر: فتح القدير لابن الهمام ج5 ص327، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4 ص52-53، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي ج4 ص95-96.
([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب كرهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، صحيح البخاري، ج8 ص16، وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب النهي عن الشفاعة في الحدود، صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص186.
([4]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، برقم (1522)، الموطأ رواية الليثي ص600، وأخرجه النسائي في كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا، وما لا يكون، سنن النسائي ج8 ص69، صححه الألباني في صحيح النسائي، (٤٨٩٩).
([5]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج9 ص289-290، وانظر: مواهب الجليل للحطاب مع التاج والإكليل للمواق ج6 ص305، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي على الشرح الصغير للدردير ج2 ص427، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة لابن شاس ج3 ص322-323.
([6]) أخرجه البزار (٦٨٩٢)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٨٠٨٢) وقال ابن حجر العسقلاني في نتائج الأفكار، (٢/٤١٧): غريب.
([7]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج2 ص274-275، وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي ج20 ص62، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7 ص437، وشرح حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج للهيثمي ج9 ص120.
([8]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج10 ص200-201، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج6، ص309، والمغني مع الشرح الكبيرلابن قدامة ج10 ص204-205، ومطالب أولي النهى للرحيباني ج1 ص195، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6 ص105، وكتاب الفروع لابن مفلح ج6 ص93.
([9]) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في حد القذف، برقم (4474)، سنن أبي داود، ج4 ص162، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النور، برقم (3181)، سنن الترمذي، ج5 ص314، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب حد القذف، برقم (2567)، سنن ابن ماجة، ج2 ص857، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، (٩/٢٣٥): رجاله رجال الصحيح.
([10]) الإيصال في المحلى بالآثار ج12 ص256.
([11]) المصنف لعبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ج7 ص442.