والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: ما يباح من الهدايا.
والثاني: ما يحرم منها.
المباح من الهدايا: الإهداء في اللغة بمعنى التكريم للمهدى له، وأهديت للرجل كذا: بعثت به إليه إكراما، فهو هدية، وأهديت الهدي إلى الحرم: سقته، وتهادى القوم: أهدى بعضهم إلى بعض([1])، والهدية بمعنى الهبة.
أما في الاصطلاح فهي تمليك المال بلا عوض([2]).
والتهادي أو تبادل الهدايا معروف عند سائر الشعوب؛ لكونه يرمز إلى نوع من أنواع الصداقة، والمحبة، وحسن العلاقة بين المهدي والمهدى له، وهو مستحب في دين الإسلام، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4].
وقد أمر الله في هذه الآية بإعطاء النساء مهورهن، خلافا لما كان عليه العمل في الجاهلية من حرمان الزوج لزوجته صداقها إذا كانت من عشيرته، وإعطائها القليل([3]) إذا كانت من غير عشيرته. ثم بين -سبحانه وتعالى- أن من حق المرأة أن تهب من صداقها ما تشاء لزوجها إذا كان ذلك بطيب نفس منها، ودون إكراه منه، وللزوج أن يقبل ذلك، والتعبير بالأكل في الآية الكريمة مجاز؛ للدلالة على الإباحة.
ومن القرآن قول الله -تعالى- عن دعاء نبيه زكريا أن يهب الله له ذرية يرثون منه العلم: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6]، ومن القرآن: قول الله -تعالى- فيما يهبه لخلقه من الذكور والإناث: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُور} [الشورى:49].
ومن عموم الآيات قول الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
والهبة من أبواب البر، فكل ما أدى إلى المحبة، وحسن العلاقة بين المسلم؛ يُعد من أبواب البر.
أما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «تهادوا تحابوا»([4])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه»([5]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»([6]).
وتعد الهدية من باب الإكرام للجار والضيف، وقد قبل رسول الله -ﷺ- هدية المقوقس ملك مصر وهو غير مسلم، وقبل هدية النجاشي، وتصرف فيها.
أما الإجماع: فقد انعقد على استحباب التهادي بين الناس وفق الأحكام الشرعية، وقد نحل أبو بكر -رضي الله عنه- ابنته عائشة جذاذ عشرين وسقا من ماله في العالية في المدينة، كما نحلها أرضا من ماله، وقد تهادى الصحابة فيما بينهم، فعلى هذا ليس على التهادي بين الناس من قيوم إلا ما كان يقصد منه غمط حق، أو إخلال بعدل، أو مظنة شبهة أو نحو ذلك، وقد تعرض الفقهاء لهذه القيوم كما سنرى.
الهدايا المحرمة:
عندما يُقْصدُ من الهدية المحبة، وحسن العلاقة، والتآلف بين الناس؛ فلا شك في مشروعيتها، بل استحبابها – كما ذكر-، ولكن عندما يكون القصد منها غمط الحقوق، أو الإخلال بالعدل، أو الاستعانة بها على معصية، فعندئذ تكون محرمة بلا خلاف.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يجوز للقاضي أن يقبل هدية من أحد الخصمين؛ لأن ذلك يؤدي إلى مراعاة المهدي، ويؤدي بالتالي إلى الإخلال بالعدالة، وقبول الهدية التي سببها الولاية يعد حراما؛ استدلالا بأن الرسول -ﷺ- لما علم بأخذ أحد موظفي بيت المال هدية خطب على المنبر قائلا: «فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر: يهدى له أم لا»؟([7]). وكل هدية يأخذها موظف في الحكومة في وظائف الحكومة هي بمثابة الهدية التي يأخذها القاضي.
ويستثنى القاضي ومثله الموظف أن يقبل الهدايا من الشخص الذي قلده القضاء والذي مرتبته فوق مرتبته، وأن يأخذها من أقربائه وذوي الرحم المحرم بشرط ألا تكون له قضية، وله كذلك أن يقبل الهدية من محبه وصديقه الذي اعتاد إهداءه قبل تنصبه قاضيا هديته التي لا تكون زيادة عن المعتاد([8]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز للقاضي قبول هدية من غيره إن لم يكافئه عليها، بل ولو كافأ القاضي من أهدى له عليها بمثلها أو أعظم منها، وذلك لركون النفس لمن أهدى إليها، ولأن قبولها الهدية يطفئ نور الحكمة.
ويستثنى من ذلك قريب القاضي كوالده، وولده، وخاله، وعمه([9])، ويجب أن تكون الهدية بغير عوض، فلو كان العرف يوجب على المهدى له طعاما أن يرد للمهدي طعاما، وكان المهدي ينتظر هذا الرد، وإلا وجد في نفسه على المهدى له، فعندئذٍ ينقلب هذا من الهدايا إلى باب البيوع، فيدخله عندئذٍ مسألة بيع الطعام متفاضلا، وتدخله مسألة الجهالة، كما تدخله مسألة بيع الطعام بالطعام غير يد بيد، وهذا كله لا يجوز([10]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا يجوز للقاضي أن يقبل الهدية وإن قَلَّتْ، فإن أهدى إليه مَنْ له خصومة في الحال عنده، سواءٌ أكان ممن يهدي إليه قبل الولاية أم لا، سواء كان من أهل عمله أم لا، ولم يكن له خصومة، لكنه لم يهد له قبل ولايته القضاء، ثم أهدى إليه بعد القضاء هديةً؛ حرم عليه قبولها. ومفاد ذلك أن الأولى حرمت عليه استدلالا بقول رسول الله -ﷺ-: «هدايا العمال غلول»، وفي لفظ: «هدايا الأمراء غلول»([11])، ولأنها تدعوا إلى الميل إليه، وينكسر بها قلب خصمه، وأما في الثانية فحرمت لأن سببها العمل ظاهرا، ولا يملكها القاضي في الصورتين لو قبلها، ويردها على مالكها، فإن تعذر ذلك فيضعها في بيت المال([12]).
وفي مذهب الإمام أحمد: لا يقبل القاضي الهدية إلا ممن كان يُهدي له قبل ولايته، وبشرط ألا يكون له حكومة، وللأصحاب عدة أقوال، ومنها: لا يقبل الهدية ممن كان يُهدي إليه قبل ولايته إذا أحس أن له حكومة. ومنها: أنه لا يقبل القاضي الهدية إلا من ذي رحم منه، وما هو ببعيد. ومنها: ينبغي ألا يقبل القاضي هدية إلا من صديق كان يلاطفه قبل ولايته، أو ذي رحم محرم منه بعد ألا يكون له خصم([13]).
ويتبين مما سبق أن الفقهاء أفاضوا في تحريم الهدية بالنسبة للقاضي؛ ذلك لأن القضاء هو موقع العدل بين الناس في قضاياهم وخصوماتهم، ومحل اطمئنانهم، ومن المهم في حال كهذه أن يكون القاضي بعيدا عما يسبب الميل والمحاباة بين الخصوم، ويؤدي إلى الخلل في علاقات الناس بعضهم ببعض، ثم يؤدي بالتالي إلى الفساد في الأرض.
قلت: والأمر واحد بالنسبة لكل من يلي أمور الناس، ويكون مسؤولا عن قضاياهم، فالوالي أيا كان مسمى ولايته، والموظف أيا كان مسمى وظيفته يماثلان القاضي فيما يجب عليهما من معاملة الناس بالعدل والسوية، واجتناب ما يسبب الميل والمحاباة، أو يسبب الخلل فيما هما مولَّيَانِ عليه، أو مسؤولان عنه؛ فموظف الجمارك في المطار مثلا إذا أخذ هدية من أحد القادمين من السفر، أو أخذ هدية ممن كان يتردد على السفر كان ذلك مظنة الشبهة بأن هذه الهدية رشوة يُكافئ بها المهدي الموظف عن تقاضيه عما يدخله المهدي من الممنوعات.
والهدية التي يعطيها أصحاب البنايات لمراقب البلدية تكون مظنة الشبهة بالارتضاء لتغاضي المراقب عن إخلال أصحاب البنايات بالأنظمة، والهدية التي يقبلها موظف الأمن ممن لهم سوء سلوك أو نحوه تكون مظنة الشبهة بأن هذه الهدية رشوة عن تغاضي المهدي له عن سلوك المهدي، وهكذا.
فعلى هذا تعد كل هذه الهدايا وما يماثلها محرمة؛ لأنها من باب الغلول، أو من باب الرشوة، وفي هذا قال رسول الله -ﷺ-: «هدايا الأمراء غلول»([14])، وقال: «لعن الله الراشي والمرتشي»([15])، وقال في حق الذي ذهب إلى الصدقة، ثم جاء يقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي. قال: «فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر: يُهدى له أم لا؟، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر»، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه: «اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت»؟ ثلاثا([16]).
وينبني على ما سبق أن الموظف في المسألة إذا كان يأخذ الهدايا من معارفه وأصدقائه وأقاربه على سبيل المحبة والعلاقة والرحم فهذا جائز على شرط ألا يكون لهؤلاء علاقة بما هو مُولى عليه، أما إن كان يأخذها منهم على نحو يؤثر-ولو من بعيد-في ولايته أو وظيفته، أو يخل بما هو مُولى عليه؛ فهذه الهدايا تعد محرمة؛ لأنها من باب الرشوة والغلول.
والخلاصة: أن تبادل الهدايا معروف عند سائر الشعوب؛ لكونه يرمز إلى نوع من أنواع الصداقة، وحسن العلاقة بين المهدي والمهدى له، وهو مباح في دين الإسلام، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
والهدايا على نوعين: الأول مباح، وهو ما يقصد منه تعزيز المحبة، وحسن العلاقة بين الناس الأباعد أو الأقارب، وقد قبل رسول الله -ﷺ- هدية المقوقس وهو غير مسلم، وقبل هدية النجاشي، وتهادى الصحابة والسلف الصالح فيما بينهم.
أما الهدية المحرمة فهي ما يقصد منها غمط الحقوق، أو الإخلال بالعدل، أو الاستعانة بها على معصية، وعلى هذا يحرم على كل من يلي أمور الناس، ويكون مسؤولا عن قضاياهم -سواء كان قاضيا أم واليا أم موظفا أم نحوهم- أن يتقاضى منهم هدايا، أيا كان مسماها، فإن فعل ذلك عد مرتشيا يعاقب دينا وقضاء.
ويستثنى من ذلك أخذ الموظف من المعارف والأصدقاء والأقارب على سبيل المحبة، وحسن العلاقة والرحم، على شرط ألا يكون لهؤلاء علاقة بما هو مُولى عليه ولو من بعيد. والله أعلم.
([1]) المصباح المنير للفيومي، ص631.
([2]) نتائج الأفكار لقاضي زاده على الهداية للمرغيناني، ج9 ص19.
([3]) إذا كانت الزوجة من عشيرة الزوج حملها على جمل إلى بيت زوجها، فأعطاها إياه، وعُدَّ هذا صداقها.
([4]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الهبات، باب التحريض على الهبة والهدية، ج6 ص169، وأخرجه البرهان فوري في كنز العمال، باب الهدية، برقم (15055)، 15056)، ج6 ص110، حسنه الألباني في صحيح الجامع، (٣٠٠٤).
([5]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، صحيح البخاري، ج3 ص128-129.
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، برقم (74)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص246، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، ج4 ص31.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب من لم يقبل الهدية لعلة، برقم (2597)، فتح الباري، ج5 ص260-261.
([8]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الثاني عشر، ص534-537، وانظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج7 ص9-10، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج3 ص392، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5 ص372-374، ونتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده على الهداية للمرغيناني، ج9 ص18-19.
([9]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج8 ص298-299، وانظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج3 ص112.
([10]) انظر في هذا: كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل للمواق، ج6 ص67.
([11]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب لا يقبل منه هدية، ج10 ص138، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ج5 ص249، وقال: «رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وهي ضعيفة»، وأخرجه البرهان فوري في كنز العمال، ج6 ص111، باب في الهدية، برقم (15067).
([12]) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني الخطيب، ج1 ص302، وانظر: بجيرمي على الخطيب، ج4 ص329.
([13]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي، ج11 ص210-211، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج6 ص317.
([14]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب لا يقبل منه هدية، ج1 ص38.
([15]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة، برقم (358)، سنن أبي داود، ج3 ص300، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، برقم (2313)، سنن ابن ماجة، ج2 ص775، صححه الألباني في صحيح الترغيب، (٢٢١١).
([16]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب من لم يقبل الهدية لعلة، برقم (2597)، فتح الباري، ج5 ص260-261، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص220.