ومفاد المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إنه سمع أن بعض الأطباء في بعض البلدان لا يجد حرجًا في إجهاض الأجنة غير الشرعية بحجة أن الفعل محرم أصلًا في جميع الديانات، وأن من الافضل لهذه الأجنة ألا تعيش؛ لما في وجودها من ضرر لها وللأمة التي توجد فيها، ونحو ذلك من العلل والحجج التي أشار السؤال إليها.

حكم الطبيب الذي يمارس عمليات الإجهاض للأجنّة غير الشرعية بحجة

والجواب: أن الأصل في الشرع الإسلامي سلامة النفس البشرية، ووجوب الحفاظ عليها، وتحريم التعدي عليها بأي فعل أو وسيلة، ما لم يكن ثمة سبب شرعي موجب، والأصل في هذا قول الله -تعالى- في كتابه العزيز: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}([1])، فبذلك عَدَلَ الله قتل النفس بقتل البشر جميعًا، وعدل إحياءها بإحيائهم جميعًا.

ولم يكن هذا الحكم مجرد نهي وموعظة فحسب، بل أتبعه الله بعقاب من وجهين:

أحدهما: عقاب في الدنيا بالقصاص حين يكون القاتل قد تعمد القتل، بدليل قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}([2])، وقوله -تعالى-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}([3]).

والوجه الآخر: عقاب في الآخرة بدليل قول الله -تعالى-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}([4])، وبهذا جاء الإسلام أعظم دين للبشرية مؤكدًا على حرمة النفس وعصمتها، وتحريم التعدي عليها دون سبب شرعي موجب، فلم يكن بعد هذا قول لمتقول، أو علة لمتعلل.

ويستوي في هذه الحرمة الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والصحيح والعليل، كما يستوي في هذه الحرمة الجنين من نكاح صحيح والجنين من وطء محرم، ما دامت كينونته قد تحققت بنفخ الروح فيه، ويعرف هذا بعد بلوغه مئة وعشرين يومًا من الحمل؛ استدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه -عز وجل- الملك، فينفخ فيه الروح»([5])، وسنرى أن بعض الفقهاء قد وسع مفهوم الجنين ولو لم يبلغ مئة وعشرين يومًا.

وقد أجمع الفقهاء على تحريم إجهاض الجنين بعد بلوغه هذه المدة، وعَدُّوا الاعتداء عليه جريمة وجناية على نفس مؤمنة، وممن شدد في ذلك أبو محمد الإمام ابن حزم بقوله: “فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها فقتله؟. فمن قولنا: أن القود واجب في ذلك، ولا بد، إلا أن يعفى عنه…، وإنما وجب القود لأنه قتل نفس مؤمنة عمدًا، فهو نفس بنفس، وأهله بين خيرتين: إما القود وإما الدية أو المفاداة، كما حكم رسول الله -ﷺ- فيمن قتل مؤمنًا”([6]).

وكما قيل آنفًا لا فرق في ذلك بين الجنين من نكاح صحيح، أو من وطء حرام؛ لما للجنين من حرمة النفس المؤمنة، ودليل هذا واضح في قصة المرأة التي جاءت إلى رسول الله -ﷺ- مخبرة عن حملها من الزنا، فأمرها -عليه الصلاة والسلام- أن تنتظر حتى تضع، ومن ثم تقوم بإرضاع وليدها، ثم استيداعه([7]).

وهذا واضح -أيضًا- فيما روي أن عمر -رضي الله عنه- هَمَّ بمعاقبة امرأة حامل من الزنا، فقال له علي -رضي الله عنه-: إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك إلى ما في بطنها، فخلى عنها، وقيل: إن معاذ بن جبل قال ذلك، فقال له عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر([8]).

وللفقهاء في هذا المعنى أقوال كثيرة:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يقام حد الرجم على الحامل؛ لما فيه من هلاك الجنين بغير حق؛ لكونه نفسًا محترمةً، لا جريمة منه([9]).

وفي مذهب الإمام مالك: يعد الحمل من الموانع التي تؤخر إقامة الحدود؛ لوجود عارض متعلق بغير من وجب عليه؛ الحد استدلالًا بقول رسول الله -ﷺ- لمن جاءته معترفة بالزنا: «اذهبي حتى تضعي»، ولا ينحصر المنع في الجنين الذي بلغ مئة وعشرين يومًا فحسب، بل يتعدى إلى كل جنين أصبح من المحتمل وجوده، فإذا زنت المرأة منذ أربعين يومًا وجب الانتظار؛ لمعرفة حملها أو عدمه، ولا يستعجل بعقابها؛ لإمكان حملها، وبهذا قال اللخمي من علماء المالكية، وقال الموفق: “لا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان حملها من زنا أو غيره، لا نعلم فيه خلافًا “([10]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا كان القصاص على امرأة حامل فلا يقتص منها حتى تضع حملها؛ استدلالًا بقول الله -تعالى-: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ}([11])، وفي قتل الحامل إسراف في القتل؛ لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل، والمقصود به الجنين([12]).

وفي مذهب الإمام أحمد: لا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان حملها من زنا أو غيره…؛ لأن في إقامة الحد في حال الحمل إتلافًا لمعصوم، ولا سبيل إليه، وسواء كان الحد رجمًا أو غيره؛ “لأنه لا يؤمن من تلف الولد من سراية الضرب والقطع، وربما سرى إلى نفس المضروب والمقطوع، فيفوت الولد بفواته”([13]).

ويتبين لنا من هذه الأقوال المستمدة من كتاب الله في حرمة النفس وعصمتها، ومن فعل رسول الله -ﷺ- أن الجنين من وطء حرام يعد نفسًا مؤمنة معصومة، يحرم التعدي عليها بأي وسيلة، وأن ارتكاب الفعل المحرم من قبل الأم أو الأب لا علاقة له بأمر الجنين، وأن وجوده في بطن أمه يعد مانعًا من إقامة الحد عليها، سواء كان هذا الحد من حقوق الله أو من حقوق الآدميين.

وينبني على هذا أن ما ذكر في المسألة عن قيام بعض الأطباء في بعض البلدان بإجهاض الأجنة غير الشرعية يعد فعلًا محرمًا، وعدوانًا على نفوس مؤمنة، ويترتب على الفاعل من العقاب ما يترتب على من يعتدي على الأنفس التي حرم الله الاعتداء عليها دون حق.

أما العلل التي يتعلل بها الفاعل لإباحة الإجهاض لهذه الأجنة فهي من باب الاستباحة لحرمات الله، ومن العلل الفاسدة التي تحل ما حرم الله.

وخلاصة المسألة: أن الجنين يعد نفسًا مؤمنة، يحرم التعدي عليها، سواء كان هذا الجنين من وطء حلال، أم من وطء حرام.

وقد أجمع أهل العلم على عدم إقامة الحد على الحامل إذا كان حملها من وطء حرام؛ لما في ذلك من إتلاف نفس معصومة.

وينبني على ذلك أن قيام الطبيب بإجهاض الأجنة غير الشرعية يعد فعلًا محرمًا، ويترتب على فعله من العقاب مثل ما يترتب على من يعتدي على الأنفس التي حرم الله الاعتداء عليها، أما العلل التي ورد في المسألة أن الأطباء يتعللون بها لإجهاض الأجنة غير الشرعية فهي من العلل الفاسدة التي تحل ما حرم الله. والله أعلم.

 

([1]) سورة المائدة من الآية 32.

([2]) سورة البقرة من الآية 178.

([3])سورة المائدة من الآية 45.

([4]) سورة النساء الآية 93.

([5]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب قول الله-تعالى-: ﴿وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة﴾، صحيح البخاري، ج4 ص103، وأخرجه مسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص190.

([6]) الإيصال في المحلى بالآثار لابن حزم ج11ص238، وانظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد السابع، السنة الثانية عام 1411هـ.

([7]) أخرجه مسلم بلفظ مختلف في كتاب الحدود، باب حد الزنا، صحيح مسلم بشرح النووي ج11ص202-203.

([8]) مصنف ابن أبي شيبة ج10ص88، كتاب الحدود، باب حتى تضع ثم ترجم، برقم (8860)، قال ابن حزم في المحلى، (١٠/٣١٦): باطل.

([9]) بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص59، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4ص16، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود، ج4 ص87-88.

([10]) المعونة في مذهب عالم أهل المدينة للبغدادي ج3ص1392-1393، وأوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك للكاندهلوي ج13ص212-213، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج9ص265، وشرح الزرقاني للزرقاني علـى حاشية البنانـي ج8 ص84، ومواهب الجليـل لشـرح مختصر خليل للحطاب مـع حاشيـة التـاج والإكليـل ج6 ص296، وحاشيـة الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج4ص322.

([11]) سورة الإسراء من الآية 33.

([12]) المجموع شرح المهذب للنووي ج18ص449-450، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7ص303-304، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج8 ص439، وحاشية الجمل على شرح المنهج للشيخ سليمان الجمل ج5 ص50.

([13]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج10ص138-140، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6ص82، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج6ص164-165.