أولها: الرفض الشديد الذي قد يصاحب هذا النقل.
وثانيها: الخوف الشديد من نقل ميكروبات من الحيوان إلى الإنسان المزروع له العضو.
وثالثها: الناحية الأخلاقية، أو ما يقال في منظور الغرب عن استغلال الحيوان.
وهذه العوائق -كما يقول الأخ الطبيب- ربما تزول في المستقبل، ولهذا يسأل عما إذا كان الفقهاء الأجلاء قد ناقشوا هذه المسألة، وما الحكم الشرعي فيها؟.
والجواب عن هذه المسألة من وجهين: عموم، وخصوص.
أما العموم: فإن قواعد الشريعة في أصولها وفروعها ومقاصدها قد أمرت بحفظ النفس وسلامتها، وجعلت هذا الحفظ من الضرورات الخمس؛ لما اقتضته حكمة الله من بقاء النوع الإنساني إلى ما شاء الله، والأصل في هذا الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فقد نهى الله فيه عباده نهي تحريم عن المجازفة والمخاطرة بأنفسهم في قوله -تعالى-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}([1])، وبيّن لهم المحرم من المأكولات، واستثنى منه ما كان للضرورة لحفظ النفس، وسلامتها في قوله -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}([2])، وبيّن لهم أن قتل النفس بغير حق من أعظم الجرائم وأشد المنكرات، وأنه يساوي قتل الناس جميعًا، وأن إحياءها يساوي إحياءهم جميعًا في قوله -تعالى-:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}([3])، والآيات والشواهد في كتاب الله كثيرة.
أما السنة: فالأحاديث كثيرة، منها قول رسول الله -ﷺ-: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا»([4])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء»([5])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قاتل المؤمن، فلم يجبني»([6])، ومعنى نازلته: راجعته.
وكما يكون حفظ النفس بالطعام والشراب، وعدم التعدي عليها، يكون -أيضًا- بمداواتها من الأمراض، فالمرض عائق لها عن الحركة، بل هو سبيل إلى زوالها، ومشروعيته مترتبة من وجوب حفظها وسلامتها، وقد تداوى رسول الله -ﷺ-، وأمر بالتداوي، وقال: «تداووا عباد الله، فإن الله -سبحانه- لم يضع داءً إلا وضع معه شفاءً، إلا الهرم»([7]).
والأمر بالتداوي أمر عام، لا يستثنى منه إلا ما كان محرمًا في أصله؛ لانتفاء الفائدة منه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «تداووا، ولا تداووا بحرام»([8])، وقوله عن التداوي بالخمر: «إن ذلك ليس بشفاء، ولكنّه داء»([9]).
ومن هذه القواعد الكلية استنبط الفقهاء عددًا من القواعد الفقهية، منها: (أن الضرورات تبيح المحظورات)([10])، فالمحرم شرعًا يباح عند الضرورة كأكل الميتة، ودفع اللقمة بالخمر عند الغصة بها، ونحو ذلك مما يحفظ النفس من الهلاك.
ومن هذه القواعد: (أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة)([11])، ومع أن الحاجة لا تبيح للإنسان تناول المحرم إلا أن ما قد يحصل له من مشقة يجعله في منزلة المضطر، فيباح له تناول المحرم حفظًا لنفسه.
أما الخصوص في المسألة: فهو مدى استفادة الإنسان من نقل أعضاء الحيوان إليه في حال حاجته لهذا النقل نتيجة مرض ونحوه، وقد بيّن الله في كتابه الكريم أن الحيوان خُلق لمنفعة الإنسان، وهذه المنفعة تتنوع حسب جنس الحيوان وطبيعته، فمنه ما خلق لطعامه، ومنه ما خلق لركوبه، وفي هذا قال -تعالى-{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ}([12]).
والمنافع جمع منفعة، وهي اسم عام يقصد به الخير للإنسان، وعلى هذا المعنى فإن استفادة الإنسان من الحيوان لعلاجه مما يدخل في المنفعة التي وهبه الله إياها، وعلى هذا يمكن تقسيم الاستفادة من الحيوان إلى قسمين:
الأول: الحيوان المباح أكله: والاستفادة من هذا مطلقة، فكما يباح للأكل يباح للعلاج؛ لاتحاد السبب والعلة، فيجوز نقل أي عضو منه فيه منفعة للإنسان في علاجه، سواء كان النقل منه حيًّا كأخذ جزء منه في غير تأليم له أو تشويه، أو كان مذبوحًا على أن تراعى في ذلك القواعد الشرعية من حيث تذكيته والرفق به.
والاستفادة المطلقة من الحيوان المأكول لعلاج الإنسان لا تقتصر على عضو من أعضائه، أو على ما يؤكل منه بل تشمل كل ما يمكن الانتفاع به منه للعلاج، ومن ذلك: جلده أو بوله أو روثه.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة يرى صاحبه محمد بن الحسن أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، ويرى أبو يوسف أنه مخفف النجاسة([13]).
وفي مذهب الإمام مالك ورد قول الإمام: “إن أهل العلم لا يرون على من أصابه شيء من أبوال البقر والإبل والغنم؛ لكونها مما تشرب ألبانها، وتؤكل لحومها)([14]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: وبعد أن تحدث الإمام عما يحل بالضرورة قال: “وقد قيل: إن من الضرورة وجهًا ثانيًا: أن يمرض الرجل المرض يقول له أهل العلم به، أو يكون هو من أهل العلم به: قلّما يبرأ من كان به مثل هذا إلا أن يأكل كذا، أو يشرب كذا، أو يقال له: إن أعجل ما يبرئك أكل كذا، أو شرب كذا، فيكون له أكل ذلك وشربه، ما لم يكن خمرًا إذا بلغ ذلك منها أسكرته، أو شيئًا يذهب العقل من المحرمات أو غيرها، فإن إذهاب العقل محرم”، ثم قال الإمام: “ومن قال هذا قال: أمر النبي -ﷺ- الأعراب أن يشربوا ألبان الإبل وأبوالها”([15]).
وفي مذهب الإمام أحمد: لا بأس بوضع سن الغنم مكان سنه إذا سقط، وما أُكل لحمه جاز شرب سؤره والوضوء به، وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه طاهر؛ استدلالًا بقصة العرنيين الذين أمرهم النبي -ﷺ- أن يلحقوا بابل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها([16]).
القسم الثاني: الحيوان الذي لا يباح أكله: وهذا محدد إجمالًا في كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ومنه ما نزل تحريمه نصًّا كالخنزير والميتة وما أُهِلّ به لغير الله.
ومعلوم أن وقائع الحياة ونوازلها لا تنتهي، وأن الطب والأبحاث تتطور، والإنسان يسعى بحكم طبيعته للعلاج من مرض ينزل به، كما يسعى بحكم هذه الطبيعة للبقاء مدة أطول في حياته، وتطور الطب قد يؤدي إلى نقل أعضاء من الحيوان؛ للاستفادة منها في علاج الإنسان من مرض أو أمراض تصيبه، ولكن هذا الحيوان مما قد يكون من المحرم علينا أكله، وحينئذ يثور التساؤل عما إذا كان ذلك جائزًا شرعًا.
ومن المعلوم من الدين أن الله قد حرم لحم الميتة، ولحم الخنزير، كما حرم الدم، وما ذبح لغير الله، وهذا التحريم جاء لمصلحة وحكمة إلهية، الله أعلم بها، ورحمة منه بعباده استثنى من التحريم شيئين:
الأول: ما كان لضرورة تنزل بالإنسان في قوله -تعالى-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}([17])، والحفاظ على النفس من الهلاك يأتي في مقدمة الاضطرار، أو هو الأساس فيه، وهذا يقدر بقدره.
الشيء الثاني: المستثنى من التحريم صيد البحر في قوله -تعالى-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}([18])، كما أحل الحوت والجراد والكبد والطحال عملًا بقول رسول الله -ﷺ-: «أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد»([19]).
وقد تعرض الفقهاء لمسألة الاستفادة من الحيوان غير المباح لنا أكله، وسوف نجتزئ بعضًا منها:
فمن ذلك: ما ورد في مذهب الإمام أبي حنيفة أن لعاب البغل والحمار مشكوك فيه، فلا ينجس به ما كان طاهرًا([20])، وشعر الميتة غير الخنزير وعظمها وعصبها وحافرها وقرنها، وكذا كل ما لا تحله الحياة حتى الإِنْفَحَةُ واللبن طاهر، وهذا استدلالا بقول رسول الله -ﷺ- في شاة ميمونة: «إنما حرم أكلها»، فدل على أن ما عدا اللحم لا يحرم، فدخلت الأجزاء المذكورة.
وعند الإمام أبي حنيفة: أن الكلب ليس بنجس العين-أي: طهارته في ذاته-، فيباع، ويؤجر ويُضْمَنُ، ويتخذ جلده مصلًّى ودلوًا، ورجح بعض أصحاب المذهب النجاسة، ولكن لا خلاف في نجاسة لحمه وطهارة شعره([21]).
وفي مذهب الإمام مالك: أن ما أُبِينَ من حي وميت من ظلف وعظم وظفر وعاج وقصب ريش مرخص فيه، وأن المشهور من المذهب أن جلد الخنزير كغيره ينتفع به بعد دبغه([22]).
وعند الإمام الشافعي: لا نجاسة في شيء من الأحياء مست ماءً قليلًا، بأن شربت منه، أو أدخلت فيه شيئًا من أعضائها، إلا الكلب والخنزير، واستدل الإمام على ذلك بحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -ﷺ- سُئل: أيتوضأ بما أفضلت الحمر؟، فقال: «نعم! وبما أفضلت السباع كلها»، كما استدل على ذلك بما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت أبي قتادة-: أن أبا قتادة دخل، فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة، فشربت منه، قالت: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي! إن رسول الله -ﷺ- قال: «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات»، إلى أن قال الإمام: ففضل كل شيء من الدواب يؤكل لحمه أو لا يؤكل حلال، إلا الكلب والخنزير([23]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا خيط جرح، أو جبر عظم من آدمي بخيط نجس أو عظم نجس، فصح الجرح أوالعظم، لم تجب إزالته مع خوف الضرر على النفس أو العضو، أو حصول المرض؛ لأن حراسة النفس وأطرافها واجب([24]).
وفي المغني تفصيل لمذهب الإمام أحمد فيما هو طاهر وما هو نجس من الحيوانات، فالحيوان ضربان:
ما ليست له نفس سائلة، وهو نوعان: الأول: ما يتولد من الطاهرات، فهذا طاهر حيًّا وميتًا. الثاني: ما يتولد من النجاسات كصراصير الحمام، فهذه نجسة حيةً أو ميتةً؛ لتولدها من النجاسات.
الضرب الثاني: ما له نفس سائلة، ومنه ما تباح ميتته، وهو السمك وسائر حيوان البحر الذي لا يعيش إلا في الماء، فهو طاهر حيًّا وميتًا، ومن هذا: ما لا تباح ميتته كحيوان البر المأكول، وحيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والتمساح وشبههما، فكل ذلك ينجس بالموت”.
وكل بهيمة لا يؤكل لحمها لا يجوز الوضوء منه إلا السنور وما دونها في الخلقة، ثم قال الإمام ابن قدامة: “والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي -ﷺ- كان يركبها، وتركب في زمنه، وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسًا لبين ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولأنهما مما لا يمكن التحرز منه لمقتنيهما، فأشبها السنور، ومثل هذا الفأرة وابن عرس؛ لأنهما من حشرات الأرض”.
وحكم جلد الحيوان، وشعره، وعرقه، ودمعه، ولعابه حكم سؤره في الطهارة والنجاسة، فما كان طاهرًا كان سؤره طاهرًا، وما كان نجسًا كان سؤره نجسًا، والقرن، والظفر، والحافر كالعظم، إن أُخذ من مذكى فهو طاهر، وإن أُخذ من حي فهو نجس.
ولبن الميتة وإنفحتها نجس في ظاهر المذهب، خلافًا لأبي حنيفة وداود اللذين يريان أنها طاهرة([25]).
ومما سبق يتبين أن الفقهاء -رحمهم الله- بحثوا وأفاضوا في طهارة الحيوان ونجاسته، سواء بالنسبة لذاته كلها، أو ما ينفصل عنه من أجزاء حية أو ميتة.
وقد تباينت بعض آرائهم في حل هذا أو حرمة ذاك، ولكل منهم استدلاله ومراعاته لمصلحة الإنسان، وضروراته، فالذين أباحوا أبوال الأبل استدلوا بحديث العُرَنِيِّينَ المتقدمِ ذكرُهُ، والذين لم يبيحوها استدلوا بحديث: «استنزهوا من البول»([26]).
والذين أباحوا جلود الميتة استدلوا بقصة شاة ميمونة -رضي الله عنها- بأنه إنما «يحرم من الميتة أكلها»([27])، والذين لم يبيحوا هذا الانتفاع استدلوا بقول الله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}([28])، والجلد جزء منها.
والذين أباحوا الانتفاع بشعرالخنزير في الخرازة راعوا حاجة الخرازين([29])، والذين يرون طهارة البغل والحمار([30]) استدلوا بركوب النبي -ﷺ- لهاتين الدابتين؛ ولأن ما يفرزانه من عرق ونحوه لا يمكن التحرز منه.
والذين قالوا بطهارة وحل أكل الزنابير والحيات والعقارب استدلوا على ذلك بأنها ليست لها نفس سائلة، فهي مساوية للحوت والجراد الجائز أكله أصلًا([31])، والذين قالوا بعدم جواز أكل هذه الحشرات استدلوا بقول الله -تعالى-: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}([32]).
قلت: وقد دلت هذه الأقوال على طهارة عدد من الحيوانات والحشرات؛ فلهذا يجوز استعمالها في الطب لمنفعة الإنسان حين تنزل به ضرورة أو حاجة تؤدي به إلى المشقة، وتعرض نفسه للخطر، فإذا كان شعر الخنزير مثلًا مما يمكن الانتفاع به في الخرز فإن الانتفاع به في حال المرض أدعى وآكد، وإذا كانت الديدان ونحوها تُعدُّ طاهرة وحلالًا في الأكل -على قول من قال بذلك- فإن الانتفاع بها في حال المرض أدعى وآكد.
أما ما نزل القرآن الكريم أو السنة النبوية بتحريمه نصًّا كالميتة ولحم الخنزير، فإن إباحته في الطب يجب أن تُبنى على الضرورة استدلالًا بقول الله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ}، ولا مراء في أن تعرض النفس للخطر مما يدخل في حكم الضرورة.
والخلاصة: أن الجواب على المسألة من وجهين: عموم وخصوص.
أما العموم: فإن قواعد الشريعة في أصولها وفروعها ومقاصدها قد أمرت بحفظ النفس وسلامتها، وجعلت هذا الحفظ من الضرورات الشرعية الخمس؛ لما اقتضته حكمة الله -عز وجل- من بقاء النوع الإنساني إلى أجله المسمى.
وقد نهى الله عن المجازفة بالنفس، وبين لعباده الأكل المحرم عليهم، واستثنى منه ما كان لحفظ أنفسهم، وكما يكون حفظ النفس بالطعام والشراب يكون -أيضًا- بمداواتها من الأمراض، وقد أمر رسول الله -ﷺ- بالتداوي، وهذا الأمر عام، لا يستثنى منه إلا ما كان محرمًا في أصله لانتفاء فائدته.
أما الخصوص في المسألة: فهو مدى استفادة الإنسان من نقل أعضاء الحيوان إليه في حال حاجته لهذا النقل نتيجة مرضه، وقد بيّن الله في كتابه الكريم أنه خلق الحيوان لمنفعة الإنسان في قوله -تعالى-: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون}([33])، والمنافع جمع منفعة، وهي اسم عام يقصد به الخير للإنسان، وبهذا المعنى فإن استفادة الإنسان من الحيوان للعلاج مما يدخل في المنفعة.
وقد دلت أقوال الفقهاء على طهارة عدد من الحيوانات والحشرات؛ فلهذا يجوز استعمالها في الطب لمنفعة الإنسان حين تنزل به ضرورة أو حاجة تؤدي به إلى المشقة، فإذا كان شعر الخنزير مثلًا مما يمكن الانتفاع به في الخرز-كما يقول بذلك بعض الفقهاء- فإن الانتفاع به في حال المرض أدعى وآكد، وإذا كانت الديدان ونحوها تعد طاهرة وحلالًا في الأكل -على قول من قال بذلك من الفقهاء- فإن الانتفاع بها في حال المرض أدعى وآكد.
أما ما نزل القرآن الكريم أو السنة النبوية بتحريمه نصًّا كالميتة ولحم الخنزير فإن إباحته في الطب يجب أن تبنى على الضرورة؛ استدلالًا بقول الله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}([34]). والله أعلم.
([1]) سورة البقرة من الآية 195.
([2]) سورة الأنعام من الآية 119.
([3]) سورة المائدة من الآية 32.
([4]) أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم، سنن النسائي، ج7، ص82-83، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، المجلد الخامس، ص332، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٦٠٧٧).
([5]) أخرجه البخاري (٦٨٦٤)، ومسلم (١٦٧٨)، أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم، سنن النسائي، ج7، ص83، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج5، ص332.
([6]) أورده ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الديات، باب من قال: ليس لقاتل المؤمن توبة، برقم (7783)، ج9، ص357، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج5، ص332.
([7]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج3، ص496، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء»، برقم (3436)، سنن ابن ماجه، ج2، ص1137، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٧٨٩).
([8]) أخرجه أبو داود في باب الأدوية المكروهة، برقم (3874)، سنن أبي داود ج4، ص7، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٦٩٠).
([9]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب النهي أن يتداوى بالخمر، برقم (3500)، سنن ابن ماجه ج2، ص1157، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٨٣٦).
([10]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، ج10، ص510، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص116، وشرح القواعد الفقهية، ص185.
([11]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، ج1، ص42، وشرح القواعد الفقهية، ص209.
([12]) سورة النحل الآيات: 5: 7.
([13]) ومن قال بطهارته استدل بحديث العُرَنِيِّينَ، ومفاده: أن ناساً من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله-ﷺ-في إبل الصدقة، وقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعي رسول الله-ﷺ-، واستاقوا الإبل، وارتدوا عن الإسلام، فأتى بهم النبي -ﷺ-، فعاقبهم. هذا حديث صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم، قالوا: لا بأس ببول ما يؤكل لحمه. سنن الترمذي، ج1، ص49. وقيل: إنه ناسخ لحديث: «استنزهوا من البول»، انظر في هذا: كشف الحقائق شرح كنز الدقائق للأفغاني ج1، ص33، وفتح القدير لابن الهمام على الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني ج1 ص206-207.
([14]) المدونة الكبرى للإمام مالك رواية الإمام سحنون ج1 ص21.
([15]) الأم للإمام الشافعي ج1، ص253، وانظر قبلها ص252، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج1، ص245-246.
([16]) انظر في هذا: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح ج3، ص64، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة ج1 ص70، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج1، ص253.
([18]) سورة المائدة من الآية 96.
([19]) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، برقم (3218)، قال محمد فؤاد عبد الباقي: “في الزوائد: في إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف”، ج2 ص1073.
([20]) كشف الحقائق شرح كنز الدقائق للأفغاني مع شرح الوقاية ج1، ص33، وانظر: فتح القدير لابن الهمام على الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني ج1، ص208.
([21]) انظر في هذا: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج1، ص206-209، وحديث «إنما حرم أكلها» في سنن الدارقطني، ج1، ص42، أخرجه البخاري (١٤٩٢)، ومسلم (٣٦٣).
([22]) شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ عليش ج1-51، وانظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل ج1، ص29-30.
([23]) الأم للإمام الشافعي ج1، ص6-7، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج1، ص245، والحاوي الكبير للماوردي ج1، ص384-394، والمجموع شرح المهذب للنووي ج1، ص234-246، وحديث جابر في مسند الإمام أحمد، ج5، ص296، والسنن الكبرى للبيهقي، ج1، ص245-246، ومشكاة المصابيح للتبريزي، ج1، ص150، ومسند الإمام الشافعي، ص9، وحديث كبشة في السنن الكبرى للبيهقي، ج1، ص245، ومشكاة المصابيح للتبريزي، ج1، ص150، ومسند الإمام الشافعي، ص10.
([24]) انظر: شرح منتهى الإرادات للبهوتي ج1، ص154-155، والإنصاف للمرداوي ج1، ص488-489.
([25]) المغني لابن قدامة ج1، ص62-73، 92-100، 106-109، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج1، ص136-137، 152-157، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج1، ص247-257، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج1، ص59، 148، 332، 338-339، والروض المربع شرح زاد المستقنع للبهوتي ج1، ص32، 102-105، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج1، ص54-57.
([26]) سنن الدار قطني، ج1، ص128، ضعف إسناده شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند، (١٤/٧٧).
([27]) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، صحيح مسلم بشرح الإمام النووي، ج4، ص51-52.
([28]) سورة المائدة من الآية 3.
([29]) وهو قول الإمام أبي حنيفة ومحمد، انظر: حاشية رد المحتار، ج1، ص206، وروي عن الإمام روايتان: الأولى: أنه كرهه، والرواية الثانية: أنه جوزه، ومما رخص فيه الحسن والإمام مالك والأوزاعي والإمام أبو حنيفة، انظر: المغني ج1، ص109.
([31]) قال بذلك الإمام مالك وداوود الظاهري، انظر: شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل، ج1، ص31.
([32]) سورة الأنعام من الآية 145، انظر: الحاوي الكبير للماوردي ج1، ص390.