والسؤال عما إذا كان من الجائز لهذا العامل أن يستمر في عمله في الشركة رغم ما يعرفه عن سلوكها.
والجواب عن هذه المسألة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: وجوب التعامل بالحلال: الأصل أن المسلم مكلف بالتعامل بالحلال، سواء أكان فيما يتعلق بنفسه، أم فيما يتعلق بتعامله مع غيره، والتكليف يقتضي حكمًا الأداءَ ديانةً وقضاءً، والأصل في ذلك الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فقد أمر الله رسله بالأكل من الطيبات في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، والأمر للرسل أمر لأتباعهم بأكل الحلال، وفي هذه الآية إشارة عظيمة إلى أهمية الحلال؛ حيث بدأ الله به في الذكر قبل العمل، وفي هذا دلالة على أن العمل مع الحرام لا يعد عملًا صالحًا.
وكما أمر الله رسوله بأكل الحلال أمر الناس جميعًا بذلك في قوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} [البقرة: 168].
والأمر بالأكل من الحلال يقتضي النهي عن ضده، فلا يستوي الخبيث مع الطيب، ولا تستوي الحسنة مع السيئة، ولهذا حرم الله أكل المال الحرام في عدة آيات من كتابه الكريم، فقال -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقال -تعالى-في حق أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
أما السنة: فالأحاديث كثيرة نجتزئ منها ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ- قال: (طلب الحلال واجب على كل مسلم)([1])، وقوله-عليه الصلاة والسلام-: (إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب!، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)([2]).
والأمر بالأكل من الحلال أمر عموم، يشمل كل ما يحتاجه الإنسان من مطعم ومشرب وملبس، سواءٌ فيما يتعلق به نفسه، أو من يعول من والد أو ولد أو غيرهما، كما يشمل -كما ذكر آنفًا- النهي عن أكل المال الحرام، سواءٌ كان حرامًا بينًا، أو مختلطًا، أو مشتبهًا فيه؛ لأن من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه.
الوجه الثاني: تحريم الغش: الأصل في الإسلام تحريم الغش بكل صوره؛ لما يقتضيه من التشاحن والتباغض والعداء بين الناس، وقد دلت الوقائع على أن التعامل السليم بين الناس مدعاة للأمن والاطمئنان، وحسن العلاقة بينهم، وأن التعامل بالغش مدعاة لفساد الأحوال، وكثرة الخصومات والشقاق، وسوء العلاقة بينهم.
وللغش صور كثيرة، منها: عدم الوفاء بالكيل والوزن، وبخس الناس أشياءهم، وقد حرم الله ذلك بقوله -تعالى-: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِين * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [الشعراء: 181-183]، وقوله -تعالى-: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} [المطففين: 1-6].
ومن صور الغش: خيانة الأمانة، فمن ائتمن على عمل أو على بيع أو إجارة أو نحو ذلك، فغش فيها -وهو عالم بما يفعل- فقد خان أمانته، وخيانة الأمانة من أعظم المنكرات؛ لأنها خيانة لله، وخيانة لرسوله، وقد بين الله ذلك في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27].
كما بين ذلك رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في قوله: (المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بينه له)([3])، وما رواه أبو هريرة-رضي الله عنه-قال: مر رسول الله -ﷺ-برجل يبيع طعامًا، فأدخل يده فيه، فإذا هو مغشوش، فقال رسول الله -ﷺ-: (ليس منا من غش)([4])، وفي لفظ مسلم: (فليس مني)([5]).
الوجه الثالث: الإجارة المحرمة: من شروط الإجارة: القدرة على استيفاء محلها، فإذا لم تتحقق هذه القدرة تبطل الإجارة، ولهذا البطلان سببان:
السبب الأول: أن يكون استيفاء المحل غير ممكن من الناحية الحسية، وقد مَثَّلَ الفقهاء لذلك ببيع السمك في الماء، ومِثْلُهُ: كل بيع غير مقدور على استيفائه عملًا، ولو كان محل البيع مشروعًا.
السبب الثاني: أن يكون محل الاستيفاء غير مباح أصلًا، كبيع الخمر، والإجارة على فعل المعاصي.
وقد تعرض الفقهاء لهذه المسألة:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب أن يكون العمل المستأجر له مقدور الاستيفاء من العامل نفسه، ولا يحتاج فيه إلى غيره، ويخرج على هذا الاستئجار: على المعاصي أنه لا يصح؛ لأنه استئجار على منفعة غير مقدورة الاستيفاء شرعًا…، كما يخرج عليه تحريم كل إجارة وقعت لمظلمة؛ لأنه استئجار لفعل معصية([6]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز أن يؤجر الرجل نفسه في شيء مما حرم الله، كعمل الخمر، ورعي الخنازير، فهذه الإجارة مما يجب فسخها قبل العمل، فإن فاتت وجب التصدق بالأجرة على المساكين([7]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا تجوز الإجارة على المنافع المحرمة([8]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب أن تكون المنفعة في الإجارة مباحة مطلقًا، بخلاف ما يباح للضرورة أو لحاجة، فلا تجوز الإجارة على المحرمات؛ لأن في ذلك إعانةً على المعصية، وسواء شرط ذلك في العقد أم لا إذا دلت عليه القرائن([9]).
وقد سئل الإمام ابن تيمية عن قوم يعملون عبيا يدخلون فيه صوفًا لا ينتفع به، ويبيعونه على أنه صوف جيد، فأجاب أنه “ليس للصانع أن يصنع ذلك، ولا للبائع أن يبيعه، ولو علم المشتري أن فيه عيبًا، فإن مقدار الغش غير معلوم، وقد روي عن النبي -ﷺ- أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، بخلاف الشرب، فإذا خلط اللبن بالماء للشرب جاز، وأما للبيع فلا…، وهكذا كلما كان من المغشوش الذي لا يعلم قدر غشه فإنه ينهى عن بيعه، وعن عمله لمن يبيعه”([10]).
وينبني على ما سبق تحريم الغش في كل صوره، وما يتفرع عنه من قول أو فعل، ويستوي في ذلك المباشر له بالفعل، أو المُتَّجِرُ فيه بالبيع والشراء، أو المشارك فيه سواءٌ بالعمل في صنعه، أو بالإعلان عنه لترويجه.
وقد يقول قائل بجواز أخذ الأجرة من مصنع أو شركة، أو خلافها ممن يتعاطى الغش؛ لأن ذلك من غير المقدور عليه من عامل أو موظف بسيط، لا يعرف مداخلات التجارة، خاصة في هذا الزمان الذي عمت فيه البلوى باختلاط الحرام بالحلال، ونحو ذلك من العلل المجوزة للعمل في الشركات أو المؤسسات المشوب عملها بالحرام من غش ونحوه.
ويرد على هذا بأن تعاطي الغش في البيع لا يقتصر ضرره على فاعله، أو على فئة قليلة من الناس، وإنما يتعدى ضرره إلى الناس كافة، فيعد إثمًا وعدوانًا، وقد نهى الله عن ذلك في قوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما يعد فسادًا في الأرض، وقد نهى الله عن ذلك في قوله -تعالى-: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: 56].
وقد أكدت السنة ذلك في قول رسول الله -ﷺ-: (من غشنا فليس منا)([11]) أي: ليس من سنتنا، ولا من هدينا، أو على طريقتنا.
ولما كان الغش بهذه الحال من التحريم فإن المشاركة بالعمل فيه يدخل في عموم التحريم، ومن القواعد المعلومة من الدين بالضرورة: أن كل فعل يفضي إلى محرم يعد محرمًا، ولو كان الفعل مباحًا في ذاته، فلو علم بائع التمر أو العنب أو البصل مثلًا أن المشتري سوف يتخذ من المبيع خمرًا حَرُمَ عليه بيعه، ولو علم صاحب مطعم أن المدعوين إلى الطعام الذي باعه سوف يجتمعون فيه على معصية حرم عليه بيعه.
وهكذا يكون عمل العامل في الشركة المشار إليها، إذا علم أنها ترتكب الغش في بضاعتها لم يجز له العمل فيها؛ لأنه سيكون حينئذ شريكًا في الفعل المحرم.
أما إن كان العمل مما يعد في حكم الضرورة، كمن تلجئه الضرورة إلى إعالة نفسه، أو من يعوله دون أن يكون له سبب آخر في الرزق غير ذلك، فهذا جائز، وهذه ضرورة تقدر بقدرها.
وخلاصة المسألة: أن المسلم مكلف بالتعامل بالحلال، سواءٌ فيما يتعلق بنفسه أو فيما يتعلق بتعامله مع غيره، والأمر بهذا أمر عموم، يشمل كل ما يحتاجه الإنسان من مطعم ومشرب وملبس، كما أن المسلم منهي عن ارتكاب الغش؛ لما يفضي إليه من أكل أموال الناس بالباطل، وإشاعة الفساد بينهم، ولما فيه من خيانة الأمانة، وسوء الأحوال، والنهي يقتضي التحريم، فكل ما يتفرع عن الغش من قول أو فعل يعد محرمًا، ويستوي في ذلك المباشر له بالفعل، أو المتجر فيه بالبيع، أو الشراء، أو المشارك فيه بأي صورة.
والإجارة مطلوبة شرعًا، ولكن يجب أن يكون محل استيفائها مشروعًا، فكل إجارة على فعل محرم تعد محرمة، ومن القواعد المعلومة من الدين بالضرورة: أن كل فعل يفضي إلى محرم يعد محرمًا، ولو كان محل الفعل في ذاته مباحًا.
أما إن كانت الإجارة مما يعد في حكم الضرورة، كمن تلجئه الضرورة إلى إعالة نفسه أو من يعول، دون أن يكون له سبب آخر في الرزق غير ذلك، فهذا جائز، وهذه الضرورة تقدر بقدرها، وعلى هذا يعد عمل العامل في الشركة المشار إليها في المسألة غير جائز شرعًا، ما لم يكن واقعًا تحت حكم الضرورة.
والله أعلم.
([1]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، باب طلب الحلال والبحث عنه، ج10 ص291، وقال الهيثمي: “رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن”، وكنز العمال للبرهان فوري، فضائل الكسب الحلال، ج4 ص5، قال المنذري في الترغيب والترهيب، (٣/١٦): إسناده حسن.
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة وأنواعها، وأنها حجاب من النار، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص100، وأخرجه أحمد في المسند، ج2 ص328.
([3]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب “من باع عيبًا فليبينه”، برقم (2246)، سنن ابن ماجة، ج2 ص755، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، ج4 ص158، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٨٣٧).
([4]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب النهي عن الغش، برقم (2224)، سنن ابن ماجة، ج2 ص749، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٤٥٢).
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قوله-ﷺ-: “من غشنا فليس منا”، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص109.
([6]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج4 ص189-190، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج6 ص55، وتكملة شرح فتح القدير لابن الهمام، ج9 ص98، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ج9 ص98، بهامش نتائج الأفكار، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي، ج2 ص60.
([7]) المدونة الكبرى للإمام مالك رواية الإمام سحنون، ج3 ص399، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج7 ص489، ومواهب الجليل للحطاب، ج5 ص419، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج2 ص842، والتاج والإكليل للمواق، ج5 ص418 – 419.
([8]) المجموع للنووي، ج15 ص3، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج5 ص269، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1 ص394، ومغني المحتاج للشربيني، ج2 ص337، وقليوبي وعميرة، ج3 ص70-71.
([9]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3 ص559، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج6 ص134-135، والإنصاف للمرداوي، ج6 ص23-24، والفروع لابن مفلح، ج4 ص427-428، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2 ص357-358.