ومفاد المسألة سؤال يقول: شهد شاهدان في دعوى بين متخاصمين في عقار، وصدر الحكم بناء على شهادتهما، فتفرق الخصمان، وانتهى الأمر بتنفيذ الحكم، غير أن الشاهدين رجعا عن شهادتهما قائلين: إنه لا أساس لما شهدا به، وإنهما يبرآن إلى الله مما فعلا، ويرجوان الله أن يتوب عليهما. والسؤال هو عما إذا كان يحق لهما الرجوع عن شهادتهما، وماذا يترتب عليهما؟.

حكم ما إذا رجع الشاهد عن شهادته وماذا يترتب عليه

والجواب عن هذا من وجهين: وجه عموم، ووجه خصوص.

أما العموم: فإن للشهادة شأنا عظيما؛ لما تؤدي إليه من إنهاء الخصومات، وبيان الحقوق، ونزع الخلاف والشقاق بين المتخاصمين، ولهذا أمر الله عباده ألا يكتموا الشهادة، وبين أن من كتمها آثِمٌ قلبه، قال -تعالى-: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، وبين -جل وعلا- أن الأهل للشهادة هو العدل من الناس، قال -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2]، فتحقق من هذه الآيات ثلاثة أحكام:

أولها: أن الشهادة علم وأمانة، وكتمانها يقتضي إثم صاحبها؛ لحجبه ما علمه، فكان بمثابة الكاتم للعلم الخائن للأمانة.

الحكم الثاني: أنها واجبة الأداء استدلالا بقول الله -تعالى-: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة:282].

الحكم الثالث: أنها لا تصح إلا من العدل؛ لما في شهادة غير العدل من إعطاء الحقوق لغير أهلها، وما ينشأ عن ذلك من بخس الناس أشياءهم، وفساد الأحوال بينهم.

والشاهد غير العدل يشهد مع غيره لأسباب متعددة، فقد تنزع به العصبية منزعا، فيشهد لقريبه أو بني قومه شهادة زور، وقد ينزع به الهوى، فيشهد شهادة لينتقم بها من خصمه أو عدوه، وقد تنزع به المنفعة منزعها، فيشهد مقابل ما سيحصل عليه من المشهود له، وهذه الأسباب ونحوها محتملة الوقوع في كل زمان ومكان، ولا يحول بين الشاهد وهواه إلا إيمانه الخفي، وخوفه من الله، أو إدراكه أن القاضي سيمحص شهادته، ويدرك معرفته مدى أهليتها لاقتطاع الحقوق وبراءة الذمم.

وفي هذا السياق روى أبو حنيفة أنه كان عند محارب بن دثار -وهو قاضٍ بالكوفة-، فجاء رجل، فادعى على رجل حقا، فأنكره، فأحضر المدعي شاهدين شهدا له، فقال المشهود عليه: والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب متكئا، فاستوى جالسا، وقال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: «إن الطير لتضرب بمناقيرها على الأرض، وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يتكلم شاهد الزور، ولا يفارق قدماه على الأرض حتى يُقذف به في النار)([1]).

هذا من حيث العموم، أما من حيث الخصوص فإن للشاهد الحق في أن يرجع عن شهادته في أي وقت، إما لخوفه من الله فيما شهد به من زور، وإما لشكه فيما شهد به، أو ما غلب على ظنه أنه قد أخطأ في شهادته.

وفي كل الأحوال يترتب على رجوعه عدة أحكام، وقد فصل الفقهاء هذه الأحكام، وسنورد بعضا منها باختصار.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: للرجوع عن الشهادة صفة، وركن، وشرط، وحكم.

فأما صفته فهو أمر مشروع مرغوب فيه ديانة؛ لأن فيه خلاصا من عقاب كبيرة من كبائر الذنوب، ومن شهد بزور عمدا أو خطأ وجبت عليه التوبة، ولا يمنعه من الرجوع الاستحياء من المخلوق.

وأما ركنه فهو قول الشاهد: رجعت عما شهدت به، أو شهدت بزور فيما شهدت به، أو كذبت في شهادتي، فإن كان قوله إنكارا فلا يعد رجوعا.

وأما شرطه: فيجب أن يكون الرجوع في مجلس القضاء، فلا يصح الرجوع في غيره.

وأما حكمه فوجوب الضمان في ماله وفي نفسه.

ولوجوب الضمان في ماله ثلاثة أحكام:

الأول: كون الرجوع بعد القضاء ومجلس القضاء، وكون المتلف عينا؛ فإن كان منفعة فلا ضمان، كما لو رجع عن الشهادة في منفعة كالنكاح بعد الدخول.

والثاني: يحقق إتلاف المال أو النفس، فمثلا: لو شهد شاهدان على رجل بمبلغ من المال، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عنها، وقبض المشهود له المال، فيضمنان هذا المبلغ؛ لأنهما لما رجعا بعد القضاء بشهادتهما تبين أنها وقعت سببا إلى الإتلاف في حق المشهود عليه، والتسبب إلى الإتلاف بمنزلة المباشرة كالإكراه على إتلاف المال.

والثالث: أن يكون الضمان على قدر الإتلاف.

ولوجوب الضمان في نفسه حكمان:

الأول: إن كانت الشهادة بالزنا، ثم رجع عنها وجب عليه الحد، سواء كان قبل القضاء أو بعده.

والثاني: إن كانت الشهادة في غير الزنا وجب عليه التعزير إن كان متعمدا([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: إن كان الرجوع في الشهادة قبل الحكم بها فيمتنع الحكم، ولا يلزم صاحبَها شيءٌ، وإن كان الرجوع بعد الحكم لم ينقض الحكم، ويلزم الشاهد ما أتلف بشهادته إذا أقر أنه تعمد الكذب، فإن كانت في مال لزمه غرمه، وإن كانت في دم لزمه غرم الدية في الخطأ والعمد. وعند أشهب من أئمة المذهب: يُقتص منه في العمد.

وإن كانت الشهادة في حد كالقذف، ورجع عنها، وجب عليه الحد، سواء كان رجوعه قبل الحكم أو بعده([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: للرجوع عن الشهادة وجهان:

الوجه الأول: إن كانت على رجل بشيء يتلف من بدنه، أو يُنالُ بقطع أو قصاص، فتم ذلك، ثم رجع الشهود عن شهادتهم بأنهم تعمدوه بذلك، فالمسألة كالجناية فيها القصاص، واحتجوا لذلك بما رواه الشعبي أن رجلين شهدا عند الخليفة عليٍّ -رضي الله عنه- على رجل أنه سرق، فقضى عليه بالقطع، ثم جاء هذان الشاهدان برجل آخر، فقالا: إنا أخطأنا بالأول، وهذا السارق. فقال-رضي الله عنه-: لا أصدقكما على هذا، وأغرمكما دية الأول، ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما([4]).

والوجه الثاني: إن كانت الشهادة فيما ليس فيه القصاص فيغرم صاحبها، ويعزر دون الحد، فإن قال: لم أعلم أن هذا يجب عليه عُزِّرَ، وأخذ منه العقل، وإن قال: أخطأت كان عليه الأرش.

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا رجع الشهود عن شهادتهم بعد أدائها فلرجوعهم ثلاث أحوال:

الحال الأولى: أن يرجعوا قبل الحكم بشهادتهم، فحينئذ لا يجوز الحكم بها([5])؛ لأنها شرط الحكم، فإذا زالت قبله فلا يجوز الأخذ بها.

الحال الثانية: أن يرجعوا بعد الحكم، وقبل الاستيفاء بموجبه، فحينئذ ينظر: فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص لم يجز استيفاؤه؛ لأن الأمر أصبح شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، ولأن المحكوم به عقوبة، ولم يتعين استحقاقها، ولا سبيل إلى جبرها، فلم يجز استيفاؤها.

الحال الثالثة: أن يرجعوا بعد الاستيفاء، فحينئذ لا يبطل الحكم، ولا يترتب على المشهود له شيء، سواء كان محل الشهادة مالا أو عقوبة؛ لأن الحكم قد تم بالاستيفاء ووصول الحق إلى مستحقه، فيكون الرجوع حينئذ على الشهود، ثم ينظر: فإن كان محل الشهادة إتلافا في مثله لقصاص كالقتل أو الجرح نظر في رجوعهم، فإن قالوا: تعمدنا الشهادة عليه زورا لكي يقتل أو يقطع، فعليهم القصاص، فإن قالوا: تعمدنا الشهادة عليه، ولا نعلم أنه يقتل بها، وكانوا ممن يجوز أن يجهلوا ذلك؛ وجبت الدية في أموالهم مغلظة؛ لأنه شبه عمد([6]).

قلت: وهذا مختصر مذاهب الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم-، ومنه يتبين أن الرجوع عن الشهادة إذا كانت زورا أو خطأ أو نحو ذلك أمر مرغوب فيه ديانة، وأن من أحكام الرجوع: أن يكون في مجلس القضاء، وأن يترتب الضمان على الشاهد في ماله بلا خلاف بين الأئمة إذا كان المتلف بحكم الشهادة مالا.

وأن يترتب الضمان كذلك في نفسه إذا كان المتلف عضوا أو نفسا، وهو مذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام أحمد، وقول أشهب من مذهب الإمام مالك، خلافا لمذهب الإمامين: أبي حنيفة ومالك اللذين يريان وجوب الضمان في ماله، مع إقامة الحد عليه في القذف، وتعزيره في غير ذلك.

قلت: ولعل الأصح -والله أعلم- ما ورد في مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد من وجوب الغرم في النفس إذا كان المتلف بحكم الشهادة نفسا أو جزءا منها؛ ذلك أن شهادة الزور من أعظم الكبائر، فقد وصف الله المؤمنين بأنهم لا يشهدون الزور في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، ولا يخلع الله صفة المؤمن إلا عمَّن خالف أمره، وأتى ما نُهي عنه، فاستحق بذلك عقابه، ثم إن رسول الله -ﷺ- حذر من شهادة الزور في قوله لصحابته: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»؟ ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله!، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وجلس -وكان متكئا-، فقال: «ألا وقول الزور»، قيل: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت([7]).

وما كانت شهادة الزور على الحال التي حذر منها رسول الله -ﷺ- في زمانه، وحذر منها السلف الصالح في أزمنتهم، فما بالنا بالأزمنة المتأخرة، وما فيها من المداخلات والتعصب والأهواء والمغريات المادية؟، مما يزيد من احتمال تكاثر هذه الشهادة ورواجها، الأمر الذي ينبغي معه الحد منها، ولا يكون هذا إلا بتطبيق الحد الأعلى للعقوبة؛ صيانة للحرمات، فمن يشهد زورا متعمدا على آخر بأنه قاتل، ويُقْتلُ هذا بحكم هذه الشهادة، ثم يرجع الشاهد عن شهادته التي تعمد فيها القتل، أفلا يستحق أن يغرمه في نفسه حتى يكون ذلك درءًا وعقابا للاعتداء على نفس بريئة؟.

وينبني على ما سبق أن للشاهدين في المسألة الرجوع عن شهادتهما براءة لذمتهما، وعليهما الإعلان عن ذلك في مجلس القضاء، ويبقى الحكم على ما هو عليه من النفاذ، وعليهما ضمان المال الذي فات على المحكوم عليه بموجب شهادتهما، فإن كان الرجوع من أحدهما دون الآخر فعليه ضمان نصف المال الذي فات على المحكوم عليه، وللقاضي الحق في أن يعزر شاهد الزور على النحو الذي يراه.

هذا هو ظاهر المسألة محل السؤال، أما حقائقها فمحله القضاء.

والخلاصة: أن الشهادة لا تصح إلا من العدل؛ لأن غير العدل يشهد مع غيره لأسباب متعددة؛ فقد تنزع به العصبية، فيشهد لقريبه، وقد ينزع به الهوى، فيشهد لكي ينتقم من خصمه، وقد تنزع به المنفعة، فيشهد مقابل ما سيحصل عليه من المشهود له، وهذه الأسباب ونحوها محتملة الوقوع في كل زمان ومكان، ولا يحول بين الشاهد وهواه إلا إيمانه الخفي، وخوفه من الله.

لهذا فقد شهد في وقت يغلبه فيه الهوى، وتسيطر عليه فيه المعصية، ثم يتوب، فيرجع عما شهد به من زور.

وهذا الرجوع أمر مرغوب فيه ديانة، ومن أحكامه: أن يكون في مجلس القضاء، وأن يبقى الحكم على ما هو عليه من النفاذ، وأن يترتب الضمان على الشاهد في ماله بلا خلاف بين الأئمة إذا كان المتلف بحكم الشهادة مالا، وأن يترتب الضمان كذلك في نفس الشاهد إذا كان المتلف عضوا أو نفسا، وهو مذهب الإمامين: الشافعي وأحمد، وقول في مذهب الإمام مالك.

ولعل هذا هو الأصح؛ ذلك أن شهادة الزور من أعظم الكبائر، فقد سلب الله صفة الإيمان عن صاحبها، وحذره رسوله من عقابها، وما كانت لتكون بهذا الوصف إلا لأنها تعطي الحقوق لغير أصحابها، وتنتهك بها حرمة النفس والمال والعرض، فحري إذًا أن يترتب الضمان على صاحبها في نفسه إذا كان متعمدا، وأدى ذلك إلى الإضرار بالمشهود عليه في نفسه أو جزء منها. والله أعلم.

([1])  أخرجه البيهقي في كتاب آداب القاضي، باب وعظ القاضي الشهود، وتخويفهم، وتعريفهم عند الريبة بما في شهادة الزور من كبير الإثم وعظيم الوزر، السنن الكبرى، ج10 ص121-122، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الأحكام، باب في الشهود، ج4 ص200، وقال: ‏«‏روى ابن ماجة بعضه، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لا أعرفه‏»، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، (٤/٢٠٣): فيه من لا أعرفه.

([2])  حاشية قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار على الدر المختار لمحمد أفندي، ج7 ص239-243، وانظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج6 ص283-285، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار لأحمد الطحطاوي، ج3 ص260-263، وفتح القدير لابن الهمام على الهداية: شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ج7 ص479-484.

([3])  أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك لأبي بكر الكشناوي، ج3 ص227-228، وانظر تفصيل مذهب الإمام مالك في هذا: شرح منح الجليل على مختصر خليل للشيخ عليش، ج8 ص502-518، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق، ج6 ص200-207، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص206.

([4]) المجموع شرح المهذب للنووي، ج20 ص278-286، وانظر: الحاوي الكبير للماوردي، ج21 ص271-279، وقليوبي وعميرة لشهاب الدين القليوبي والشيخ عميرة، ج3 ص232-233، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8 ص327-332.

([5])  هذا هو قول عامة العلماء باستثناء الإمام أبي ثور، حيث قال: يجب الحكم بها؛ لأنها أديت، فلا تبطل بالرجوع.

([6]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج12، ص136-140، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج6 ص442-447، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج3 ص561-565، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، ج12، ص96-104.

([7])  متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، برقم (654)، فتح الباري، ج5 ص309.