والجواب: أن هذا الفعل من باب التعدي الذي منعه الإسلام خلافا لما كان عليه سلوك الناس في الجاهلية، فقد كانت البيئة آنذاك بيئة غلظة وجلافة، يضيق فيها صدر القوي بالضعيف، فيقسو عليه، فإن كان مدينا، ولم يستطع وفاء دينه ضاعفه عليه، وإن كان قليل العشيرة والجاه تبرم به ونبذه، وإن كان فقيرا جفاه، وأعرض عنه، فجاء الإسلام دينا متكاملا، فعَفَّى على ذلك السلوك، فأنْظر المعسر بالدين إلى حين ميسرته، وساوى بين القوي والضعيف، والغني والفقير، وقوَّمَ المعوج من السلوك، وهذب الشاذ من الطبائع، ومنع التعدي بجميع صوره.
ومن أوامر الإسلام وآدابه: حرمة المساكن، وحمايتها من التعدي والعبث، والأصل في هذا الكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النور:27]، والحكم في هذا بينٌ وجلي، فالله -سبحانه وتعالى- قد كرم الإنسان، فجعل المسكن سترا له، وصونا لعوراته، وملجأ لراحته، وقضاء حاجاته، فاقتضى ذلك حكما احترام هذا الستر، وعدم التعدي عليه، وذلك باتباع ما بينه الله في قوله -تعالى-: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}، ولعل المقصود من الاستئناس نفي الجلافة والغلظة في الاستئذان، بمعنى أن يكون هذا الاستئذان رقيقا، ويؤيد هذا ما ورد في قصة الأعراب الذين جاؤوا إلى مسكن رسول الله -ﷺ-، ونادوه بأعلى أصواتهم: يا محمد! يا محمد! فنزل فيهم قول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} [الحجرات:4].
وقد يكون المقصود من الاستئناس الاستفهامَ عما يكون في البيت، وفي كلتا الحالتين نهى الله المؤمنين عن دخول بيوت غيرهم حتى يستأذنوا ويسلموا على أهلها، وهذا النهي يقتضي التحريم.
ثم أرشد الله المستأذن إلى ما يفعله عند عدم وجود أحد في البيت، فقال -تعالى-: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} [النور: 28]، وبهذا النهي لا يجوز لأحد دخول بيت غيره دون إذنه، فإن أذن له رب البيت، وإلا وجب عليه الرجوع، سواء كان ذلك بلفظ صريح كمن قيل له: ارجع، أو بدون لفظ كمن طلب الإذن بالدخول، فلم يجبه أحد، وفي كلتا الحالتين يجب أن يتقبل ذلك بطيب نفس؛ لأن ذلك أزكى له كما ورد في الآية الكريمة.
لقد استجاب الناس لأمر الله بالاستئذان، فأصبحوا لا يدخلون موضعا مسكونا أو مهجورا إلا سلموا واستأذنوا.
ولما كان مراد الله من الاستئذان دفع الأذى، واحترام من في البيوت، وحفظ عوراتهم؛ أباح دخول البيوت غير المسكونة؛ لانتفاء علة الأذى، فقال -تعالى-: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون} [النور:29]، وهذا يشمل ما في حكم هذه البيوت، كمحلات البيع والشراء، والألعاب ونحوها مما هي مفتوحة لقضاء حاجات الناس، ولا يحتاج الدخول فيها إلى استئذان.
والأصل الثاني في وجوب الاستئذان هو السنة النبوية: فقد ورد أن رسول الله -ﷺ- قال: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فليرجع»([1])، وغاية هذا التأكد من أن لفظ الاستئذان قد بلغ من في البيت؛ لكي يأذنوا للمستأذن، أو لا يأذنوا له.
وقد أرشد رسول الله -ﷺ- إلى كيفية الاستئذان، وهي أن يُعرِّف المستأذن نفسه بالاسم؛ حتى لا يكون ذلك مثار سؤال وجواب بين الْمُسْتأذِنِ والْمُسْتاذَنِ منه، وفي ذلك روي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: استأذنتُ على النبي-ﷺ-، فقال: «من هذا»؟، فقلت: أنا، فقال: النبي -ﷺ-: «أنا أنا»، كأنه كرهها([2])، أي: أنه كره تلك الكلمة، وأراد من جابر أن يذكر اسمه.
ولما كان مناط الاستئذان وجوب حرمة البيوت، وعدم الاطلاع على عوراتها وأسرارها؛ نهى رسول الله -ﷺ- عن النظر إلى ما في داخلها، سواء كان ذلك من قبل من يريد الاستئذان، أو من فضولي أو غيرهما، وفي ذلك روي عن سهل بن سعد أن رجلا اطَّلع من جحر في حجر النبي -ﷺ-، وكان معه -عليه الصلاة والسلام- مدرى يحك به رأسه، فقال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»([3])، كما روي عن أنس بن مالك أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه بمشقص أو بمشاقص، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه([4]).
أما المعقول: فإن طبيعة الإنسان وتكوينه وقواعد حياته تقتضي عقلا أن يكون له مسكن يؤويه، ويصون عوراته، وهذا يوجب أن يكون له اختصاص عليه مما لا يجوز لغيره أن يفعل ما ينافي هذا الاختصاص، فلو جاز لأي إنسان أن يدخل بيت غيره بدون استئذان لفسدت أحوال الناس، فأصبحوا يعيشون في فوضى، وهذا مما تأباه جميع الأديان والشرائع والنظم المتحضرة.
وقد تطرق الفقهاء إلى مسألة دخول البيوت، وما يجب في ذلك من الاستئذان، فمن ذلك:
ما ورد في مذهب الإمام أبي حنيفة: من أنه لا يجوز للأجنبي دخول بيت غيره دون استئذان، وليس الاستئذان للسكان أنفسهم خاصة، بل لأنفسهم وأموالهم؛ لأن الإنسان كما يتخذ من البيت سترا لنفسه يتخذه -أيضا- حفظا لأمواله، وكما يكره اطلاع غيره على نفسه يكره اطلاعه على أمواله، ويجب على المستأذن أن يرجع إذا لم يؤذن له بالدخول؛ لأن في جلوسه عند الباب إشغالا لأهله، ومضايقة لهم.
وفي المذهب يستثنى من طلب الاستئذان الخانات والرباطات التي تكون للمارة، كما يستثنى منه الدخول لتغيير المنكر أو الغزو، فإذا كان البيت مشرفا على العدو جاز للغزاة دخوله لمقاتلة العدو منه، كما يستثنى من الاستئذان من كان له مجرى في دار رجل، وأراد إصلاحه، ولا يمكن أن يمر في بطنه، فيقال لرب الدار: إما أن تدعه يصلحه، وإما أن تصلحه([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه، أجنبيا كان أو قريبا، ويستأذن حتى على أمه، وعلى كل من لا يحل له النظر إلى عورتها، وإذا استأذن فقيل له: من أنت؟، فليسم نفسه باسمه، أو بما يعرف به([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا يجوز دخول بيت شخص إلا بإذنه مالكا، أو مستأجرا، أو مستعيرا، فإن كان أجنبيا أو قريبا غير محرم فلا بد له من إذن صريح، سواء كان الباب مغلقا أم لا، وإن كان محرما فإن كان يسكن مع صاحبه لم يلزمه الاستئذان، لكن يجب عليه أن يشعره بدخوله كشدة الوطء بالرجل ونحو ذلك؛ لكي يتمكن العريان من ستر نفسه، فإن لم يكن يسكن مع صاحبه لم يدخل إلا بإذنه إن كان الباب مغلقا، فإن كان مفتوحا ففيه وجهان، والأولى الاستئذان.
وفي المذهب: من نظر إلى حرم غيره من كوة أو ثقب عمدا، فرماه بحصاة، فأعماه، أو أصابه قرب عينه، فجرحه، فمات فهو هدر، ولو قتل شخص آخر في داره، وقال: إنما قتلته دفعا عن نفسي أو مالي، وأنكر الولي، فعليه البينة بأنه قتله دفعا، ويكفي القول: إنه دخل داره شاهرا السلاح، ولا يكفي القول بأنه دخل بسلاح من غير شهر، إلا أن يكون هذا معروفا بالفساد، أو بينه وبين القتيل عداوة، فيكفي ذلك للقرينة([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: لا يجوز دخول بيت أحد إلا بالاستئذان، فإن أذن له، وإلا رجع، أي: لا يجوز له أن يقف بالباب ويلازمه، كما لا يجوز للمستأذن أن يواجه الباب في استئذانه؛ استدلالا بأن رجلا استأذن على النبي -ﷺ-، فقام مستقبلا الباب، فقال له -عليه السلام-: «هكذا عنك وهكذا، فإنما الاستئذان من النظر»([8]).
وينبني على ما سبق من الأحكام أن للبيوت حرمة توجب عدم دخولها دون إذن من فيها، وأن من دخل بيت غيره دون استئذان فقد تعدى عليه، ويحق لهذا مدافعته بالوسيلة المناسبة.
ولهذا فإن الرجل مدار المسألة قد تعدى على بيت مدينه دون حق؛ مما يجوز لصاحب البيت مقاضاته بسبب ما أحدثه لأهله من فزع، ومضايقة، ولا مساغ للقول بأن الدائن يطلب حقه؛ لأن للمطالبة أوجهًا ووسائلَ غير دخول البيوت بدون إذن أهلها.
وخلاصة المسألة: أن من أوامر الإسلام وآدابه حرمة المساكن، وحمايتها من التعدي والعبث، والأصل في هذا الكتاب والسنة والمعقول، أما الكتاب فقد أمر الله المؤمنين بألا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلا بعد أن يستأذنوا في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النور:27]، وأما السنة فقد أمر رسول الله -ﷺ- بالاستئذان ثلاثا في قوله: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع»([9])، وأما المعقول فإن طبيعة الإنسان وتكوينه وقواعد حياته تقتضي عقلا أن يكون له مسكن يؤويه، وهذا يوجب أن يكون له اختصاص عليه؛ مما لا يجوز لغيره أن يفعل ما ينافي هذا الاختصاص، ولا يستثنى من الاستئذان إلا البيوت غير المسكونة، وما في حكمها كمحلات البيع والشراء والألعاب، وينبني على ذلك أن دخول الدائن في المسألة بيت المدين يعد تعديا عليه، ويحق لهذا مقاضاته بسبب ما أحدثه لأهله من فزع ومضايقة. والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ج7 ص130.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ج7 ص131.
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ج7 ص129-130.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ج7 ص129-130.
([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني ج 7، ص124-125، وانظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين ج6 ص199.
([6]) القوانين الفقهية لابن جزي ص292، وانظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ج4، ص463-464، والمدونة الكبرى للإمام مالك برواية الإمام سحنون، ج4، ص368-369، والفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني للنفراوي ج2، ص356-357، والمعونة على مذهب عالم أهل المدينة للبغدادي، ج3، ص1696-1697.
([7]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد الشربيني الخطيب ج4، ص197-199.
([8]) الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح ج1، ص444-445، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٥١٧٤).