ومفاد المسألة سؤال يقول: اشترى رجل دارًا مستعملة، وعندما سكنها تبين له أنه غُبِنَ في هذا البيع غبنًا فاحشًا؛ لأن القيمة التي دفعها أكثر بكثير من قيمة الدار محل البيع، ويسأل عما إذا كان يحق له رد المبيع، أو تنزيل ثمنه؛ لأن غبنه فيه ليس يسيرا.

حكم رد المبيع بسبب الغبن، والفرق بين الغبن الفاحش والغبن اليسير

والجواب من حيث العموم: أن في التجارة ربحًا لمُتَّجِرٍ، وغبنًا لآخر، وليس في مقدور أحد أن يأخذ أو يعطي بقدر لا يكون له فيه غبن، فمن يُغْبَن اليوم، فيعطي أكثر مما يأخذ قد يَغْبِنُ غيرَه غدًا، فيأخذ منه أكثر مما أعطاه، وهكذا في كل عملية تتنازعها الحاجات، ويتداولها الناس في تعاملهم، فالغبن إذًا مسألة نسبية، فقد يرى المشتري أنه غُبِن في سلعة اشتراها، بينما يرى البائع عكس ذلك، فهو لم يوطن نفسه في متجره أو مصنعه إلا ليربح، ولو لم يفعل لما وجد المشتري حاجته، فهو وإن كان يخدم حاجته، فهو يخدم في الوقت نفسِهِ حاجةَ المشتري، حين يسهل له هذه الحاجة.

والأصل ألا يكون فيه تضييق على الناس في تعاملهم؛ بدليل قول

 

رسول الله -ﷺ-: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)([1])، ولكن هذا لا يعني بأي حال أكل بعضهم أموال بعض بالباطل؛ لأن ذلك محرم بدليل الكتاب والسنة.

أما في الكتاب: فقد نهى الله عن ذلك نَهْيَ تحذير في قوله -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، ويعني ذلك تحريم الغش والخداع والتدليس والربا، وكل ما يؤدي الى إستغلال الإنسان لأخيه، وأخذ ماله، أو انتقاصه بغير حق، ولم يستثن الله إلا التجارة، وهذا الاستثناء مقيد بالتراضي، وهذا التقييد يقتضي المنع، فإذا انتفى التراضي أصبح الاتجار حراما؛ لأنه أكلٌ للمال بالباطل.

وأما في السنة: فقد حذر رسول الله -ﷺ-من الغش في التعامل، فقال-عليه الصلاة والسلام-: (من غشنا فليس منا)([2])، ونهى -عليه الصلاة والسلام- أن تُتَلَقَّى الركبانُ، وأن يبع حاضرٌ لبادٍ([3])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (لا يبيع المرء على بيع أخيه، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد)([4])، وفي قول آخر: قال -عليه الصلاة والسلام-: (لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تَلَقَّوُا السلع حتى يهبط بها إلى السوق)([5]).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والغاية منها النهي والتحذير عن خداع المسلم في تجارته وتعامله، وتحرير هذا التعامل من الغش والتدليس حفظًا للحقوق، ودرءًا للتنازع، وفي مقابل تحذيره-عليه الصلاة والسلام-من هذه الآفات في التعامل رغب-عليه الصلاة والسلام-في التعامل بالبر والصدق والتقوى؛ لما في ذلك من الثواب العظيم، فقال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([6])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إذا استنصح أحدُكم أخاه فلينصح له)([7])، وفي حديث جرير الذي رواه علي بن عبد الله عن سفيان عن إسماعيل عن قيس قال: أَيْ جريرُ! بايعتُ رسول الله -ﷺ- على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم([8]).

أما من حيث الغبن الوارد في سؤال السائل، وما إذا كان يجوز له رد المبيع، والفرق بين الغبن الفاحش والغبن اليسير.

فللفقهاء في ذلك عدة آراء:

ففي المذهب الحنفي: قول بعدم رد المبيع ولو ظهر فيه غبن فاحش؛ لأنه لم يدخل تحت تقويم المقومين، كما لو وقع البيع بعشرة مثلًا، ثم إن بعض المقومين يقول: إنه يساوي خمسة، وبعضهم يقول: ستة، وبعضهم يقول: سبعة، فهذا غبن فاحش؛ لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد، بخلاف ما إذا قال بعضهم: ثمانية، وبعضهم: تسعة، وبعضهم: عشرة فهذا غبن يسير.

وفي المذهب قول آخر يرى أن عدم الرد هو في المغبون الذي لم يغر “أي لم يحدث له غرر من الدلال أو البائع”، أما في المغبون الذي غر فيكون له حق الرد على غرار الخيانة في المرابحة، فإن ذلك تغرير يثبت به الرد([9]).

وقد حددت المادة (165) من مجلة الأحكام العدلية الغبن الفاحش في العقار بـ”الخمس أو زيادة”، فإعطاء ما قيمته عشرة باثني عشر، وأخذ ما قيمته اثنا عشر بعشرة في العقار يعد غبنًا فاحشًا، أما الغبن اليسير فهو الذي لا يبلغ القدر المذكور للغبن الفاحش، كأن يعطي رجلٌ آخَرَ عشرةً بعشرة وثُمُنٍ، أو يأخذ منه العشرة وثمنًا بعشرة في الدراهم، أو يعطي العشرة بعشرة وربع، أو يأخذ منه العشرة وربعًا بعشرة في العروض، وفي الغبن اليسير لا يثبت الخيار، ولو اقترن بالتغرير، بخلاف الغبن الفاحش، فإنه إذا اقترن بالتغرير وجب فيه الخيار”([10]).

وفي مذهب الإمام مالك: اختلف الأصحاب، فمنهم من يرى أنه يثبت الخيار للمغبون من البائع أو المشتري، ومنهم من قال: لا خيار له إذا كان من أهل الرشاد والبصر بالسلعة محل البيع، وإن كانا أو المغبون منهما بخلاف ذلك فللمغبون الخيار.

ومنهم من يرى أن الخلاف ليس في الغبن على الإطلاق، وإنما هو مقيد بأن يكون المغبون لم يستسلم لمن بايعه، ويكون -أيضا- من أهل المعرفة بقيمة ما اشتراه، وإنما وقع في الغبن غلط يعتقد أنه غير غالط، فأما إذا علم القيمة، فزاد عليها، فهو كالواهب، أو فعل ذلك لغرض له، فلا مقال له، وكذلك إن استسلم لبائعه، وأخبره أنه غير عالم بالقيمة، فذكر له البائع ما غره به، مثل: أن يقول: أُعطيت فيها كذا، أو قيمتها كذا، ويسمي له بائعَها منه، فهذا ممنوع بالاتفاق([11]).

وإذا ثبت الخيار بالغبن الفاحش فقد اختلف الأصحاب في مقداره، فمنهم من حده بالثلث فأكثر، ومنهم من قال: لا حد له، فيرجع فيه إلى العوائد بين التجار، فما علم أنه من التغابن الذي يكثر وقوعه بينهم، ويختلفون فيه فلا مقال فيه للمغبون باتفاق، وما خرج عن المعتاد فللمغبون فيه الخيار([12]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا اشترى الرجل شيئًا، فتبين أنه غُبِنَ في ثمنه، لم يثبت له الرد؛ استدلالًا بما رُوي أن منقذًا والد حبان كان يُخدع في البيع، فذكر ذلك للنبي-ﷺ-، فقال: (إذا بعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثاً)([13])، وبهذا لم يُثْبِتْ له خيار الغبن، ولأن المبيع سليم، ولم يوجد من جهة البائع تدليس، وإنما فرط المشتري في ترك الاستظهار، فلم يجز له الرد، وبهذا لا يثبت الخيار بالغبن، سواءٌ أتفاحش أم لا([14]).

ويستثنى من ذلك ما إذا كان الغبن قد ترتب عن تلقي الركبان؛ استدلالًا بما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- نهى أن تُتلقى السلع حتى يُهبط بها الأسواق؛ ولأن هذا تدليس وغرر، فلم يحل، فإن خالف، واشترى صح البيع، فإن دخلوا البلد، فبان لهم الغبن كان لهم الخيار؛ استدلالًا -أيضًا- بما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاها، واشترى منهم، فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق)([15]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يثبت خيار الغبن في ثلاث صور: تلقي الركبان، والنجش، والمسترسل، فإذا غبن أحد هؤلاء غبنًا يخرج عن العادة فيثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء([16]).

والمذهب على عدم تحديد الغبن، وإنما ينبغي إناطته بما لا يتغابن بمثله، أما إن كان عالمًا بالقيمة فلا خيار له وإن غبن؛ لأن الغبن حصل بعجلته، وقد قدره بعض الأصحاب بالثلث، وبعضهم بالسدس([17]).

وينبني على ما سبق أن بعض الفقهاء يرى إثبات الخيار للمغبون إذا كان هذا الغبن فاحشًا، خاصة إذا صاحبه غرر، أو تدليس، أو نحو ذلك، بينما يرى بعضهم الآخر أنه لا يثبت له هذا الخيار إذا كان تصرفه نتيجة تفريطه وعدم خبرته ودرايته، وأما الغبن اليسير فلا مجال للرد فيه البتة.

وقد تباينت آراء الفقهاء في الفرق بين الغبن الفاحش والغبن اليسير، فمنهم من يقول بالخمس وما زاد عليه، ومنهم من يقول بالسدس، ومنهم من يقول بالثلث، ومنهم من يرى تقديره حسب عوائد التجار.

قلت: ولعل الصواب وجوب الخيار في الغبن الفاحش؛ لأن التغابن في المعاملات مما يوغر الصدور، ويؤلم النفوس، ويكون سبيلًا لسوء المعاملات وفسادها؛ لأن للمال أثرًا في النفوس، فلا يرضى أحد أن يعطي أكثر مما يأخذ، ولا يرضى أحد أن يُظلم أو يُبخس شيئًا من حقه.

أما الفرق بين الغبن الفاحش والغبن اليسير فينبغي أن يكون حسب عوائد التجار؛ لأنهم أدرى بأمور التجارة ومداخلاتها، إضافة إلى حدوث الغبن بينهم، وتغلبهم عليه فإن تعذرت معرفة هذه العوائد فتقدير الغبن يكون بالثلث قياسًا على ما حدده رسول الله -ﷺ- بالثلث في الوصية([18]).

وعلى أي حال فإن هذه المسألة وأمثالها ينبغي أن يكون الفصل فيها للقضاء؛ ليجري الحكم فيها حسب وقائعها، وطبيعة المبيع محل الادعاء بالغبن، وحجج المتخاصمين.

وخلاصة المسألة: أن في التجارة من حيث العموم ربحًا لمتجر، وغبنًا لآخر، وأن الغبن مسألة نسبية، فقد يرى المشتري أنه غُبن في سلعة اشتراها، بينما يرى البائع عكس ذلك، والأصل ألا يكون فيه تضييق على الناس في تعاملهم، ولكن هذا لا يعني بأي حال أكل بعضهم أموال بعض بالباطل؛ لأن ذلك محرم بالكتاب والسنة.

أما بخصوص رد المبيع في الغبن فقد تباينت آراء الفقهاء حوله، فبعضهم يرى إثبات الخيار للمغبون إذا كان هذا الغبن فاحشًا، خاصة إذا صاحبه غرر أو تدليس، بينما يرى بعضهم الآخر أنه لا يثبت له هذا الخيار إذا كان تصرفه نتيجة تفريطه.

والصواب -والله أعلم- وجوب الخيار في الغبن الفاحش؛ لأن التغابن في المعاملات مما يوغر الصدور، ويؤلم النفوس، ويكون سبيلًا لسوء المعاملات وفسادها؛ لأن للمال أثرًا في النفوس، فلا يرضى أحد أن يعطي أكثر مما يأخذ، أو يُظلم أو يُبخس حقَّه.

كما تباينت آراء الفقهاء في الفرق بين الغبن الفاحش والغبن اليسير، فمنهم من يقول بالخمس، ومنهم من يقول بالسدس، ومنهم من يقول بالثلث، ومنهم من يرى تقديره حسب عوائد التجار، ولعل الصواب تحديده بالثلث إذا تعذر معرفة هذه العوائد، وذلك قياسًا على ما حدده رسول الله -ﷺ- في الوصية، وهذه المسألة وأمثالها ينبغي أن يكون محلها القضاء؛ ليجري الحكم فيها حسب وقائعها.

والله أعلم.

([1]) أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص165.

([2])   سبق تخريجه.

([3]) أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص164.

([4]) أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص 197-198.

([5]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص360، وأخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب النهي عن تلقي الركبان، وأنّ بيعه مردود، برقم (2165)، فتح الباري ج4 ص 437.

([6]) أخرجه الترمذي (١٢٠٩)، قال الألباني في صحيح الترغيب، (١٧٨٢): صحيح لغيره.

([7]) أخرجه أحمد في المسند ج3 ص 418-419، وأخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لبادٍ؟، وهل يعينه أو ينصحه؟، رقم (68)، فتح الباري ج4 ص433.

([8]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه وينصحه؟، برقم (2157)، فتح الباري ج4 ص 433.

([9]) حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار لابن عابدين ج5 ص142-143.

([10]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، كتاب البيوع ص15.

([11]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، لابن شاس ج2 ص 497-499، والمدونة الكبرى للإمام مالك برواية الإمام سحنون ج3 ص328، والمعيار المعرب والجامع المغرب للونشريشي ج6 ص 427.

([12]) المعيار المعرب ج6 ص 427.

([13]) أخرجه البخاري، (٦٩٦٤)، وأخرجه مسلم (١٥٣٣).

([14]) المجموع للنووي شرح المهذب ج12 ص 326-327.

([15]) المجموع شرح المهذب للنووي ج13 ص 23، والحديث أخرجه مسلم برقم (1519) وبهذا اللفظ رواه الدارقطني في علله، (١٨٦١).

([16]) الشرح الكبير مع المغني لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن قدامة ج4 ص77-78.

([17]) شرح الزركشي على مختصر الخرقي ج3 ص400، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج29 ص360.

والركبان: من يهبطون الأسواق، وهم لا يعرفون ما فيها من ارتفاع الأثمان أو نقصانها.

والنجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها؛ ليغر المشتري.

والمسترسل هو: الجاهل بقيمة السلعة، ولا يحسن المماكسة.

ينظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج4 ص394-395، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع ج4 ص433-435، والمغني والشرح الكبير ج4 ص78-79.

([18]) ومفاد الحديث كما في صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-قال: جاء النبي-ﷺ-يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: (يرحم الله ابن عفراء)، قلت: يا رسول الله! أوصي بمالي كله؟، قال:(لا)، قلت: فالشطر؟، قال: (لا)، قلت: الثلث؟، قال: (فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياءَ خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس، ويُضَرُّ بك آخرون)، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة. فتح الباري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكفّفوا الناس، ج5 ص 427-428، برقم (2742).