تمهيد: الكفالة أو الضمان أو الحمالة بمعنى واحد، وهي: “إضافة ذمة الكفيل (الضامن) إلى ذمة المكفول (المضمون) في أداء الحق”.
والأصل في شرعيتها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله -تعالى-: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} [يوسف: 66]، وقوله -عز وجل-: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيم} [يوسف: 72]، وقوله -عز وجل-: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37].
وأما السنة: فما روي أن رسول الله -ﷺ-قال: (الزعيم غارم)([1])، وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-أن النبي-ﷺ-أُتِيَ بجنازة؛ ليصلي عليها، فقال: (هل عليه من دين)؟ فقالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتِيَ بجنازة أخرى، فقال: (هل عليه من دين)؟ قالوا: نعم! قال: (صلوا على صاحبكم)، قال أبو قتادة: عليَّ دينُه يا رسول الله!، فصلى عليه([2]).
وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة وخلفها على مشروعية الكفالة، فكان الناس يكفل بعضهم بعضًا في معاملاتهم؛ تيسيرًا لهذه المعاملات، وحفظًا للحقوق.
وتصح الكفالة معلقة ومنجزة ومؤقتة، وهي على نوعين:
1- كفالة بالنفس أي: الكفالة بإحضار المكفول إلى الكفيل، وتعرف في وقتنا بـ”الكفالة الحضورية”، وقد لا تكون مجدية؛ لأن الكفيل قد لا يستطيع إحضار المكفول أو السيطرة عليه.
2-كفالة بالمال، وتعني التزام الكفيل بأداء المال، سواءٌ كان دينًا أو نحوه.
هذا من حيث العموم، أما الإجابة عن السؤال، وهو “شرعية مطالبة الكفيل والمدين معًا”، فقد ذهب إلى هذا عامة الفقهاء.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يخير الطالب في المطالبة، إن شاء طالب الأصيل بالدين، وإن شاء طالب الكفيل، ومطالبته أحدَهما لا تسقط حق مطالبته الآخر، وبعد مطالبة أحدهما له أن يطالب الآخر، ويطالبهما معًا، وهذا مطرد في سائر أنواع الكفالات، فيطالب الكفيل بالدين، وبدين واجب على الأصيل، لا عليه، فالدين على واحد، والمطالب به اثنان.
ولا يخرج الكفيل بالمال عن كفالته إلا بأحد أمرين:
الأمر الأول: أداء المال إلى الطالب، سواء كان هذا الأداء من الكفيل أم من الأصيل، وكذا إذا وهب الطالب المال من الكفيل أو من الأصيل؛ لأن الهبة بمنزلة الأداء.
الأمر الثاني: الإبراء وما في معناه، فإذا أبرأ الطالب الكفيل أو الأصيل خرج عن الكفالة، أما إذا أبرأ الكفيل فلا يبرأ الأصيل، وإذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الدين على الأصيل، وليس على الكفيل([3]).
وفي مذهب الإمام مالك قولان للإمام:
القول الأول: ليس للطالب أن يأخذ الكفيل مع وجود المكفول حاضرًا موسرًا بالدين.
والقول الثاني: أن للطالب مطالبة من شاء منهما، أي: الكفيل أو المكفول([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يجوز للمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه؛ لكون الدين ثابتًا في ذمتهما، فكان له مطالبتهما معًا، أو مطالبة واحدٍ منهما، وإن ضمن ضامن عن ضامن عن مضمُون عنه فللمضمُون له مطالبةُ أَيِّ الثلاثة شاءَ([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يحق لصاحب الحق مطالبة المدين الأصيل والكفيل، أَيَّهما شاءَ، أو مطالبتهما معًا؛ لأن الحق ثابت في ذمتهما، فملك مطالبة من شاء منهما؛ استدلالًا بحديث (الزعيم غارم)([6]).
قلت: هذه خلاصة آراء الفقهاء، ومنها يتبين أن لصاحب الحق مطالبة المدين والكفيل منفردين أو مجتمعين، فمطالبته للمدين متعلقة بأصل الحق وهو الدين، ومطالبته للكفيل ثابتة بحكم الكفالة، ومطالبته لهما معًا ثابتة بأصل الدين والكفالة معًا.
ولا حجة للكفيل في التنصل من الوفاء بحجة يسار المدين؛ لأن صاحب الحق ما كان ليعقد الدين إلا بعد أن وثق حقه بكفالة الكفيل، فأصبحت ذمة هذا مشغولة بالحق، بصرف النظر عن يسار المدين أو إعساره.
وخلاصة المسألة: أن للدائن في المسألة الحق في مطالبة المدين والكفيل منفردين أو مجتمعين؛ لأن ذمة كل منهما مشغولة بالحق بحكم الدين والكفالة، ولا حجة للكفيل في التنصل من الوفاء بحجة يسار المدين.
والله أعلم
([1]) أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب في تضمين العارية، وابن ماجة مختصرًا في الصدقات، باب العارية، والترمذي في الوصايا، باب ما جاء “لا وصية لوارث”، برقم (2120)، ج4 ص376-377، صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٤١٢).
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب من تكفل عن ميت دينًا، فليس له أن يرجع، صحيح البخاري ج3 ص 57.
([3]) المادة 644 من مجلة الأحكام، انظر: درر الحكام شرح المجلة، كتاب البيوع، ص673، وانظر: كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج6 ص10، وفتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني ج7 ص182، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق للأفغاني، مع هامش شرح الوقاية لرحمة الله، ج2 ص51-52، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي ج4 ص153-154.
([4]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج2 ص296، وشرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ عليش، ج6 ص217، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج2 ص659، والمدونة الكبرى للإمام مالك، رواية الإمام سحنون، ج4 ص131، والبهجة في شرح التحفة للتسولي ج1 ص187-188.
([5]) المجموع شرح المهذب للنووي ج14 ص23، و ج10 ص34، والحاوي الكبير للماوردي، ج8 ص123 وانظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب، ج2 ص209.
([6]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ج5 ص190، وانظر: كتاب الفروع لابن مفلح ج4 ص238، والمغني والشرح الكبير لابني قدامة ج5 ص83، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج4 ص249، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لابن قاسم ج5 ص10.