ومفاد المسألة سؤال يقول: إن قائد الطائرة طلب من المسافرين عليها قبل إقلاعها إقفال جهاز الجوال بعد أن حذرهم مما يسببه من خطر مباشر على الطائرة ومن فيها، غير أن بعض المسافرين لم يعبأ بهذا التحذير، فماذا يجب في هذه الحالة؟.

حكم من يعرض حياة غيره للخطر

والمسألة تتمثل في أن مستعملي جهاز الجوال في الطائرة يشكلون خطرًا حالًّا ومباشرًا على المسافرين فيها، وتدارك الخطر بعد وقوعه أمر غير ممكن؛ لأن الضرر لا يزول بعد حدوثه، فأصبح من الواجب عندئذ درء هذا الخطر قبل وقوعه؛ لأن دفعه قبل وقوعه أولى من دفعه بعده.

والأصل في هذا الكتاب والسنة:

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190] وقوله -عز وجل-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] وقوله -عز وجل-: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].

وأما السنة: فقد روي أن رسول الله -ﷺ- قال: «لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه؛ ما كان عليك جناح»([1])، کما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: «من قاتل دون دمه، فقتل؛ فهو شهيد»([2])، وما روي كذلك عن يعلى بن أمية أنه كان له أجير، فقاتل إنسانًا، فعض أحدهما يـد الآخر، فانتزع المعضوض يده من فم العاضِّ، فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتى النبيَّ-ﷺ-، فأهدر ثنيته، وقال: «أفيدع يده في فيك تقضمها كقضم الفحل»([3]).

فهذه الأحكام في مقتضاها تدل على تحريم الاعتداء في كافة صوره؛ لما ينطوي عليه من الفساد في الأرض، وإشاعة الفتن واضطراب أحوال الناس، وتحليل ما حرم الله عليهم، وتحريم ما أحـله لهم، وما يقوم به الإنسان من دفع الاعتداء عليه يعرف عند الفقهاء بـ”دفع الصائل”([4])، ويعد هذا الدفع مشروعًا، سواء أكان القائم به يدافع عن نفسه -كما لو تعرض له شخص؛ ليعتدي عليه بالسيارة مثلًا، فيجب عليه قتاله-، أم كان يدافع عن غيره، كما لو رأى شخصًا يريد الاعتداء على آخر، فيجب عليه كذلك رد الاعتداء عنه؛ استدلالاً بقول الله -عز وجل-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، واستدلالاً بقول رسول الله -ﷺ-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوماً..»([5]).

وقد تعرض الفقهاء لهذه المسألة:

 ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب قتل من شهر سيفاً على المسلمين إن لم يمكن دفع ضرره إلا به؛ أي: لأنه من باب دفع الصائل([6]).

وفي مذهب الإمام مالك: قول بجواز دفع الصائل، وقول بوجوبه، وهو الراجح في المذهب؛ استدلالاً بقول رسول الله -ﷺ-: «من قاتل دون ماله، فقُتل؛ فهو شهيد»، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتقدم ذكره: «لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بـحـصـاة».

ويتفرع عن هذا قتل من يتعمد الاعتداء على غيره، ومن ذلك: ما لو طرح شخص على آخر حية مسمومة على غير وجه اللعب، مثل الـحـواة الذين يعرفون الحيات المسمومة، والأفاعي التي لا يلبث لديغها، فإنه يقتل به، ولا يقبل قوله: إنه أراد اللعب، وإنما معنى اللعب مثلما يفعل الشباب بعضهم مع بعض، فيطرح أحدهم على الآخر الحية الصغيرة التي لا تعرف بمثل هذا، فهذا خطأ، وأما من يعرف ما هي؟، ويتعمد طرحها، فإنه يقتل، ولا يقبل قوله: إنه لم يرد قتله([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: للشخص أن يدفع كل صائل، ولو كان صبيًّا، أو مجنونًا، أو دابة، عندما يغلب الظن على صياله على معصوم له أو لغيره من نفس، أو طرف، أو منفعة، أو بضع، أو مال؛ لحديث: «من قتل دون ماله فهو شهيد»، ويلزم من ذلك أن له -أي: المصول عليه- القتل والقتال، فإن كان الصيال على الجميع في زمـن واحد، ولم يمكن إلا دفع واحد فـواحد قدم الدفاع عن النفس، وما يسري عليها كالجرح، فالبضع، فالمال، وكذلك إذا كان الصيال على صبي أو امرأة قدم الدفع عنهما([8]).

وفي حديثه عن الجمل الصؤول ورده على من قال بضمانه عـنـد صــياله قال الإمام الشافعي: «إن الله -عز وجل- منع دماء المسلمين إلا بحقها، وإن المسلمين لم يختلفوا فيما علمت أو من علمت قوله منهم في أن مـسـلمًا لو أرادني في الموضع الذي لا يمنعني منه باب أغلقه، ولا قوة لي بمنعه، ولا مهرب أمنع به منه، وكانت منعـتي منه إلى أن أدفع عني إرادته لي إنمـا بضربه بسلاح، فحضرني سيف أو غيره، كان لي ضربه بالسيف؛ لأمنع حرمتي التي حرم الله -تعالى- عليه انتهاكها، فإن أتي الضرب على نفسه فلا عقل عليَّ ولا قـود ولا كفارة؛ لأني فعلت فعلاً مباحاً لي، فلما كان هذا في المسلم هكذا كان البعير أقل حرمة، وأصغر قدراً، وأولى أن يجوز هذا فيه ([9])… “.

وفي مذهب الإمام أحمـد: تفريق بين ما إذا كان الصائل يريد العرض، أو النفس، والمال، فإن كان صياله ضـد العرض وجب دفعه، قال الإمام أحمد في امرأة أرادها رجل على نفسها، فقتلته لتحصن نفسها: إذا علمت أنه لا يريد إلا نفسها، فقتلته لتدفع عن نفسها فلا شيء عليها؛ ولأنه إذا جاز الدفع عن المال الذي يجوز بذله وإباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تبـاح بحال أولى، أما إذا كان الصـائل يريد النفس أو المال فلا يجب على المصول عليه الدفع استدلالاً بقول النبي -ﷺ- في الفتنة، فيما رواه أبو ذر في الحـديث الطويل، ومنه قوله: قال رسول الله -ﷺ-: «… كيف أنت وقتلا يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم»؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال: «الْحَقْ بمن أنت منه». قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أخذ بـسـيـفـي، فـأضرب به من فعل ذلك؟. قال: «شاركت القوم إذا، ولكن ادخل بيتك»، قلت: يا رسول الله! فإن دخل بيتي؟. قال: «إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك، فيبوء بإثمه وإثمك، فيكون من أصحاب النار»، أو قال: «فكن عبد الله المقتولَ، ولا تكن عبد الله القاتل»، واستدلالاً -أيضا- بترك عثمان -رضي الله عنه- القتال مع إمكانه منع إرادتهم نفسه([10]).

والمصول عليه يدفع الصائل عن نفسه أو ماله بأخف وسيلة، فإذا كان السارق من المنزل يندفع بعصا فلا يجوز دفعه بآلة.

وكما يجوز له أن يدفع الصيال عن نفسه يجوز له معونة المصول عليه من غيره، فلـو عرض اللصوص لقافلة جاز لغير أهلها الدفع عنهم؛ استدلالاً بقول النبي -ﷺ-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوماً…)([11]).

وعلى ما سبق ذكره فإن عامة الفقهاء متفقون على وجوب دفع الصائل في حالة اعتدائه على العرض، وأن الراجح في مذاهب الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وجوب دفع الصائل في حال الاعتداء على النفس، وأن الراجح في مذهب الإمام أحمد جواز دفع الصائل على النفس، كما أن جمعاً من الفقهاء يرى أن دفع الصائل على المال من باب الجواز.

قلت: لقد عظم الله أمر النفس، وأمر بالمحافظة عليها، وتوعد من يعتدي عليها بالخلود في العذاب في قوله -تعالى-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وفي سبيل الحفاظ عليها أمر بدفع الاعتداء عليها في قوله -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، ونهى -عز وجل- عن تهلكتها في قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].

ولما كان هذا أمر الله ونهيه فإن دفع الصائل على النفس لا ينبغي أن يكون جوازاً، بل يجب أن يكون واجبـاً -كما ورد في مذاهب الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي-؛ لأنها ملك لله -عز وجل-، ومن ترك واجباً له فقد أثم على تركه، ولهذا قال رسول الله -ﷺ-: «من قاتل دون دمه، فقُتل؛ فهو شهيد»، وما كانت هذه الشهادة لتكتب له إلا لحرمة النفس وعظمها عند الله، ولو قيل: إن الدفاع عن النفس من باب الجواز لكان في ذلك تقليل وتهوين لحرمتها التي عظمها الله، وما ورد أن رسول الله -ﷺ- قال: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك» فهذا خاص بالفتن؛ لأن في الخروج إليها إذكاءً لها، وفي عدم الخروج إليها إطفاءً لها، فجاء نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الخروج إليها.

أما في حالة الدفاع عن النفس والعرض والمال فالمسلم مطلوب منه أن يكون قويًّا، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المشار إليه آنفا: «من قاتل دون مالـه، فـقـتـل؛ فـهـو شـهـيـد»([12])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف…»([13]).

أما القول بأن عثمان -رضي الله عنه- ترك القتال مع إمكانه دفع من أرادوه فإنه ما كان ليدفع ما حدث في فتنة حارت فيها الأفهام.

والنظر إلى السؤال في المسألة يقتضي التثبت من أن استخدام جهاز الجوال في الطائرة يهدد سلامتها ومن فيها، فإذا ثبت هذا فإن من يستخدمه فيها بعد تحذير قائد الطائرة يعد بمثابة الصائل حين يشهر سيفه ضد شخص أو أشخاص، ولا حجة للقول بحسن نية المستعمل للجهاز ما دام قد أُشـعر من قبل قائد الطائرة بخطورة ما يفعل، ويبقى الأمر حينئذ في وجوب دفع الفاعل قبل وقوع الفعل.

ولما كان قائد الطائرة هو الآمرَ والموجِّهَ لحركتها، والمأمون على سلامتها ومن فيها من المسافرين، فيجب عليه حينئذ دفع مستعمل جهـاز الجوال بالوسيلة التي يراها مؤمنة لسلامة الطائرة، سواء كانت هذه الوسيلة مكتوبة في قواعـد من قبل مالك الطائرة -كمؤسسات الخطوط -، أم كانت من قبله هو إذا لم تكن لديه مثل هذه القواعد، ويترتب على هذا أنه لا يجوز له الاكتفاء بمجرد التحذير من أخطار استعمال الجهاز، بل يجب عليه دفع الفعل بأي وسيلة كما ذكر، ومن بينها: القوة؛ لأن الحفاظ على سلامة الطائرة ومن فيها بمثابة الحفاظ على النفس، بل إن ذلك آكد وأعظم؛ لما تحمله الطائرة من عدد من النفوس والأموال.

وخلاصة المسألة: أن مستعملي جهاز الجوال في الطائرة يشكلون خطراً عليها وعلى من فيها، وتدارك الخطر بعد وقوعه أمر غير ممكن، فأصبح من الواجب درء هذا الخطر قبل وقوعه.

والخطر الذي يترتب ممن أشير إليهم يعد بمثابة الاعتداء، وأحكام الله تعظم النفس، وتحرم الاعتداء عليها؛ لما في ذلك من الفساد في الأرض، وقد وصف الـفـقـهـاء من يهدد سلامة النفس بـ”الصائل”، ومن يستخدم جهاز الجوال في الطائرة بعد ثبوت خطره عليها، وتحذير قائدها من هذا الخطر؛ يعد بمثابة الصائل.

ولما كان قائد الـطـائـرة هـو الآمر والموجه لحركتها، والمأمون على سلامتها ومـن فـيـهـا؛ فيجب عليه حينئذ دفع مستعمل جهاز الجوال بالوسيلة التي يراها مؤمِّنةً لسلامة الطائرة، ويترتب على هذا أنه لا يجوز له الاكتفاء بمجرد التحذير من أخطار استعمال الجهاز، بل يجب عليه دفع الفعل بأي وسيلة، ومن بينها: القوة. والله أعلم.

 

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب تحريم النظر في بيت الغير، صحيح مسلم مع شرح النووي، ج14 ص۱۳۸.

([2]) اخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب من قُتل دون ماله، سنن النسائي، ج۷،ص114-116، صححه الألباني في صحيح النسائي، (٤١٠٥).

([3]) اخرجه النسائي في كتاب القسامة، باب الرجل يدفع عن نفسه، سنن النسائي، ج۸ ص ۲۹-۳۰، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج4 ص٢٢٤، صحح إسناده الألباني في صحيح النسائي، (٤٧٨٣).

([4]) صال في اللغـة بمعنى وثب على الغير، وصال عليه: استطال، والصـائل: الظالم، انظر المصباح المنير للفيومي، ص ٣٥٢ – ٣٥٣، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج۸، ص۲۳، ومغني المحتاج للشربيني الخطيب، ج4، ص ١٩٤.

([5]) أخرجه البخاري، (٢٤٤٣)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج۳، ص۹۹، ۲۰۱، والبيهقي في السنن الكبرى، ج6، م٩٤، ج۱۰، ص۹۰، والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج۷، ص ٢٦٤.

([6]) حاشية رد المحتار لابن عابدين، ج6، ص ٥٤٥ – ٥٤٦.

([7]) انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل للمواق، ج6، ص۳۲۲-۳۲۳، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج۳، ص۲۲۷.

([8]) انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج مع حاشية أبي الضياء للشبراملسي، وحاشية المغربي الرشيدي، ج5، ص ۲۳ – ۳۸ وانظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج شرح للشيخ محمد الشربيني الخطيب على متن المنهاج، ج4، ص ١٩٤ ـ ٢٠٧.

([9]) الأم للإمام الشافعي ج6 ص۱۷۷.

([10]) المغني مع الشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج۱۰، ص ٣٥١-٣٥٦، وانظر: حديث «اجلس في بيتك….» في سنن ابن ماجه، ج۲، ص۱۳۰۸، وسنن أبي داود، ج4، ص۱۰۱، صححه الألباني في إرواء الغليل، (٢٤٥١).

([11]) انظر: المغني مع الشرح الكبير ج۱۰، ص ٣٥١-٣٥٦، وانظر: حديث «انصر أخالك…» في مسند الإمام أحمد ج۳، ص۹۹، ۲۰۱، والسنن الكبرى للبيهقي، ج6، ص ٩٤، ج۱۰، ص90، ومجمع الزواد ومنبع الفوائد للهيثمي، ج۷، ص ٢٦٤، وأخرجه البخاري، (٢٤٤٣).

([12]) سبق تخريجه.

([13]) أخرجه مسلم (٢٦٦٤)، أخرجه ابن ماجة في مقدمة سننه، باب القدر، برقم (۷۹)، ج1 ص31، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج۲ ص۳۷۰.