ومفاد المسألة سؤال يقول: إن شركاء في شركة استأمنوا أحدهم، وكلفوه بإدارة هذه الشركة، واشترطوا عليه أن يتفرغ لإدارتها، ومنحوه كافة الصلاحيات مقابل راتب مجزٍ، ونسبة معينة من الأرباح، وبعد أن اكتسب الخبرة والعلاقات من عمله في الشركة أنشأ شركة يملك فيها نسبة معينة، وتقوم بأعمال الشركة التي يديرها ونشاطها نفسها، وأخذ يدير الشركتين دون علم أو موافقة الشركاء في الشركة الأولى وعلى غفلة منهم. وقد تعاقد على تنفيذ مشروع باسم الشركة الأولى ونفذه لحساب شركته، وبإدارة الشركة الأولى وأموالها ومعداتها، والسؤال: هل يكون دخل هذا المشروع للشركة الأولى؟، وهل يحق للشركاء في هذه الشركة التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم جراء سلوك مدير الشركة؟، وهل لهم حق في حصصه في الشركة التي أنشأها؟.

حكم خيانة الشريك الذي يدير الشركة لشركائه واستغلال موارد الشركة لحسابه

هذا هو ظاهر المسألة كما وردت من الأخ السائل، والجواب عنها من وجهين:

الوجه الأول: الالتزام بالعقد، ووجوب الوفاء به.

الوجه الثاني: مدى حق الشركاء في الشركة الثانية.

أما الوجه الأول وهو الالتزام بالعقد، ووجوب الوفاء به فالواضح من المسألة أن مدير الشركة قد تعاقد مع شركائه على التفرغ لإدارة شركتهم لقاء راتب ونسبة محددة من أرباح الشركة، وبهذا يكون ملتزمًا بالوفاء بما تعاقد عليه التزامَ قضاءٍ، والتزام ديانة.

أما القضاء فالأصل في ذلك الكتاب والسنة والمعقول:

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون} [النحل: 91]، وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34].

والوفاء بالعقد والعهد يوجب حكمًا أداءَ ما يقتضيه، فإن كان عقدًا بالبيع وجب تمكين المشتري من تسلم المبيع، وإن كان عقدًا بالإجارة وجب تمكين المستأجر من المنفعة، وإن كان عقدًا على عمل وجب على العامل أداء ما التزم به من عمل.

وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: (أد الأمانة إلى من ائتمنك)([1])، وهذا أمر يقتضي الإلزام والتكليف، والأمانة إطار واسع، فقبول البائع بالبيع يعد أمانة تقتضي تسليم المبيع إلى مستحقه، وقبول العامل أو الموظف بالعمل يعد أمانة تقتضي حكمًا أداءه للعمل على الوجه المتعاقد عليه.

وأما المعقول: فإن الفطر والعقول السليمة تدرك حقيقة أفعالها وتصرفاتها، وما يترتب عليها من آثار، فتؤدي الأمانات، وتوفي بالعهود، وتعطي الحقوق لأصحابها، فمن يتعاطى البيع يعرف ما يجب عليه نحو المشتري، ومن يلتزم بعمل يعرف ما يجب عليه نحو رب العمل، كما أن الفطر والعقول السليمة تدرك أن عدم الوفاء بالعقود مفسد لأحوال الناس وعلائقهم ببعضهم، وأن القضاء يمنع هذا الفساد بإحقاق الحق لأصحابه.

والالتزام بالعقد مما توجبه ديانة المسلم، وخشيته من الله، وإيمانه بأن العهد أمانة في عنقه، وأن هذه الأمانة لا تنفك إلا بالأداء، وإن استطاع أن يتخلص منها قضاء فلن يستطيع أن يتخلص منها ديانة، فالله يراقب تصرفات العباد وسلوكهم، فلا يخفى عليه شيء من أمرهم، قال -تعالى-: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون} [الأنعام: 3]، وقال -تعالى-: {إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]، وقال -تعالى-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} [غافر: 19].

وقد أخبر -تعالى- أن كثيرًا من الشركاء يظلم بعضهم بعضًا، ويعتدي بعضهم على بعض، وأن المؤمنين هم الذين لا يفعلون ذلك، وهؤلاء لم يكونوا على الحال التي هم عليها إلا لأنهم آمنوا، والتزموا بما أمرهم الله به، وأدركوا أنه يراقبهم في سرهم وجهرهم، قال -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24].

كما أخبر رسول الله -عليه الصلاة والسلام-أن الخيانة للأمانة مدعاة للعقاب، وأنه سيكون الخصم للغادر بالعهد، قال -عليه الصلاة والسلام-: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة-ومن كنت خصمه خصمته-: رجل أعطى بي ثم غدر…الحديث)([2])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)([3])، وحذر الشركاء من خيانة بعضهم لبعض، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما)([4])، وفي حديث آخر أنه -عليه الصلاة والسلام-قال: (إن الله يقول: “أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما”)([5]).

وينبني على هذا أن مدير الشركة ملتزم بالوفاء بعقده مع شركائه التزام قضاء، والتزام ديانة.

الوجه الثاني: مدى حق الشركاء في الشركة التي أنشأها مدير الشركة دون علم شركائه.

المفروض أن يفي الشريك المتعاقد مع شركائه بما تعاقد عليه، ورضي به، فإذا أراد أن يتحلل من التزامه زيادةً أو نقصًا أو إلغاءً وجب عليه أن يخبر شركاءه؛ ليرى ما إذا كانوا يقرونه على ما فعل أم لا يقرونه؟، هذا هو الأصل في العقود، فإن فعل غير ذلك فله حكم آخر.

وقد تعرض الفقهاء لمسألة مدى حق الشركاء في الشركة التي ينشئها أحدهم.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: ليس للشريك أن يخلط مال الشركة بمال له خاصة “لأن الخلط إيجاب حق في المال، فلا يجوز إلا في القدر الذي رضي به رب المال”([6])، وقد نصت المادة (1376) من مجلة الأحكام العدلية على ما يأتي: “إذا اشترى أحد الشريكين بدراهم نفسه شيئًا ليس من جنس تجارتهما يكون ذلك المال له، ولا يكون لشريكه حصة فيه، أما إذا اشترى أحدهما مالًا من جنس تجارتهما حال كون رأس مال الشركة في يده فيكون للشركة، حتى لو اشتراه بمال نفسه، مثلًا: إذا عقد اثنان الشركة على تجارة الأقمشة، فاشترى أحدهما بماله حصانًا، كان له، وليس لشريكه حصة في ذلك الحصان، أما إذا اشترى قماشًا، فيكون للشركة، حتى إنه لو أشهد حين شراء القماش بقوله: إنني اشتريت هذا القماش لنفسي، وليس لشريكي حصة فيه، فلا يفيد ذلك، ويكون ذلك القماش مشتركًا بينه وبين شريكه”([7]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا يُفسِدُ شركةَ المفاوضة وجودُ مال لأحد الشريكين على حدته..، ولكن ليس لأحد من الشركاء أن يعير من مال الشركة شيئًا، إلا أن يسمح له شريكه([8]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: الأصل بين الشركاء عدم الخيانة، فإن كان في يد أحد الشركاء عين، فادعى شريكه أن ذلك من مال الشركة، وادعى هو أنه له، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر أن ما في يده هو له…، وإن اشترى شيئًا فيه خسارة، فقال الشريك المشتري: اشتريته شركة بيننا، وقال الشريك الآخر: بل اشتريتَه لنفسك، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخيانة([9]).

وفي مذهب الإمام أحمد: أن ما يشتريه كل من الشريكين بعد عقد الشركة يكون بينهما مشتركًا إذا لم ينوه لنفسه؛ لأن العقد وقع على ذلك، ولأن أحد الشريكين أمين الآخر أو وكيله، أما ما يشتريه أحدهما لنفسه فهو له خاصة، والقول قوله في ذلك بأنه اشتراه للشركة أو لنفسه؛ لأنه أعلم بنيته([10]).

هذه خلاصة موجزة يتبين منها أن المذهب الحنفي لا يجيز للشريك خلط مال الشركة بماله، وأن ما يشتريه أحد الشركاء من جنس تجارة الشركاء يكون لهم جميعًا، أما ما يشتريه من غير جنس تجارتهم فيكون له، وأن مذهب الإمام مالك لا يرى ما يمنع من أن يكون للشريك في الشركة تجارة على حدة، وأن مذهب الإمام الشافعي يرى أن الأصل بين الشركاء عدم الخيانة، والقول قول المتصرف مع يمينه فيما إذا كان الشيء الذي تصرف فيه للشركة أو له خاصة، ومثل ذلك في مذهب الإمام أحمد، ولكن المذاهب الأربعة متفقة على أنه لا يجوز لأحد الشركاء أن يخلط مال الشركة بماله.

قلت: ولعل الصواب ما ورد في مذهب الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة؛ لأنه أقرب للحق، وأبعد عن التهم ومظان الشبه، فمثلًا: لو اتفق شركاء على تأسيس شركة لمزاولة تجارة معينة (تجارة الأقمشة) مثلًا، فالأصل أن يخلص كل واحد منهم لها، ليس لأن له منفعة فيها فحسب، بل لأن عليه التزامًا تجاه الشركاء الآخرين الذين ارتضاهم وارتضوه لهذه الشركة، استدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([11])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه… الحديث)([12])، ومِنْ ظُلْمِهِ: خيانته، أو التعرض له في ماله.

فإذا قام أحد الشركاء بتأسيس شركة أخرى تعمل في تجارة الأقمشة، دون موافقة شركائه، فيعد هذا خروجًا على مفهوم الشراكة، بل ربما يعد هذا من باب الخيانة؛ لأنه سيكون شريكًا منافيًا بتجارته للشركة الأولى؛ مما يجعله مظنة الشُّبَهِ، وهذا على خلاف ما إذا كانت شركته أو تجارته من غير جنس تجارة الشركة الأولى، فالشركة التي تتاجر في الكتب مثلًا لا يمكن أن تكون منافسًا لشركة تتاجر في الأقمشة، والشركة التي تتاجر في بيع الحبوب لا يمكن أن تكون منافسًا لشركة تتاجر في بيع الأخشاب أو الحديد، وهكذا.

هذا من حيث العموم في المسألة، أما بالنسبة لمسؤولية مدير الشركة محل السؤال فهذا -كما يظهر من السؤال- يتقاضى راتبًا من الشركة، وقد التزم بالتفرغ لإدارتها، وهذا يقتضي منه الوفاء بعقده، وإذا ثبت أنه قد حصل على المشروع محل الذكر باسم الشركة الأولى، وأداره بأموالها ومعداتها، فإن لهذه الشركة الحقَّ في مال المشروع دون الشركة الثانية، وإذا ثبت أن هذه الشركة التي أنشأها المدير تقوم بعمل من “جنس” عمل الشركة الأولى فحينئذ -ووفقًا لمذهب الإمام أبي حنيفة الذي نرجحه في هذه المسألة- ينبغي أن يكون الشركاء في هذه الشركة شركاء للمدير في الشركة الثانية.

وعلى أي حال فإن هذه القضية من الأمور التي يختص بها القضاء.

وخلاصة المسألة: أن مدير الشركة -كما يظهر من المسألة- قد تعاقد مع شركائه علي التفرغ لإدارة شركتهم لقاء راتب ونسبة محددة من أرباح الشركة، وبهذا يكون ملتزمًا بالوفاء بما تعاقد عليه التزامَ قضاءٍ وديانةٍ، أي يجب عليه التفرغ لإدارة الشركة، والإخلاص لها، ومن ذلك: عدم إنشاء شركة ثانية باسمه تنافس هذه الشركة، وإذا ثبت أنه قد حصل على مشروع باسم هذه الشركة، وأداره بأموالها ومعداتها، فإن لهذه الشركة الحق في مال المشروع دون الشركة الثانية، وإذا ثبت أن الشركة التي أنشأها المدير تقوم بعمل من “جنس” عمل الشركة الأولى فحينئذ ينبغي أن يكون الشركاء في هذه الشركة شركاء للمدير في الشركة الثانية.

وعلى أى حال فإن القضية من الأمور التي يختص بها القضاء من حيث الوقائع والإثباتات.

والله أعلم

 

([1]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، برقم (3534، 3535)، سنن أبي داود ج3 ص 290، وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع برقم (1264)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج3 ص 414، صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٥٤٤)..

([2]) أخرجه البخاري، (٢٢٢٧)، أخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب أجر الأجراء، برقم (2442)، سنن ابن ماجة ج2 ص 816.

([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، صحيح البخاري ج1 ص14، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب خصال المنافق، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 46.

([4]) أخرجه الدارقطني في كتاب البيوع برقم (140)، سنن الدارقطني، ج3 ص35، ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب، (١١١٤).

([5]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشركة، برقم (3383)، سنن أبي داود ج3 ص256، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٩١٨).

([6]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج6 ص69، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج4 ص314.

([7]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج3 ص419، تعريب/ فهمي الحسيني.

([8]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج6 ص260-261، وانظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج5 ص126-127، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج3 ص351-352، والتاج والإكليل للمواق، بهامش مواهب الجليل، ج5 ص126-127، وشرح الزرقاني علي مختصر خليل للزرقاني، ج4 ص45.

([9]) المجموع شرح المهذب للنووي، ج14 ص80-81، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج5 ص13-14، والمهذب للشيرازي، ج1 ص347، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي، ج5 ص292-293، وحاشية الجمل على شرح المنهج، ج3 ص399-400.

([10]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3 ص499، وانظر: المغني لابن قدامة، ج5 ص130-131، والإنصاف للمرداوي، ج5 ص438، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لابن قاسم، ج5 ص263-264، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج3 ص538-539.

([11]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب “من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، صحيح البخاري ج1 ص 9، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من خصال الإيمان “أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك”، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 16.

([12]) سبق تخريجه.