ومفاد المسألة سؤال يقول: إن شخصًا يملك شقة في إحدى البنايات، وقد لاحظ وجود ماء يتسرب من الشقة التي تعلو شقته مباشرة؛ مما يخشى معه خطر هذا التسرب، كما أنه غالبًا ما يتعرض لأصوات مزعجة من ساكني الشقة المشار إليها؛ مما يعد أذى له، فهل يحق له إجبار مالك الشقة العليا على إصلاح التسرب، وعدم إيذائه؟.

الضرر الذي يلحق الجار من جاره

والجواب: أن الأصل في الشرع الإسلامي أن للمالك التصرف في ملكه إذا لم يؤدِّ هذا التصرف إلى الإضرار بغيره، والأصل -أيضًا-في الشرع الإسلامي نفي الضرر، ومنع الأذى عن الغير؛ لأن ذلك من باب الظلم، والظلم مما حرمه الله على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده، ومن ثوابت السنة: ما روي عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: (لا ضرر، ولا ضرار)([1])، وقد بُنيتْ على هذا الأصل عدة قواعد في الفقه، منها: أن الضرر يزال([2])، وأن الضرر لا يزال بمثله([3])، وأن الضرر الفاحش يدفع بأي وجه([4]).

وإذا كان منع الضرر واجبًا من حيث العموم فمنعه بالنسبة للجار أكثر وجوبًا؛ لأن حق الجار على جاره حق خاص بحكم القرب بينهما في السكن، وهذا هو ما عناه رسول الله -ﷺ- حين قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)([5])، والميراث لا يكون إلا للقريب.

وإجمالًا فإن منع الضرر بين الجار وجاره يقتضي بالضرورة معرفة طبيعته ومقداره، ومدى تأثيره على من يدعيه، والمعيار في ذلك ما إذا كان الضرر فاحشًا أو غير فاحش، فالضرر الفاحش في المساكن مثلًا: كل ما يترتب عليه إضعاف البناء، أو تعريضه للخطر، أو حجب منافعه، فمثلًا: إذا تسرب الماء من بالوعة الجار إلى منزل جاره مما يعرضه للخطر، أو كان هذا الماء المتسرب يسبب رائحة كريهة للجار، فيُعد ذلك ضررًا فاحشًا، وإذا فتح الجار نافذة أو نوافذ في جداره لغرض النظر إلى جاره، أو رفع البناء على نحو يسبب حجب الهواء أو الضوء عنه، فيعد ذلك ضررًا فاحشًا، وهكذا.

أما الضرر غير الفاحش الذي لا يترتب عليه أذًى بَيِّنٌ فلا يمنع، ومن ذلك على سبيل المثال: ما لو كانت النوافذ مرتفعة على نحو لا يمكن معه للرجل العادي النظر منها، أو كان رفع البناء لا يمنع الهواء أو الضوء، فذلك مما يعد من الضرر اليسير، والحكم في هذه المسائل يقتضي معرفة وقائعها من قبل القضاء، والعرف السائد في أمكنتها.

هذا من حيث العموم، أما بالنسبة لسؤال السائل فقد تعرض الفقهاء لأحكام الطابقين: العلوي والسفلي، وما يجب على أصحابهما.

ففي المذهب الحنفي: إذا كان عُلْوٌ لرجل، وسُفْلٌ لآخر، فليس لصاحب السفل أن يضع فيه وتدًا، أو يثقب فيه كوة بغير رضا صاحب العلو، ولو أراد صاحب العلو أن يحدث على علوه بناءً لم يكن له قبل ذلك، أو يشرع بابًا لم يكن قبله فليس له ذلك عند الإمام أبي حنيفة، وسواءٌ أضر بالسفل أم لا، وعند صاحبي الإمام له أن يفعل ذلك ما لم يضر بالسفل([6]).

وفي مذهب الإمام مالك: إذا كان علو الدار لرجل، وأسفلها لآخر، فالسقف الذي بينهما لصاحب السفل، وعليه إصلاحه، وبناؤه إن انهدم، ولصاحب العلو الجلوس عليه، وإن كان فوقه علو آخر فسقفه لصاحب العلو، وله الجلوس عليه، وإن كان فوقه علو آخر فسقفه لصاحب العلو الأول، وبناء العلو على صاحبه، وبناء السفل على صاحبه.

وفي المذهب: ينقسم الضرر إلى قسمين: الأول متفق عليه، والثاني مختلف فيه، فالمتفق عليه مثل: فتح الكوة للكشف على الجار، فهذه يؤمر المحدث بسدها أو سترها، وكذلك بناء الفرن أو الكير، ما لم يَحْتَلِ المحدثُ في إزالة الدخان عن جاره، ومن هذا القسم -أيضًا-: أن يجري في دار الجار ماء يضر بحيطان جاره.

وأما القسم المختلف فيه فمنه: إعلاء البنيان مما يمنع الضوء والشمس، فالمشهور في المذهب أنه لا يمنع منه، وقيل: يمنع([7])، إلا أن يثبت أن محدث ذلك أراد الضرر بجاره([8]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا كان البيت السفْلُ في يدي رجل، والعلو في يدي آخر، فتداعيا سقفه، فهو بينهما نصفين، وعلى هذا يحق لصاحب العلو أن يتصرف فيه كما كان يتصرف من قبل بالجلوس عليه، وإحراز المتاع المعتاد فيه من غير تجاوز ولا تعدٍّ، أي: أن كل واحد من الملاك يتصرف في ملكه على العادة في التصرف وإن تضرر به جاره، فإن تعدى في تصرفه في ملكه العادة ضمن ما تولد منه قطعًا أو ظنًّا قويًّا، كما لو شهد بذلك خبيران([9]).
وفي مذهب الإمام أحمد: ليس للرجل أن يتصرف في ملكه تصرفًا يضر بجاره، كبناء الحمام (العام) بين الدور، أو الفرن بين العطارين، أو سقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره([10]).

قلت: ويتبين من ظاهر السؤال أن هناك قضيتين:

القضية الأولى: الماء الذي يتسرب من الشقة العليا إلى الشقة السفلى المباشرة لها بحكم الالتصاق بينهما.

وهذا يعد ضررًا لصاحب الشقة السفلى؛ لما يترتب عليه من رطوبة لجدرانه، وإضرار بما فيها من دهان وأثاث ونحوه، إضافة إلى ما ينتج من رائحة كريهة إذا كان الماء يتسرب من دورات المياه.

وإصلاح الضرر (أي: وقف الماء المتسرب) لا يتم عمليًّا إلا من خلال الشقة العليا، وهو أصلًا حادث من خلل فيها، وإزالة الضرر من قبل الجار لجاره واجب شرعي وفقًا للمبادئ والقواعد الشرعية المشار إلى بعض منها آنفًا، وهذا الوجوب يقتضي إجبار صاحب الشقة العليا على إزالة الضرر المترتب من شقته، ما لم يكن هناك عقود أو قواعد تقضي أن يتم إصلاح الضرر في الشقق من قبل جهة أخرى، كما لو كان بائعها قد التزم بهذا الإصلاح مدة أو مددًا معينة، كحال الذين يبنون في الوقت الحاضر البنايات الكبيرة، ويضعونها للتمليك الحالِّ، أو التمليك بما يسمى “التمليك عن طريق التأجير”، أو نحو ذلك من الصيغ الأخرى.

القضية الثانية: الأصوات المزعجة، وما إذا كانت تعد ضررًا:

من المعتاد أن تصدر من الجار أصوات في منزله، وأن يسمع الجار أصوات جاره، وإن كان هذا في الوقت الحاضر أقل من الماضي؛ نظرًا لسعة بعض المنازل، واستخدام العوازل المانعة للصوت، والأصوات تختلف قوة وضعفًا تبعًا لطبيعتها، فالحديث العادي لا يكون صوتًا مزعجًا بأي حال، وليس في مقدور الجار أن يسمعه، فالصوت العادي للمذياع أو للمرناء (التلفزيون) لا يكون مزعجًا كذلك، ومع أنه لم يتبين من السؤال نوع الأصوات المزعجة أو طبيعتها إلا أن ضررها يعد يسيرًا، ما لم تكن أصواتًا غير معتادة، كالتي تنبعث في أوقات الليل، وأوقات الراحة، سواءٌ كانت من المذياع أم من غيره، فالأصل أن ما كان ضرره فاحشًا يجب دفعه، وما كان يسيرًا يجري التسامح فيه؛ لأن الأضرار اليسيرة مقبولة ومعتادة بين الجيران، وتقدير ما إذا كان الضرر فاحشًا أو يسيرًا يرجع للقضاء.

وخلاصة المسألة: أن الأصل في الشرع الإسلامي أن للمالك التصرف في ملكه إذا لم يؤد هذا التصرف إلى الإضرار بغيره، والأصل -أيضًا-في الشرع الإسلامي نفي الضرر، ومنع الأذى عن الغير؛ لأن ذلك من باب الظلم.

وإذا كان منع الضرر واجبًا من حيث العموم فمنعه بالنسبة للجار أكثر وجوبًا؛ لأن حق الجار على جاره حق خاص بحكم القرب بينهما في السكن، ومنع الضرر بين الجار وجاره يقتضي بالضرورة معرفة طبيعته ومقداره، ومدى تأثيره في من يدعيه، والمعيار في ذلك معرفة ما إذا كان الضرر فاحشًا أم غير فاحش، فتسرب الماء من الشقة العليا إلى الشقة السفلى يعد ضررًا فاحشًا يجب دفعه، والأصوات إذا لم تكن مزعجة فتعد من الضرر اليسير الذي يجري فيه التسامح بين الجيران، وتقدير الضرر الفاحش من اليسير يرجع للقضاء.

والله أعلم.

([1]) أخرجه الإمام مالك في موطئه، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، برقم (1426)، ص 529، رواية الليثي، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب “من بنى في حقه ما يضر بجاره”، برقم (2340، 2341)، سنن ابن ماجة ج2 ص784، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (٢٥٠).

([2]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج1 ص33، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص85، والأشباه والنظائر للسيوطي ص83، وشرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا ص179.

([3]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج1 ص35، وانظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص87، والأشباه والنظائر للسيوطي ص86، وشرح القواعد الفقهية ص195.

([4]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام ج3 ص224-225.

([5]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار، والإحسان إليه، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في حق الجوار، برقم (1942)، سنن الترمذي ج4 ص 293.

([6]) شرح فتح القدير لابن الهمام على البداية للمرغيناني، ج7 ص321-322، وانظر: بدائع الصنائع للكاساني ج6 ص264-265، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج5 ص447، ودرر الحكام شرح مجلة الحكام لعلي حيدر، كتاب الشركات ص224-228، ودرر الحكام كتاب البيوع ص32-33.

([7]) القوانين الفقهية لابن جزي، ص223-224.

([8]) كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام لابن فرحون، ج2 ص255.

([9]) الحاوي الكبير للماوردي، ج8 ص70-73، 79، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج5 ص337-338، والمجموع شرح المهذب للنووي ج15 ص215.

([10]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج5 ص47-52، وانظر: الإنصاف للمرداوي ج5 ص260-261، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج3 ص357-358، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج2 ص408-409، وكتاب الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي ج4 ص280-287.