ومفاد المسألة سؤال يقول: إن شخصًا عقد في أثناء سفره إلى بلد غير إسلامي عقدًا مع أحد التجار هناك على توريد بضاعة بمبلغ محدد، إلا أنه قبل نهاية مدة العقد أشعر الطرف الآخر بتوقفه عن دفع جزء من المبلغ بحجة أن هذا العقد يلزمه بدفع فوائد، وهذه تعد من الربا المحرم في الشرع الإسلامي.

حكم العقد الذي يترتب على تنفيذه ارتكاب محظور شرعي في حق أحد طرفيه

والسؤال عما إذا كان لهذا الشخص الحق في الامتناع عن دفع ما ترتب عليه بموجب عقده.

ويستنتج من السؤال أن أحد العاقدين مسلم، والآخر غير مسلم، كما يستنتج منه أن العقد عُـقِد في بلاد غير إسلامية، ومع أن تفاصيل العقد وملابساته غير متوافرة في السؤال، إلا أن الجواب سينصب على الظاهر منه، وهو أن العقد يتضمن فوائد ربوية امتنع أحد طرفيه (المسلم) عن دفعها بحجة ربويتها.

والجواب أنه يتعلق بهذه المسألة أمران: أولهما: تحريم الربا، وثانيهما: مدى حق أحد طرفي العقد في الامتناع عن تنفيذ التزاماته بموجب العقد بحجة ما فيه من الربا.

 

الأمر الأول: تحريم الربا: لقد حرم الله الربا، وشدد في تحريمه، فليس بعد الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، ذنب أعظم من الربا؛ لما فيه من محاربة الله ورسوله، والظلم والفساد في الأرض، والأدلة في ذلك كثيرة:

ففي القرآن الكريم: قال الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 275].

وفي هذه الآية وصف، ونفي، وحكم، فقد وصف الله -تعالى-أكلة الربا بالتخبط والتثاقل والسقوط عندما يبعثون من قبورهم، حالهم في ذلك كحال الذي مسه الشيطان، فأصبح يتخبط، لا يستوي على حال، كما نفى الله -تعالى-المماثلة بين البيع والربا، ذلك أن الدائن في الجاهلية يأمر مدينه عند حلول الدين أن يقضيه ماله من دين، أو يُرْبِيَ (يزيد) عليه، فحرم الله ذلك بقوله -عز وجل-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.

وأما الحكم فهو حل البيع في عمومه، مع تخصيص الربا بالتحريم.

وقد بينت السنة النبوية شروط البيوع، وأنواعها، وصفاتها، وما يحل منها، وما يحرم، كما بينت السنة النبوية بيوع الربا وصفاتها، وأنواعها، وحرمت كل نوع من هذه البيوع، واعتبرته في كل الأحوال مفسوخًا حكمًا.

وبعد أن بين الله أنه يمحق الربا فيجعله قليلًا وإن كثر في قوله -تعالى-: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا} [البقرة: 276] أمر المؤمنين أن يتقوا الله، ويذروا ما بقي من الربا في تعاملهم، فقال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [البقرة: 278]، وسبب نزول هذه الآية أن طائفة من قبائل العرب حديثة العهد بالإسلام عاهدت رسول الله -ﷺ- أن ما لهم من ربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فلما حلت آجال ديونهم بعثوا إلى مدينيهم للإقضاء منهم، فامتنع المدينون عن دفع الربا باعتبار أنه قد أصبح محرمًا، فنزلت هذه الآية بنهيهم عن الاستمرار فيه بعد أن دخلوا فى الإسلام([1])، ثم توعدهم الله بأنهم إذا لم يتركوا الربا فسيكونون أعداءً لله ولرسوله في قوله -تعالى-: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].

أما تحريم الربا في السنة فقد وردت عن رسول الله -ﷺ-عدة أحاديث تحرمه، وتعظم أمره، وتشدد في تحريمه، منها: قوله-ﷺ-: (الربا سبعون حوبًا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه)([2])، وفي رواية: (الربا ثلاثة وسبعون بابًا)([3])، ومنها: قوله-عليه الصلاة والسلام-: (درهم ربا يأكله الرجل -وهو يعلم- أشد عند الله -تعالى- من ست وثلاثين زنية)([4])، ومنها: أنه -عليه الصلاة والسلام- لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، وقال: (هم فيه سواء)([5]).

والأدلة في تحريم الربا كثيرة، وقد دلت في مجملها على أنه من أشد المنكرات؛ لما فيه من الاستغلال والفساد في الأرض، كما دلت الوقائع في كل زمان ومكان على أن الربا من أشد أنواع الظلم، فقد روي أن هناك في الوقت الحاضر ستة ملايين شخص أصبحوا في أحد البلدان الأسيوية أرقاء بسبب الربا المترتب عليهم من عدم قدرتهم على سداد ديونهم عند حلول آجالها؛ مما أعطى دائنيهم الحقَّ في استعبادهم، وتشغيلهم في أسوأ الظروف.

الأمر الثاني: مدى حق أحد طرفي العقد في الامتناع عن تنفيذ التزاماته بموجب العقد بحجة ما فيه من الربا.

الأصل في ديننا الوفاء بالعقود؛ لما في ذلك من صلاح التعامل بين المتعاقدين، وما يؤدي إليه من انتظام الحياة، وسلامتها من الخصام والشقاق، ونفي الفساد، وقد أمر الله -تعالى-عباده المؤمنين بالوفاء بالعقود في قوله  -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34]، كما أمر الله -تعالى- بالوفاء بالعهد مقترنًا بالنهي عن نقضه بعد توكيده، وبعد أن صار الله عليه شاهدًا ورقيبًا في قوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون} [النحل: 91]، ثم شبه الله -تعالى- من ينقض العهد بالمرأة التي تنقض غزلها بعد فتله في قوله -تعالى-: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل: 92]، وقد دل هذا على أن نقض العهد يعد خيانة وغدرًا، وهو ما عناه  -عز وجل- بقوله -تعالى-: {دَخَلًا بَيْنَكُمْ}. هذا في كتاب الله.

أما في السنة: فقد أكد رسول الله -ﷺ- أن المسلم مرهون بما شرطه على نفسه، وتعاهد عليه، وذلك في قوله-عليه الصلاة والسلام-: (المسلمون على شروطهم)([6])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا (عقدًا) ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت)، وقصة ذلك: أن قبائل من قريش اجتمعت في دار عبد الله بن جدعان، وتعاهدوا على ألا يجدوا في مكة مظلومًا من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته، وقد عرف هذا الحلف أو العهد بحلف الفضول([7]).

والأمر بالوفاء بالعقود يشمل كل ما عقده الإنسان على نفسه من بيع، وشراء، ودين، وإجارة، ونكاح، وغير ذلك، كما يشمل كل ما عقده الإنسان على نفسه من الطاعة لله من العبادات، والنذور، ونحو ذلك، ولا مراء في أن الأمر بالوفاء بالعقود مشروط بموافقتها لشرع الله، فما كان موافقًا للشرع وجـب الوفاء به، وما لا فلا.

وقد بـينـت السنة النبوية ما يحل من العقود، وما يحرم منها، كما سبقت الإشارة إليه.

هذا من حيث العموم في المسألة، والسؤال هنا: هل يحق للطرف المسلم التحلل من العقد الذي عقده على نفسه بحجة عدم شرعيته بالنسبة له؟.

يرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد: أنه ليس بين المسلم والحربي في دار الحرب ربا، فلو باع مسلم دخل إليهم مستأمنًا درهمًا بدرهمين حل، واستدل على ذلك بما روي عن النبي -ﷺ-أنه قال: (لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب)([8]).

وقد خالفهما في ذلك أبو يوسف، وقال: هذا لا يجوز؛ لأن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق غير المسلمين؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده، وقد دل على تحريم الربا عندهم قول الله -تعالى-: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}([9]).

وفي مذهب الإمام مالك: قول يرى أنه ليس للمسلم أن يعقد عقدًا فيه ربا إذا دخل بلاد الحرب([10])، وفي قول آخر يعد الربا مع الحربي في دار الحرب مكروهًا، وليس بحرام؛ لأنه لما جاز له أن يأخذ من ماله ما لم يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه، وكره من أجل أنه لم يأخذه على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله، وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا([11]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: لا فرق في تحريم الربا بين “دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسـلام كان حرامًا فى دار الحـرب، سـواءٌ جـرى بين مسلمـين، أو مسلم وحربي”([12]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام؛ لأن ما كان محرمًا في دار الإسلام كان محرمًا في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، واحتجوا بأن حديث (لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب) الذي سبقت الإشارة إليه خبر مرسل لا تعرف صحته، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول، ومن المحتمل أن المراد بقوله: (لا ربا) النهي عنه، وليس إباحته([13]).

ومن أقوال الفقهاء المشار إليها يتبين أن الإمام أبا حنيفة وصاحبه محمدًا يريان انتفاء الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب.

كما أن هناك قولًا في مذهب الإمام مالك يقول بكراهته، وعدم تحريمه، ونحن في هذه المسألة أمام قضية بين مسلم وغير مسلم، عَقَدَا عَقْدًا في بلاد تحكم علاقاتها بالبلدان الأخرى عقود مُسالمةٍ وأمانٍ في إطار المواثيق والأعراف الدولية، فيكون من عقد فيها عقدًا قد دخل في أمانها، فعلى رأي الإمام أبي حنيفة وصاحبه: ليس في العقد محل المسألة ربا؛ لأنه إذا لم يكن بين المسلم والحربي في دار الحرب ربا فقد يكون من الأولى ألا يكون بين المسلم وغير المسلم (غير المحارب) ربا في دار غير الإسلام.

قلت: ولعل هذا الرأي يؤدي إلى التحايل، فتعقد عقود الربا تحت حجج كثيرة، والأَولى -بل الأوجب- أن يُنظر إلى هذه المسألة ومثيلاتها من خلال نية الطرف الذي يحاول التحلل من عقده بحجة ما فيه من الربا، فهو لا يخلو من احتمالين:

الاحتمال الأول: أن يكون قد عقد عقده (بما فيه من الزيادة الربوية)، وهو جاهل بتحريم الربا، فهذا يدخل في حكم قول الله  -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [البقرة: 278]، فيجب عليه وجوبَ عينٍ الكفُّ عن الربا فيما يستقبل من معاملاته وعقوده، أما عقده السابق فمع أنه يعد فاسدًا في ذاته إلا أنه يبقى واجب النفاذ في حقه، وذلك من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أن فساد العقد في ذاته قد لا يمنع من ترتب بعض آثاره أو كلها لعلة أو سبب معين، ومن ذلك-على سبيل المثال-: أن الله -سبحانه وتعالى-قد ذم الظهار، ووصفه بالزور والمنكر من القول، ولكنه أوجب الكفارة على من عاوده، كما في قوله -تعالى-: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور} [المجادلة: 2]، وقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}([14]).

الوجه الثاني: ألا يتبين أن الطرف الثاني (غير المسلم) في العقد قد ارتكب فعلًا يمكن مؤاخذته عليه، فلم يظهر من المسألة أنه قد استدرج الطرف الآخر لعقد العقد، أو جاوز أمرًا يخالف ما في بلاده من قواعد، وتدل ظواهر المسألة على أن المتحلل من التزاماته قد سعى إلى الطرف الآخر في بلاده، وعقد معه عقدًا بموجب أنظمتها وقواعدها.

وقـد أوجـب الله إتمام العـهد مع المشركين، مع أنه قد تبرأ مـنهم في قوله -تعالى-: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] إلى قوله -تعالى- في الآية التالية: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وهذا واضح في أن من كان له عهد إلى زمن معين وجب عليه الوفاء به ما دام شريكه لم ينقصه شيئًا، ولم يخنه، أو يعاون عليه عدوًّا، فإذا كان هذا هو الحال مع المشركين وقد تبرأ الله منهم، فإن حال أهل الكتاب أوجب وأولى بالوفاء بالعقود معهم.

الوجه الثالث: أن النكث بالعهد ليس من صفات المسلم؛ لما فيه من فساد الأحوال، واختلال العلائق بين الناس في معاملاتهم؛ مما يؤدي إلى الفتن، فما من عقد أو عهد إلا ويد الله فوقه، ومن نكث عنه يرتد إليه فعله؛ استدلالًا بقول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، وقد روي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-قوله: “ما نقض قوم العهد إلا أُديل عليهم للعدو”([15]).

الاحتمال الثاني لمحاولة التحلل من الالتزام بالعقد: أن يكون صاحبه يعلم بتحريم الربا، ومع ذلك عقد عقده رغم علمه، ثم طرأت عليه التوبة، ففي هذه الحال عليه الامتناع عن ارتكاب هذا الإثم فيما يستقبل من عقوده كما مر ذكره، أما إن كان قد عقد عقده رغم علمه بتحريم الربا، وفي نيته التحلل منه، فهذا يعد من باب الغدر والخيانة، وقد نهى الله عن ذلك في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27]، وقال -تعالى-:{إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِين} [الأنفال: 58]، كما بين رسول الله -ﷺ- أن الغدر من صفات المنافقين في قوله: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([16])، وقال-عليه الصلاة والسلام-: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان)([17])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (من كـان بينه وبين قوم عـهـد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى ينقضي أمرها)([18]).

وعلى هذا فإن محاولة الخيانة توجب عقاب صاحبها بإلزامه بما عقده على نفسه، وإن كان العقد يعد فاسدًا في ذاته؛ لأن الله -تعالى-يقول: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].

وخلاصة المسألة: أنه يتعلق بها أمران:

الأمر الأول: تحريم الربا، وقد شدد الله في تحريمه؛ لما فيه من محاربة لله ولرسوله، ولما فيه من الإثم والفساد، واستغلال القوي للضعيف.

الأمر الثاني: مدى حق أحد طرفي العقد في الامتناع عن تنفيذه بحجة ما فيه من الربا، والأصل في ديننا الوفاء بالعقود.

والطرف الذي أراد التحلل من التزامه بين احتمالين:

أولهما: أن يكون عقد عقده بما فيه من الربا، وهو جاهل بتحريمه، فهذا يجب عليه وجوبَ عينٍ تقوى الله، والكفُّ عن الربا فيما يستقبل من عقوده ومعاملاته، أما عقده السابق فمع أنه يعد فاسدًا في ذاته، إلا أنه واجب النفاذ في حقه؛ لأن فساده لا يمنع من ترتب بعض آثاره أو كلها لأسباب معينة، منها: أن الله أوجب إتمام العهود مع المشركين، مع أنه قد تبرأ منهم، وحال أهل الكتاب أوجب وأولى بالوفاء بالعقود معهم، ومنها: أن النكث بالعهد ليس من صفات المسلم؛ لما في ذلك من فساد الأحوال، وظهور الفتن.

وثانيهما: أن يكون صاحبه يعلم تحريم الربا، ومع ذلك عقد عقده رغم علمه، ثم طرأت عليه التوبة، ففي هذه الحال يجب عليه الامتناع عن ارتكاب هذا الإثم فيما يستقبل من معاملاته، أما إن كان قد عقد عقده، وفي نيته التحلل منه، ففعله هذا يعد من باب الغدر والخيانة؛ مما يوجب عِقابه بإلزامه بعقده، وإن كان هذا العقد فاسدًا في ذاته.

والله أعلم.

 

([1]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 ص 363.

([2]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، برقم (2274)، سنن ابن ماجة ج2 ص 764، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٨٥٨).

([3]) رواه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، برقم (2275)، سنن ابن ماجة ج2 ص 764، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٨٥9)..

([4]) أخرجه أحمد في المسند ج5 ص 225، والبرهان فوري في كنز العمال ج4 ص 106، صححه الألباني في غاية المرام، (١٧٢).

([5]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب الربا، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص 26، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج1 ص 393.

([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب في الصلح برقم (2353)، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في الرقبى برقم (1352)، سنن الترمذي ج3 ص634-635، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦٧١٤.

([7]) البداية والنهاية لابن كثير ج2 ص271-272.

([8]) ذكره الزيلعي في نصب الراية، كتاب البيوع، باب الربا، برقم (6395) وقال: “غريب، وأسنده البيهقي في المعرفة، في كتاب السيرة، عن الشافعي، قال: قال أبو يوسف: إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (لا ربا بين أهل الحرب)، أظنه قال: وأهل الإسلام، قال الشافعي: وهذا ليس بثابت، ولا حجة فيه”، نصب الراية ج4 ص 44.

([9]) سورة النساء، من الآية 161، وانظر في هذا: فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني، مع شرح العناية على الهداية للبابرتي، ج7 ص38-39، وبدائع الصنائع للكاساني ج5 ص192-194.

([10]) المدونة الكبرى للإمام مالك برواية سحنون ج3 ص279، وانظر: القوانين الفقهية لابن جزي ص192، وانظر: المعيار المعرب والجامع المغرب للونشريسي ج6 ص433-434.

([11]) البيان والتحصيل لابن رشد ج17ص291.

([12]) المجموع شرح المهذب للنووي ج9 ص391-392، وانظر: الحاوي الكبير للماوردي ج6 ص85-86.

([13]) المغـني والشرح الكبير لابن قدامة ج4 ص162-163، والإنصاف للـمرداوي ص52-53.

([14]) سورة المجادلة، من الآية 3، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج29 ص161-162.

([15]) نظرية العقد لابن تيمية ص65، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج زاد المعاد، (٣/١١٤): [فيه] بشير بن المهاجر، وفيه لين [وله شواهد].

([16]) متفق عليه، أخرجه الإمام البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (34)، فتح الباري ج1 ص111، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب خصال المنافق، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 46-47.

([17]) متفق عليه، واللفظ لمسلم، أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب إثم الغادر للبر والفاجر، صحيح البخاري ج4 ص 72، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص 42-43.

([18]) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد، فيسير إليه، وأخرجه النسائي في الكبرى، كتاب السير، باب الوفاء بالعهد، وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في الغدر برقم (1580)، سنن الترمذي ج4 ص121-122، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٢٧٥٩).