ومفاد المسألة سؤال يقول: إن شخصًا أقام قريبًا له وصيًّا على أولاده القصر لرعايتهم إلى حين رشدهم، وعملًا بهذه الوصية قام الوصي بالتصرف في أموال القصر بيعًا وشراءً وإيجارًا على الوجه الذي يعتقد أن فيه مصلحةً لهم، وكان من ضمن تصرفه بيع أحد العقارات المملوكة لهم، وقد اعترضت أمهم لتصرفه، مدعيةً أنهم ليسوا في حاجة إلى ثمنه، وأن بيعه يضر بهم.

الحكم إذا بـاع الـوصـي عـقـارا لـيـتـيـم من غير حاجة، ولا اضطرار إلى ثمنه

والسؤال عما إذا كان تصرف الوصي ببيع العقار يعد مشروعًا أم لا.

والجواب من حيث العموم: أن اليتيم حال يتمه في حاجة إلى الرعاية، والإحسان إليه، حيث إن تلك المرحلة من حياته مرحلة ضعف توجب الوصاية عليه، كما توجب حسن هذه الوصاية ممن يقوم بها، وقد أوجب الله رعاية اليتيم في نفسه بدليل الكتاب والسنة:

أما الكتاب: فقد نهى الله نبيه -ﷺ- عن قهر اليتيم في قوله -تعالى-: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر} [الضحى: 9]، والقهـر يشمل عدة معان، منها: النهي عن ظلمه، والنهي عن احتقاره أو امتهانه، أو إذلاله، ومنها وجوب الإحسان إليه، واللطف به والكينونة بمنزلة والده.

وأما السنة: فقد وردت عدة أحاديث في فضل كفالة اليتيم، منها: قول رسول الله -ﷺ-: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)([1])، وأشار بالسبابة والوسطى، والمقصود به في الجنة، كما أوجب الله رعاية اليتيم في ماله، وقد دل على ذلك الكتاب والسنـة.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].

وفي هذه الآية أمر بإعطاء اليتامى أموالهم، وعدم تبديلها بأخذ الجيد منها، وضمه إلى مال الوصي، وضم الرديء من ماله لمال اليتيم، وفي هذه الآية -أيضًا- نهي عن أكل أموال اليتامي بضمها إلى مال الأوصياء، كما كان العرب في الجاهلية يفعلون، وقد وصف الله ذلك بالحوب الكبير، أي: الإثم العظيم.

وقيل: إن هذه الآية نزلت في رجل من قبيلة غطفان، كان وصيًّا على مالٍ كثيرٍ لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم رشده طلب من عمه أن يرد إليه ماله، فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فقال عمه: أعوذ بالله من الحوب الكبير، ورد المال على صاحبه، فقال رسول الله -ﷺ-: (من يوق شح نفسه، ورجع به هكذا فإنه يحل داره)، أي: جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله([2]).

وقد بنى الفقهاء -رحمهم الله – على هذه الأحكام قاعدة عامة تتلخص في أن تصرف الوصي في مال اليتيم مبنيٌّ على ما فيه مصلحة له.

 ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الوصي إذا احتال بمال اليتيم، فإن كان خيرًا له جاز، وهـو أن يكون أملأَ، حيث إن الولاية نظرية، وإن كان الأول أملأ فلا يجوز؛ لأن فيه تضييعَ مالِ اليتيم، وقال المتأخرون من أصحاب المذهب: لا يجوز للوصي بيع عقار الصغير إلا في حالات ثلاث:

أولها: إذا كان على الميت دين لا وفاء له إلا من ثمن العقار.

الحالة الثانية: إذا كان للصغير حاجة لثمن العقار.

الحالة الثالثة: إذا كان المشتري يرغب في شراء العقار؛ لضعف القيمة، والفتوى على هذا في المذهب([3]).

أما في مذهب الإمام مالك: فقد سئل الإمام مالك-رحمه الله -عما إذا كان للوصي بيع عقار اليتامى، فقال: لهذا وجوه: أما الدار التي لا يكون في غلتها ما يحملهم، وليس لهم مال ينفق عليهم منه، فتباع، وليس في ذلك من بـأس، أو يكون هناك من يرغب فيها، فيعطي الثمن الذي يرى أن ذلك غبطة له، مثل الملك يجاوره، فيحتاج إليها، فيثمنها، وما أشبه ذلك فلا بأس، وأما على غير ذلك فلا يراه، ويضاف إلى هذا قول في المذهب يقول بجواز البيع إذا لم يكن كفاية في غلة العقار([4]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يجوز للوصي بيع عقار الصغار إذا كان هناك ضرورة، كحاجتهم إلى كسوة، أو قضاء دين، أو نفقة ما لا تندفع الحاجة إلا به، كما يجوز له بيده إذا كان في ذلك غبطة، أو كان يخاف عليه الغرق، أو الخراب، أو نحو ذلك([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يباح البيع في كل موضع يكون فيه مصلحة للصغير، ومن ذلك: أن يكون العقار في مكان لا ينتفع به، أو يكون نفعه قليلا، فيبيعه الوصي، ويشتري بثمنه عقارًا في مكان يكثر نفعه، أو يرى شيئا في شرائه غبطة، ولا يمكنه شراؤه إلا ببيع العقار، وقد يكون العقار في مكان يتضرر الصغير بالمقام فيه لسوء الجوار، فيبيعه الوصي، ويشتري بثمنه دارًا يصلح له فيها المقام ([6])..

قلت: وإذا كـان العـقـار يختلف عن غيره من الأموال الأخرى؛ لتحصنه في نفسه كما يقول الفقهاء، فإن عدم بيعه أولى وأنفع لليتيم إذا لم يكن له حـاجة قصوى لثمنه كحاجته للطعام، وقضاء الدين، ونحو ذلك مما يقدره القضاء، أما بيعه بدافع الغبطة كزيادة في ثمنه ذلك مما هو عن مثله، ونحو ذلك مما يعده الوصي في مصلحته، فالأولى عدم التساهل فيه؛ لأن البيع بدون حاجة قصوى يعد مجازفة؛ لأن الثمن عرضة للتلف والضياع؛ بدليل ما روي عن رسول الله -ﷺ-قال: (من باع دارًا أو عقارًا، فلم يجعل ثمنه في مثله، كان قمنًا ألا يبارك فيه)([7])، ناهيك عما يؤدي إليه بيع عقار اليتيم من شعوره بالغبن إذا كبر، وذلك حين يظن أن وصيه لم يحسن التصرف في ماله.

وعملًا بما تقدم من أقوال الفقهاء فإن تصرف الوصي في المسألة ببيع عقار القصر تصرف غير مشروع، طالما أنهم ليسوا في حاجة قصوى إلى ثمنه.

وخلاصة المسألة: أن الله قد فرض رعاية اليتيم في نفسه وماله، وقد دلت قواعد الشريعة وأحكامها على أن تصرف الوصي في مال اليتيم مبنيٌّ على ما فيه مصلحة له، ولما كان العقار يختلف عن غيره من الأموال الأخرى؛ لتحصنه في نفسه، فإن عدم بيعه أولى وأنفع لليتيم ما لم يكن في حاجة قصوى إلى ثمنه، كحاجته للطعام، وقضاء الدين، ونحو ذلك مما يقدره القضاء، وإذا كان للقصر في المسألة مال يكفي حاجاتهم الضرورية فلا يجوز للوصي بـيـع عـقـارهم ولو كان يعتقد أن في البيع غبطةً لهم؛ لأن الأموال النقدية معرضة للتلف.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الادب، باب فضل من يعول يتيمًا، برقم (6005)، وأخرجه أبو داود في كتاب الادب، باب فيمن قسم اليتيم، برقم (5١٥٠)، سنن أبي داود، ج۱ ص ۳۳۸.

([2]) الجامع لاحكام القرآن للقرطبي ج 5 ص 8.

([3]) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده ج۱۰ص٥۰۸ -٥١٠، وانظر: حاشية رد المحتار لابن عابدین ج۲ ص ۷۰۸-۷۰۹، وكشف الحقائق للأفغاني ج٢ ص۳۲۷-۳۲۸، والمبسوط للسرخسي ج۲۸ ص ۳۳.

([4]) المدونة الكبرى للإمام مالك رواية الإمام سحنون ج٤، ص ٢٨٨، وشرح منح الجليل لعليش ج۹ ص ٥٨٩، وانظر: مواهب الجليل للحطاب ج٦ ص۳۹۰،۳۹۹، وعقد الجواهر الثمينة لابن شاس ج۳ ص ٤٣٢.

([5]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج4 ص٣٧٦، والمجموع شرح المذهب للنووي ج13 ص ٣٤٩، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج۲ ص١٧٥، وقليوبي وعميرة ج۲ ص ٣٠٥، وحاشية الجمل على شرح النهج ج۳ ص ٣4٩.

([6]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج1 ص ٢٩٤، وانظر: الإنصاف المرداوي ج5 ص ۳۳۱-۳۳۲، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج۳ ص ٤50-٤51، والفروع لابن مفلح ج٤ ص ۳۱۹، ومجموع فتاوی شیخ الاسلام ابن تيمية ج ۳۱ ص ۳۱۹.

([7]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب من باع عقارا، ولم يجعل ثمنه في مثله، برقم (٢٤٩٠) ج2 من ٨٢٣، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج4 ص ۳۰۷، وقوله: “قمنا” أي: جديرًا وخليقًا، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٠٣٥).