ومفاد المسألة سؤال يقول: إن شخصا قد ادعى على آخر أن بينهما شراكة في أرض، وقد عين هذا اسمها ومكانها، وأحضر شاهدين، فشهد أحدهما أن بين المدعي والمدعى عليه شراكة في الأرض المذكورة، أي أنه عيَّن اسمها ومكانها كما ادعاه المدعي، وشهد الشاهد الآخر أن بين المدعي والمدعى عليه شراكة في أرض، وعند ما سُئِل عن اسمها ومكانها ذكر اسما ومكانا بدا أنه يختلف عن الاسم والمكان اللذين حددهما المدعي والشاهد الأول، ويسأل السائل عما إذا كانت هاتان الشهادتان تثبتان الشراكة بين المدعي والمدعى عليه في الأرض المذكورة. ويضيف السائل قائلا: إن على الشاهدين بعض المآخذ التي تمس عدالتهما، فماذا يجب في ذلك؟.

حكم ما يقع من تعارض أو تغاير بين شهادة الشهود

والجواب: أن الشهادة من الأمور المهمة في دعاوى الخصوم؛ لما يترتب عليها من إثبات الحقوق، أو نفيها، ولهذا أكد الإسلام على عظمها، وما يجب على الشهود من الأمانة في نقلها بما يبرئ ذممهم، ويبرئ ذمم الخصوم، وهذا لايدرك إلا بكمال الشهادة وسلامتها، سواء فيما يتعلق بها ذاتها، أو من يؤديها، وقد دل على هذا الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2]، وفي هذا أمر بإشهاد العدول من الشهود، ونفي من سواهم مخافة أن تعطى الحقوق لمن لايستحقها، وتمنع عمن يستحقها.

وقول الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء:36]، وفي هذا تأكيد على أن هذه المدارك الثلاثة مسؤولة عما يفعله الإنسان من خير أو شر.

وقوله -تعالى-: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون} [الزخرف:19]، وفي هذا تأكيد على أن ما يشهده الإنسان سوف يحاسب عليه، ويُسأل عنه، ويجازى عليه.

وقوله -تعالى-: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [الزخرف: 86]، وفي هذا تأكيد -أيضا- على أن الشهادة لا تكون إلا بالحق، وتأكيد على أنها لا تكون إلا بالعلم بها.

أما السنة: فقد ورد أن رسول الله -ﷺ- سئل عن الشهادة، فقال للسائل: «هل ترى الشمس»؟، قال: نعم!، قال: «على مثلها فاشهد، أو دع»([1]).

والتعارض أو التغاير في الشهادة على نوعين: تعارض في الشهادة ذاتها -أي: في أقوال الشاهد نفسه-، كما لو قال -مثلا-: إن لون السيارة التي دهست الشخص كان أحمر، ثم قال مرة أخرى: إن لونها أبيض. وكما لو شهد أن الأرض محل التنازع في الشراكة تقع في مكان كذا، ثم شهد مرة أخرى أنها تقع في مكان كذا -أي: في موقع آخر مغاير للموقع الأول- فهذه الشهادة متعارضة في ذاتها، وتعد غير صحيحة.

النوع الثاني: التعارض بين شهادة وأخرى، كما لو قال أحد الشاهدين: إن السيارة التي سببت الحادث كانت كبيرة، أو من نوع كذا، بينما قال الشاهد الآخر: إنها كانت صغيرة، ومن نوع آخر يختلف عن النوع الأول، فالشهادتان مغايرتان لبعضهما؛ لأن كل واحدة منهما مستقلة بذاتها.

وللفقهاء كلام طويل في التعارض بين الشهادة، وما يجب نحوه:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب أن تتفق شهادة الشاهدين فيما يشترط فيه العدد، فإن اختلفتا لم تقبلا؛ لأن هذا يوجب اختلاف الدعوى والشهادة، وعند اختلاف الشهادتين لم يوجد إلا أحد شطريها، ولا يكتفى به فيما يشترط فيه العدد.

والاختلاف قد يكون في جنس المشهود به، كما لو شهد أحد الشاهدين بالبيع، وشهد الآخر بالميراث، فلا تقبل الشهادة؛ لاختلاف العقدين في الصورة والمعنى، أو كما لو شهد أحدهما بمكيل، والآخر بموزون، فلا تقبل شهادتهما؛ لاختلاف الجنس بين المالين.

وقد يكون الاختلاف في قدر المشهود به، كما لو ادعى رجل على آخر بألفي درهم، وأقام شاهدين شهد أحدهما بألفين، وشهد الآخر بألف، فعند الإمام أبي حنيفة: لا تقبل شهادتهما، وعند صاحبيه: تقبل الشهادة على الألف.

وقد يكون اختلاف الشهادة في الزمان والمكان، فإن كانت في الإقرار قُبِل الاختلاف؛ لأن الإقرار مما يحتمل التكرار، فيمكن التوفيق بين الشهادتين؛ لسماعه عن الإقرار في زمانين أو مكانين.

وإن كان الاختلاف في الفعل -أي: في القتل والغصب وإنشاء البيع والطلاق والنكاح ونحو ذلك- فمنع قبول هذا الاختلاف؛ لأن هذا الفعل لا يحتمل التكرار، فاختلاف الزمان والمكان فيها يوجب اختلاف الشهادتين؛ مما يمنع قبولهما([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: أقوال في اختلاف الشهادة، وتصحيح بعض الشهادات لبعضها، فشهادة الأبداد (شهادة الشهود المتفرقين) تجوز في النكاح، وهي ألا تجتمع الشهود على إشهاد الولي والناكحين، بل إنما عقدوا، وتفرقوا، أو قال كل واحد لصاحبه: أشهد من لقيت. وهذا على أساس أن الشهادة ليست بشرط في صحة العقد، وهذا على خلاف ما روي عن الإمام مالك بأنها شرط.

وفي قول في المذهب: أن شهادة الأبداد لا تقبل إذا شهد كل واحد من الشهود بغير نص ما شهد به الآخر، وإن كان معنى جميع شهادتهم واحدا حتى يتفق منهم شاهدان على نص واحد.

وللإمام مالك قول خلاف ذلك -أي: بجواز المعنى في الشهادة إذا كان واحدا وإن اختلفتا، فلو قال أحدهم في شهادته: إن الأرض لهذا، وقال الآخر في شهادته: إنها حيزه، فالأرض له؛ لأن حيزه بمعنى أرضه([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا ادعى رجل على آخر بألفي درهم، وشهد له شاهد أنه أقر له بألف، وشهد آخر أنه بألفين ثبت ألف بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا على إثباتها، وله أن يحلف مع شاهد الألفين، ويثبت له الألف الآخر؛ لأنه شهد له بها شاهد([4]).

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا كانت الشهادة على فعل، فاختلف الشاهدان في زمانه، أو مكانه، أو صفة له تدل على تغاير الفعلين؛ لم تكمل شهادتهما، كما لو شهد أحد الشاهدين أنه غصبه مبلغا يوم كذا، وشهد الآخر أنه غصبه في يوم آخر، أو يشهد أحدهما أنه غصبه في مكان، ويشهد الآخر أنه غصبه في مكان آخر؛ فلا تكمل بذلك الشهادة؛ “لأن كل فعل لم يشهد به شاهدان”، وهكذا لو اختلف الشاهدان في زمن القتل، أو مكانه، أو صفته، أو في شرب الخمر، أوالقذف؛ لم تكمل الشهادة؛ لأن ما شهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر.

وإن كان الاختلاف في صفة المشهود به اختلافا يوجب التغاير، كما لو شهد أحدهما بشيء -لباس مثلا-، وشهد الآخر بشيء آخر -مبلغ مالي مثلا-؛ لم تكمل الشهادة؛ لأنه إيجاب بالحق على المشهود عليه بشهادة واحدةن فأما إن شهد بكل فعل شاهدان، واختلفا في الزمان والمكان أو الصفة؛ ثبتا جميعا؛ لأن كل واحد منهما قد شهدت به بينة عادلة، لو انفردت أثبتت الحق، والشهادة الأخرى لا تعارضها؛ لإمكان الجمع بينهما، ما لم يكن الفعل مما لا يمكن تكرره كقتل رجل بعينه، فتعارض عندئذٍ الشهادتان، فتكون إحداهما غير صحيحة([5]).

قلت: وينبني على هذا أن الشهادتين اللتين ذكرهما السائل قد تكونان متعارضتين؛ لأن كلا منهما تثبت حقا للمدعي في أرض معينة، ولكنهما لم تتفقا على اسمها ومكانها، والاختلاف البين في الشهادتين ينفي عنهما تمام البينة وكمالها؛ لأن كمالها يوجب اتفاقهما في تعيين محل الشهادة تعيينا ينفي الشك، ويوجب اليقين؛ استدلالا بقول رسول الله -ﷺ-: «هل ترى الشمس»؟، قال: نعم!، قال: «على مثلها فاشهد، أو دع»([6])، والعلم بالشمس يعني اليقين إما بالمعاينة وإما بنحوها.

ومع هذا فإن تحقيق صحة الشهادة، ومدى تغايرها أو تعارضها من الأمور التي تخضع لتدقيق القضاء، وقد ذكرنا فقط بعضا من أقوال الفقهاء في المسألة.

أما السؤال عما إذا كانت هاتان الشهادتان تثبتان الشراكة بين المدعي وخصمه، فإن إثبات إحداهما أو نفي الأخرى يرجع لتقدير القضاء.

أما قول السائل: إن على الشاهدين بعض المآخذ التي تمس عدالتهما، فهذا مرجعه للقضاء للنظر فيما يدعيه أحد الخصمين عليهما من حيث الجرح أو التعديل.

وخلاصة المسألة: أن الشهادة من الأمور المهمة في دعاوى الخصوم؛ لما يترتب عليها من إثبات الحقوق أو نفيها، ولهذا أكد الإسلام على عظمها، وما يجب على الشهود من الأمانة في أدائها، والشهادة لا تكون إلا بالحق وبالعلم بها.

والتعارض أو التغاير في الشهادة على نوعين: تعارض فيها ذاتها -أي: في أقوال الشاهد نفسه-، وتعارض بين شهادة وأخرى، ويبدو أن الشهادتين اللتين ذكرهما السائل قد تكونان متعارضتين؛ لأن كلا منهما تثبت حقا في أرض معينة، ولكنهما تختلفان في الاتفاق على اسمها ومكانها.

والاختلاف البين فيهما ينفي عنهما تمام البينة وكمالها، ومع هذا فإن تحقيق الشهادة ومدى تغايرها أو تعارضها من الأمور التي تخضع لتقدير القضاء، ولهذا فإن إثبات أو نفي الشراكة في الأرض أو نفيها بين المدعي والمدعى عليه يرجع لتقدير القضاء.

أما قول السائل: إن على الشاهدين بعض المآخذ التي تمس عدالتهما فهذا مرجعه إلى القضاء؛ للنظر فيما يدعيه أحد الخصمين من حيث الجرح أو التعديل. والله أعلم.

([1])  كنز العمال للبرهان فوري ج7، ص23، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي ج10، ص156، ضعف إسناده ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام، (٤٢٠).

([2]) بدائع الصنائع للكاساني ج6، ص278 -279، وانظر: فتح القدير لابن الهمام ج7، ص383، 440-444، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي ج2، ص143-145، والمبسوط للسرخسي ج16، ص116، 173-176.

([3])  تبصرة الحكام لابن فرحون ج2، ص6-8، وانظر: أسهل المدارك للكشناوي ج3، ص213، 226، وشرح منح الجليل لعليش ج8، ص473-476، ومواهب الجليل للحطاب ج6، ص210، والتاج والإكليل للمواق هامش مواهب الجليل ج6، ص210.

([4])   المجموع للنووي ج20، ص272-274، وانظر: الحاوي الكبير للماوردي ج21 ص262-266، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج2، ص320، 338.

([5])   المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج12، ص130-132، وانظر: الإنصاف للمرداوي ج12 ص24-28، وكشاف القناع للبهوتي ج6، ص413-415، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج6، ص604، والفروع لابن مفلح ج6، ص544-546، ومنتهى الإرادات للبهوتي ج3، ص542-543.

([6]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الشهادات، باب التحفظ في الشهادة والعلم.ج۱۰، ص١٥٦، وذكره البرهان في كنز العمال، كتاب الشهادات، باب في أحكامها وآدابها، برقم (۱۷۷۸۲)، ج۷ ص ۲۳، ضعف إسناده ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام، (٤٢٠).