ومفاد المسألة سؤال يقول: إن رجلا يعول أسرة كبيرة، وقد تعب في الحصول على رزق يكفي لإطعامها؛ مما جعله يتعرض لضغوط وآلام نفسية يخشى أن تؤثر في حياته، وقد نصحه أحد أصدقائه أن يبيع إحدى كُلْيَتَيْهِ؛ ليحصل على مبلغ كبير من المال، وأن هذا البيع -كما يقول صديقه- لن يؤثر في حياته؛ لكونه يستطيع العيش بكُلْيَةٍ واحدة. والسؤال عما إذا كان هذا جائزًا من الناحية الشرعية؟.

حكم من يبيع أحد أعضائه بحجة حاجته إلى إطعام نفسه ومن يعول

والجواب عن هذا يتطلب أولًا معرفة ما إذا كان الإنسان يملك نفسه أم أنها ملك الله  -عز وجل-، وفي هذه الحالة هل يحق للإنسان التصرف في جسده، فينقل منه ما شاء بيعًا أو هبة أو نحو ذلك؟.

لقد أوجد الله الإنسان من العدم، فسواه، وصوره، وخلقه في أحسن تقويم، فهو بهذا مالكه المتصرف في حياته وموته، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه عليه، ومع كون هذا من المحسوس والمعقول فهو معلوم من الدين بالضرورة، والأصل فيه كتاب الله، وسنة رسوله محمد -ﷺ-:

أما الكتاب: فالآيات فيه كثيرة، منها قول الله -تعالى-: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 255]، وقوله -تعالى-: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ} [الأنعام: 12]، وقوله -تعالى-: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 13]، وقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، وقوله -تعالى-: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} [الشوري: 4]، وقوله -تعالى-: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشوري: 12]، وقوله -تعالى-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس} [الناس: 1-2]، والآيات في هذا كثيرة.

وأما السنة: فقد ورد قول رسول الله -ﷺ-: (إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب)([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (الخلق كلهم عيال الله..الحديث)([2]).

وينبني على ذلك أن الإنسان ملك لله  -عز وجل-، يتصرف فيه كيف شاء، ورحمةً منه بعباده حرم الاعتداء عليهم، فقال -تعالى-: {وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة: 190]، كما حرم عليهم الإضرار بأنفسهم في قوله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [البقرة: 195].

وإذا كان هذا هو الأصلَ المعلومَ من الدين بالضرورة فقد انتفى القول بـ”ملكية الإنسان لنفسه”، فلم يبق إلا معرفة ما إذا كان ثمة استثناء من ذلك، وهذا يمكن البحث عنه في القواعد الكلية والجزئية للشريعة والقياس عليها.

لقد بحث فقهاؤنا -رحمهم الله – هذه المسألة من حيث بيع ما ينفصل بطبيعته من الإنسان كاللبن والشعر، وما لا ينفصل.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يجوز بيع لبن امرأة في قدح؛ لأنه جزء من الآدمي، ليس بمال، وما ليس بمال لا يجوز بيعه، ولا يضمن متلفه؛ لأن المضمون ما انتقص من الأصل، ولأنه كذلك جزء مكرم من الآدمي مصون عن الابتذال والبيع.

وقد جوزه بعض أصحاب المذهب إذا كان القصد منه التداوي، ولم يوجد دواء غيره([3]).

وفي مذهب الإمام مالك: يجوز بيع لبن الآدميات؛ لكونه طاهرًا، ينتفع به، ويستوي في طهارته كونه من ذكر أو أنثى، من مسلم أو غير مسلم([4]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يجوز بيع لبن الآدميات؛ لأنه طاهر، منتفع به، فجاز بيعه كلبن الشاة، ولأنه غذاء للآدمي، فجاز بيعه كالخبز، وقال بعض أصحاب المذهب بعدم جواز بيعه؛ لأنه نجس، وإنما يربى به الصغير للحاجة، واحتج من قال بهذا بأنه فضلةُ آدميٍّ كالدمع والعرق، وبأن ما لا يجوز بيعه متصلًا لا يجوز بيعه منفصلًا كشعر الأدمي، ولأنه لا يؤكل لحمها، فلا يجوز بيع لبنها([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد: كرهه الإمام أحمد، واختلف أصحاب المذهب في جوازه، فبعضهم جوزه؛ لأنه طاهر، منتفع به، فجاز بيعه كلبن الشاة، ولا يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر، فأشبه المنافع، وهذا خلاف العرق، لأنه لا نفع فيه، ولذلك لا يباع عرق الشاة، ولكن يباع لبنها وجميع أجزاء الآدمي يجوز بيعها في حال المملوك، ويحرم بيع العضو المقطوع؛ لأنه لا نفع فيه.

وفي المذهب يعد شعر الآدمي طاهرًا، ما اتصل منه وما انفصل في حياته وبعد موته، واستدل من قال بهذا بأن النبي -ﷺ- فرق شعره بين أصحابه، قال أنس: “لما رمى النبي -ﷺ-، ونحر نسكه، ناول الحالق شقه الأيمن، فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، قال: (احلقه)، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، وقال: (اقسمه بين الناس)([6]).

ورُوي أن معاوية أوصى أن يجعل نصيبه منه في فيه إذا مات، ولو كان نجسًا لما فرقه النبي -ﷺ-.

وقد علم أنهم يأخذونه يتبركون به، ويحملونه معهم تبركًا به، وما كان طاهرًا من النبي -ﷺ- كان طاهرًا ممن سواه كسائره([7]).

وخلافًا للإمام أبي حنيفة فإن مذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد على جواز بيع لبن الآدمية، وجواز بيع شعر الآدمي في مذهب الإمام أحمد، ولعلهم نظروا إلى اللبن والشعر على أنهما منفصلان، بينما رأوا أن المتصل من الآدمي لا يجوز بيعه، باستثناء ما ورد في المذهب الحنبلي (المشار إليه آنفًا) من جواز بيع أجزاء المملوك، وهي مسألة لا يمكن التعويل عليها في الوقت الحاضر؛ لانتهاء الرق.

قلت: وعلى هذا يمكن القول بجواز بيع اللبن والشعر أو الدم من الآدمي باعتبارهما طاهرين ومنفصلين.

أما الأعضاء فلا يجوز للإنسان أن يتصرف فيها بالبيع، كما لا يجوز لغيره أن يفعل ذلك؛ لأن النفس ملك لله  -عز وجل-؛ استدلالًا بالمنقول والمعقول.

أما المنقول: فإن الله -تعالى- هو مالك النفس، المتصرِّفُ فيها كما مر ذكره في الأحكام السابقة، واستدلالًا بأنه  -عز وجل- حرم إيذاء النفس، أو الإضرار بها، أو تعريضها للخطر في قوله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ولا شك في أن نقل جزء منه يعرضه للخطر، فمن له كليتان أفضل حالًا ممن له كلية واحدة، ومن له عينان أفضل حالًا ممن له عين واحدة وهكذا.

وأما المعقول: فإن للآدمي حرمةً وكرامةً، وفي بيعه لأعضائه إهدار لهذه الكرامة، ناهيك عما يؤدي إليه ذلك من استغلال القوي للضعيف، وتحويله إلى سلعة مادية.

وفي المسألة قد يقول قائل: إن حفظ النفس من الضرورات الشرعية، وإن بيع جزء من جسد صاحب العائلة يحفظ نفسه، ويحفظ نفس من يعول.

وفي هذا القول تغرير، ومجازفة بالنفس، فمهما كانت ظروف العيش ومصاعبه في المكان الذي يقع فيه السائل فإنها لا تصل إلى درجة ألا يحفظ الإنسان نفسه إلا ببيع جزء منه.

ولعل ما يدفع الذين يفكرون في بيع جزء من أجسادهم كالْكُلْيةِ([8]) هو الإغراء المادي الذي يحصلون عليه دون إدراكهم للآثار والأضرار التي تترتب على هذا البيع.

وخلاصة المسألة: أن الله أوجد بني آدم من العدم، فسواهم، وصورهم، وخلقهم في أحسن تقويم، ومع كون هذا من المحسوس والمعقول فهو معلوم من الدين بالضرورة، لأن الله  -عز وجل-هو مالك السموات والأرض ومن فيهن، وينبني على ذلك أن الإنسان ملك له -عز وجل-، فلا يجوز له-أي: الإنسان-أن يتصرف في نفسه كيف شاء، كما لا يجوز لغيره أن يفعل ذلك.

وقد بحث الفقهاء مسألة بيع ما ينفصل بطبيعته من الإنسان كاللبن والشعر، وما لا ينفصل كالعضو، ففي مذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد: يجوز بيع اللبن والشعر؛ لكونهما منفصلين، بينما رأوا عدم جواز بيع المتصل من الآدمي، ويرى الإمام أبو حنيفة عدم بيع جزء من الآدمي منفصلًا أو متصلًا.

وعلى هذا لا يجوز للرجل المذكور في المسألة أن يبيع جزءًا من جسده؛ لما في ذلك من المجازفة بالنفس، والإضرار بها، ولا حجة للقول بحفظ نفسه وحفط من يعول؛ لأن ظروف العيش ومصاعبه في المكان الذي يقع فيه لا تصل إلى درجة ألا يحفظ نفسه إلا ببيع جزء منه، ولعل ما يدفع الذين يفكرون في بيع جزء من أجسادهم كالكُلية هو الإغراء المادي الذي يحصلون عليه دون إدراك للآثار والأضرار التي تترتب عليهم.

والله أعلم.

([1]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج5 ص 411. وأخرجه مسلم (1218).

([2]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، ج8، ص191، وكنز العمال للبرهان فوري، ج6، ص360، قال الألباني في السلسلة الضعيفة، (١٩٠٠): ضعيف.

([3]) فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني، ج6، ص423-424، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5، ص71، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج5، ص145، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي، ج3، ص64.

([4]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج2، ص337، وانظر: شرح منح الجليل على مختصر خليل للشيخ عليش، ج1، ص47-48، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق، ج4، ص265.

([5]) المجموع شرح المهذب للنووي، ج9، ص254.

([6]) الفروع لابن مفلح، ج1، ص108، وانظر الحديث في صحيح مسلم بشرح النووي، ج9، ص52-53-54.

([7]) المغني للإمام ابن قدامة، ج6، ص363-364، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3، ص154، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2، ص142-143، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد للمرداوي، ج4، ص274-277، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج1، ص67، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج29، ص222، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح، ج1، ص252.

([8]) القول في هذه المسألة خاص بالبيع، أما في حالات موت الدماغ، والوصية بالتبرع بالأعضاء ونحو ذلك. فهذا له بحث آخر.