والسؤال هو عما إذا كانت هذه الحجج تعد عذرا شرعيا، خاصة أن الكثير من حوائج الناس يتطلب إنجازا عاجلا؛ لما في تأخيرها من إضرار بهم وبمصالحهم.
والجواب: أن الموظف أيا كان مسمى وظيفته، وأيا كان علوها، أو ضعفها يعد بمثابة الأجير الذي يتقاضى أجره من الآجِرِ لأداء خدمة أومنفعة معينة له أو لأتباعه حسب العمل أو الحال أو المركز الذي عهد به إليه، وقَبلِهُ طائعا، وهذا يوجب عليه في كل الأحوال أن يكون أمينا فيما عهد به إليه، وناصحا ووفيا لمن عهد إليه بعمل أو نحوه، فإن فعل غير ذلك أصبح مسؤولا ديانة وقضاء.
أما الديانة فالأصل فيها الكتاب والسنة.
ففي الكتاب: قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، ففي هذه الآية أمر بالعدل، سواء في الشهادة أو القضاء، أو في أي عمل يعمله الإنسان، سواء في علاقته مع ربه، أو في علاقته مع جنسه، لا فرق في ذلك بين أقرب الناس إليه وأبعدهم منه، غنيهم وفقيرهم فيه على حد سواء، وفي الكتاب قول الله -تعالى-: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وقد دل هذا على وجوب العدل، وأن بغض إنسان لآخر لا يحمله على عدم العدل، وأن التعاون على البر والخير ليس على الشر والإثم، وفي الكتاب قول الله -تعالى- في تحريم الخيانة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال:27]، وفيه قول الله -تعالى-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7: 8].
أما الأدلة من السنة: فقد روي عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: «ومن ولي من أمر الناس شيئا، فاحتجب عن أولي الضعفة والحاجة؛ احتجب الله عنه يوم القيامة»([1])، كما روي عنه -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- أنه قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»([2])، وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به»([3])، وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور»([4])، وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»([5]).
هذا عن المسؤولية ديانة، وما يترتب من الإثم على الإخلال بها.
أما القضاء: فإن للآجر الحق في أن يقتص من أجيره بقدر ما نقصه من عمله، والاقتصاص إما أن يكون عقوبة يضعها عليه، كما هو الحال في تأديب الموظف، ومعاقبته جزاء إخلاله بواجباته، فإن تعذر عقابه لعدم اكتشاف مخالفته انقلبت عقوبته إلى عقوبة دينية، وسيكون الجزاء هنا عسيرا؛ لأنه في هذه الحالة يعمل للناس كافة، وقد دلت أقوال الفقهاء على عظم مسؤولية من يلي من أمور الناس شيئا، وما يجب عليه من الإخلاص والنصح لهم، ومراعاة أحوالهم، والإسراع في قضاء حوائجهم.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب على القاضي مراعاة الأقدم فالأقدم في رؤية الدعوى، بحيث يأمر أحد أمنائه ليعلم بواسطته ترتيب حضور أصحاب المصالح إلى المحكمة، وعلى هذا الأمين أن يحرر من جاء أولا، وثانيا، وثالثا، ولكن إذا كان تعجيل دعوى وردت مؤخرا من إيجاب الحال والمصلحة، كأن يكون صاحبها غريب الديار أو غيره من الأسباب المشروعة، فيقدم رؤيتها على غيرها من الدعاوى. والغريب هنا: من كان بعيدا عن أهله وعياله، أي: لا يستطيع بعد المرافعة أن يذهب وينام عندهم..([6]).
ويستدل على هذا بما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: قدِّم الغريب، فإنك إذا لم ترفع به رأسا ذهب، وضاع حقه، فتكون أنت الذي ضيعته.
كما يجب على القاضي إجراء التدقيقات في المرافعات مع عدم طرح الدعاوى في زوايا الإهمال، أي: يجب عليه الإسراع في فصل الدعوى([7])، ولا يجوز له تأخير الحكم إذا حضرت أسبابه، فإن أخر ذلك يكون آثما بترك الواجب، ويستحق العزل([8]).
وفي مذهب الإمام مالك: يجب على القاضي الاهتمام والنظر في أمر المحبوسين، وإذا تداعى عنده مسافرون وغيرهم، وتنازعوا في التقديم للدعوى قدم المسافر على الحاضر، إلا إذا كان يحصل للمقيم ضرر بسبب تقديم المسافر عليه، فيقدم عليه المقيم، فإن حصل لكلٍّ ضرر بسب تقديم الآخر أقرع القاضي بينهما.
كما يقدم ما يخشى منه فوات كمن يدعي نكاحا استحق الفسخ قبل الدخول، ويخشى إن أخر النظر فيه أن يحصل دخول، ومثل ذلك من يدعي طعاما يسرع إليه الفساد.
أما دعاوى أرباب الصنائع كالخباز والطحان فيقدم الأول فالأول، ما لم يكن ثمة عرف، فيعمل به، وإلا قدم الآكد فالآكد، كالأشد جوعا، أو الأقرب لفساد شيئه.
وإذا كان القاضي لا ينبغي له الجلوس للقضاء في العيدين، وما قارب ذلك كيوم عرفة، ويوم التروية، ويوم سفر الحاج، ويوم قدومه، وشهود المهرجان، وحدوث ما يعم من سرور أو حزن، وكذلك إذا كثر الوحل والمطر، ويوم الجمعة، إذا كان لا ينبغي له الجلوس في هذه الأيام فيستثنى من هذه الأيام والأوقات الأمور التي يخاف عليها الفوات، وما لا يسعه إلا تعجيل النظر فيه([9]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يجب على القاضي أن يحكم حالا في دعوى لديه إذا استوفى البينة، وليس له تأخير الخصوم إذا تنازعوا إليه إلا من عذر، وليس له أن يقدم بعض المدعين على بعض إلا في صورتين:
الصورة الأولى: إذا كان هناك مسافرون متهيئون للسفر، ويخافون من انقطاعهم إن تأخروا، فيقدمون على المقيمين.
الصورة الثانية: إذا كان هناك نسوة، فيقدمن على الرجال؛ طلبا لسترهن، وإن تأخروا (المسافرون والنسوة) في المجيء إلى القاضي.
وفي المذهب: لا ينعزل القاضي بانعزال الإمام بموت أو غيره؛ لئلا تتعطل مصالح الناس([10]).
وفي مذهب الإمام أحمد: قال الإمام ابن قدامة: “إذا جلس الحاكم في مجلسه، فأول ما ينظر فيه أمر المحبوسين؛ لأن الحبس عذاب، وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه، فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة يكتب اسم كل محبوس، وفيم حبس؟، ولمن حبس؟، فيحمله إليه، فيأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام: ألا إن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا، فمن كان له محبوس فليحضر، فإذا حضر ذلك اليوم، وحضر الناس ترك الرقاع التي فيها اسم المحبوسين بين يديه، ومد يده إليها، فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس، وقال: مَنْ خصم فلان المحبوس؟، فإذا قال خصمه: أنا، بعث معه ثقة إلى الحبس، فأخرج خصمه، وحضر معه مجلس الحكم، ويفصل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر فيه في ذلك المجلس، ولا يخرج غيرهم، فإذا حضرالمحبوس وخصمه لم يسأل خصمه: لم حبسته؟، لأن الظاهر أن الحاكم إنما حبسه بحق، لكن يسأل المحبوس: بم حُبِستَ؟”([11])، وعندئذٍ يحكم حسبما يتبين له من كلام المحبوس وما في القضية من بينات.
قلت: ويتبين مما سبق ذكره من أقوال الأئمة أن الموظف (ويعد هنا في حكم القاضي الذي تحدث عنه الفقهاء) مسؤول عن إنجاز حوائج الناس وقضاياهم، وهذه المسؤولية تقتضي منه عدم إهمال عمله أو التباطؤ أو التقصير فيه، كما تقتضي منه العدل فيه، والمساواة في نظر القضايا، فلا يقدم قضية أحد على آخر مهما كانت منزلته، ما لم يكن لهذا التقديم عذر مشروع، ومن ذلك على سبيل المثال: تقديم قضايا المدينين في حال طلبهم السفر، وذلك خشية فرارهم، وضياع حقوق دائنيهم، ومن ذلك: تقديم قضايا المستفيدين من دين النفقة؛ لحاجتهم إلى الطعام والكساء، ومن ذلك: قضايا العقارات التي يخشى ضياع معالمها، وكذلك قضايا الوقوف العامة؛ لحاجتها إلى الرعاية، ومن ذلك -أيضا-: قضايا تركة يخشى تصرف بعض الورثة فيها بما يؤدي إلى حرمان بعضهم منها، ونحو ذلك من الأعمال التي تقتضي طبيعتها وجوب العجلة فيها، وتقديمها على غيرها، بحيث لو قدمت القضايا الأخرى عليها لأدى ذلك إلى ضرر بَيِّنٍ لأصحابها، أو للمصلحة العامة.
ومسؤولية الموظف تنقسم إلى مسؤولية دينية كما ذكر آنفا، ومسؤولية دنيوية تنص عليها الأنظمة والقواعد التي تضعها الحكومات حسب طبيعة المسؤولية، ويبت فيها القضاء الإداري، ففي المملكة العربية السعودية مثلا نص نظام ديوان المظالم على أن الديوان يختص بالفصل في ”الدعاوى المتعلقة بالحقوق المقررة في نظم الخدمة المدنية والتقاعد الوظيفي ومستخدمي الحكومة والأجهزة ذوات الشخصية المعنوية العامة المستقلة أو ورثتهم والمستحقين عنهم”([12]).
“كما يختص بالفصل في الدعاوى المقدمة من ذوي الشأن بالطعن في القرارات الإدارية، متى كان مرجع الطعن عدم الاختصاص، أو وجود عيب في الشكل، أو مخالفة النظم واللوائح، أو الخطأ في تطبيقها أو تأويلها، أو إساءة استعمال السلطة. ويعتبر في حكم القرار الإداري رفض السلطة الإدارية أو امتناعها عن اتخاذ قرار كان من الواجب عليها اتخاذه طبقا للأنظمة واللوائح»([13]).
فإذا كان الموظف المشار إليه في المسألة يتباطأ أو يقصر في عمله عمدا أو إهمالا أصبح مسؤولا دينا وقضاء.
وخلاصة المسألة: أن الموظف أيا كان مسمى وظيفته، وأيا كان مستواها يعد بمثابة الأجير الذي يتقاضى أجره من الآجر لأداء خدمة أو منفعة معينة له أو لأتباعه حسب الحال أو المركز الذي عهد به إليه وقَبِلهُ طائعا، وهذا يوجب عليه في كل الأحوال أن يكون أمينا فيما عُهِد به إليه، ناصحا ووفيا لمن عهد إليه بعمل أو نحوه.
وتقتضي مسؤولية الوظيفة قضاء حوائج الناس، والعدل بينهم، فلا يقدم قضية أحد منهم على قضية آخر مهما كانت منزلته، ما لم يكن لهذا التقديم عذر مشروع، كتقديم الأعمال التي تقتضي طبيعتها وجوب العجلة فيها، وتقديمها على غيرها، بحيث لو قدمت القضايا الأخرى عليها لأدى ذلك إلى ضرر بَيِّنٍ لأصحابها، أو للمصلحة العامة، فإن فعل غير ذلك أصبح مسؤولا ديانة وقضاء.
وأما المسؤلية الدينية ففي كتاب الله وسنة رسوله -ﷺ- الكثير من الأدلة التي تبين هذه المسؤولية.
وأما المسؤولية القضائية فتبين الأنظمة والقواعد الوظيفية طبيعة هذه المسؤولية، وحدودها، وما يترتب على الإخلال بها من جزاء. والله أعلم.
([1]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج5 ص239، وأخرجه الخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح في كتاب الإمارة والقضاء، باب ما على الولاة من التيسير، برقم (3729)، ج2 ص1100، قال السيوطي في البدور السافرة، (٢١٧): إسناده جيد.
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الأمير العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق، صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص211.
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الأمير العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق، صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص212-213.
([4]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج2 ص431، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ج3 ص129، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٥٦٩٥).
([5]) أخرجه البخاري، (٢٤٠٩)، وأخرجه مسلم (١٨٢٩) باختلاف يسير، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج2 ص54، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ج6 ص278.
([6]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الثاني عشر ص563 -564، وانظر-أيضا-: كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7، ص13.
([7]) درر الحكام، نفس الكتاب الثاني عشر ص566 -567.
([8]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الثاني عشر ص609.
([9]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص142-143، وانظر: بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي على الشرح الصغير ج2، ص336، وكتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام لابن فرحون اليعمري المالكي ص28، والكافي في فقه أهل المدينة المالكي للنمري القرطبي ص498.
([10]) انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج4، ص402، وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب لأبي يحيى زكريا الأنصاري ج1، ص209، وحاشيتي قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين للنووي ج3، ص306. والأم للإمام الشافعي ج5، ص204.
([11]) المغني والشرح الكبير ج11، ص390-393.
([12]) الفقرة (أ) من المادة الثامنة من نظام ديوان المظالم الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/51، وتاريخ 17/7/1402هـ.