والسؤال عما إذا كان هذا العمل مشروعًا.
ويبدو من ظاهر السؤال ما يحدث اليوم من قيام بعض المحلات التجارية بالإعلان المكثف في وسائل الإعلام عن تخفيض في أسعار مبيعاتها؛ لإغراء المشترين، ولعل هذا النمط من الإعلان عن البيع أُخذ من المحلات التجارية في البلدان المتقدمة صناعيًّا حين تفعل ذلك في مواسم معينة لواحد من الأسباب الآتية:
(1) إما للخلاص من نوع معين من البضائع أصابه الكساد.
(2) أو لكون هذه البضائع أصبحت قديمة في نماذجها وصنائعها، وحل محلها بضائع أخرى مغايرة لها.
(3) وإما لأن المحل التجاري قد استفاد من المبيعات الأولى للبضائع، ويريد أن يبيع ما بقي منها بأسعار أقل.
(4) وإما لأن صاحب المحل التجاري بَدَّلَ نوع تجارته، ويريد أن يتخلص من تجارته الأولى، أو نحو ذلك.
والإعلان عن تخفيض أثمان البضائع المشار إليها يكون في الغالب صادقًا وصحيحًا، وذلك أنها غالبًا ما تكون مُسعرة أصلًا، فالمشتري إذًا يعرف قيمتها، ثم يعرف مقدار التخفيض المعلن عنه، هذا إلى جانب حرص هذه المحلات على التعامل مع المشترين بالصدق والأمانة؛ لكي لا تفقدهم، فتبور بضائعها.
وبعض الذين أخذوا هذا النوع من التسويق ربما لم يدركوا معنى الإعلان عن التخفيض، فظنوا أن الهدف من الإعلان هو إغراء المشترين دون أن يعملوا التخفيض الذي أعلنوا عنه، أو أنهم يعملونه بقدر زهيد، وفي كلتا الحالتين يجد المشتري أنه غُبِن في شرائه، خاصة إذا كان قد اشترى قدرًا كبيرًا من هذه البضائع ظنًّا منه أنها أرخص من مثيلاتها في السوق.
وهذا السلوك يجعل المشترين يتساءلون عن هذا العمل، وهل هو جائز؟، وهل يؤثر في صحة البيع؟، وكيف نرفع الظلم عن المشتري المغبون؟، وهو هنا محل سؤال السائل.
والجواب عنه له حكمان: حكم يتعلق بالبائع من حيث الديانة، وحكم يتعلق بالمشتري والبائع من حيث القضاء.
فأما الأول الذي يتعلق بالبائع فإن الله -جل وعلا- قد أوجب على المسلم أداء الأمانة في بيعه وشرائه، وسائر أحواله، وذلك في معرض نهيه عن الخيانة في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27]، وقد علم بعلمه المطلق أن الإنسان حريص على المال، وأنه في سبيل هذا الحرص قد يدلس ويغش، ويطفف في تعامله مع غيره، ما لم يكن له رادع من إيمان، فبين الله له أن المال فتنة، وأن ما عند الله من الأجر خير وأبقى له، فقال -تعالى-في الآية التالية: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم} [الأنفال: 28].
كما بين رسوله -ﷺ- أن في السعي إلى المال امتحانًا لإيمان الساعي؛ لمعرفة مدى أمانته، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([1])، وفي سياق أمره بوجوب حسن التعامل بين أمته حذرها من الغش؛ لما فيه من الأخطار، وفساد الأحوال، فقد مر-عليه الصلاة والسلام-برجل يبيع طعامًا، فأعجبه، فأدخل يده فيه، فوجد فيه بللًا، فقال: (ما هذا)؟، قال: أصابته السماء، فقال: (فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، ليس منا من غشنا)([2]).
ولما بايع -ﷺ- جريرَ بنَ عبد الله البجلي على الإسلام ذهب لينصرف، فجذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم، فكان جرير إذا قام إلى السلعة يبيعها ذكر عيوبها، ثم خَيَّرَ المشتريَ، وقال: إن شئت فخُذْ، وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنا بايعنا رسول الله -ﷺ- على النصح لكل مسلم([3]).
وقال-عليه الصلاة والسلام-: (الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبه عليه من الإثم كان لِمَا استبان أَتْرَكَ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتعْ حول الحمى يوشكْ أن يواقعه)([4]).
وبهذا التوجيه التزم السلف الصالح في تجارتهم، وتعاملهم بالأمانة، ومحاربة الغش والكذب، بل كانوا أساطين في التسامح والبذل والعطاء، ومساعدة المساكين، وفي سيرة أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف -رضوان الله عليهم- أمثلة إنسانية يعجز الحديث عن وصفها.
وقد سار على نهجهم الكثير من تجار السلف، فقد ورد في الأثر أن امرأة جاءت إلى أبي حنيفة -رحمه الله – كان تاجرًا تعرض عليه أن يشتري منها ثوبًا من الحرير، فقال لها: كم ثمنه؟، فقالت: مئة، فقال: هو خير من ذلك، بكم تقولين؟، فزادت مئة، ثم مئة، حتى قالت: أربعمئة، فقال: هو خير من ذلك، فقالت: أتهزأ بي؟، قال: هاتي رجلًا يقومه، فجاءت برجل فاشتراه بخمسمئة([5]).
كما رُوي أنه كان شريكًا لحفص بن عبد الرحمن في متاع، فأَعلمه أن في ثوبٍ منه عيبًا، وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه، فباع حفص المتاع، ونسي أن يبين العيب، ولم يعلم من الذي اشتراه؟، فلما علم أبو حنيفة بذلك تصدق بثمن المتاع كله([6]).
كما رُوي أن يونس بن عبيد -وكان خزازًا- طُلِب منه خز للشراء، فأخرج غلامُه سَقَطَ الخَزِّ، ونشره، ونظر إليه، وقال: (اللهم ارزقنا الجنة)، فقال لغلامه: رُدَّهُ إلى موضعه، ولم يبعه خشية من أن يكون ما قاله تعريضًا بالثناء على الخز([7]).
وفي ظل هذا المنهج من شريعة الله، وسنة رسوله محمد -عليه الصلاة والسلام-، وسيرة السلف الصالح، فإن البائع ملتزم ديانة بتجنب الغش في تعامله، وملزم بالنصح لمن يتعامل معه، فإن فعل غير ذلك فقد عرض نفسه للإثم والخطيئة، وما يقتضيه ذلك من العقاب.
كما أنه يعرض نفسه لمحق البركة، وآفات المال، فقد ثبت عن النبي -ﷺ-أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)([8]). متفق عليه.
الحكم الآخر يتعلق بالبائع والمشتري من حيث القضاء، فالبائع إذا أعلن أنه يبيع بضاعة بأقل من سعر السوق فإن المشتري يقبل على شراء هذه البضاعة؛ اعتقادا منه أن التاجر صادق في إعلانه؛ لهذا يفترض حكمًا أن هناك عقدًا نشأ بين البائع والمشتري بسبب هذا الإعلان، ويفترض حكمًا -أيضًا- أن العقد يُبنى على “الأمانة”، وهي هنا الصدق في الإعلان، فإذا اختلت الأمانة أصبح للمشتري حكم آخر بالنسبة لما اشتراه.
وقد تعرض الفقهاء لمثل هذه المسألة:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا ظهرت خيانة بين المترابحين في قدر الثمن، بأن قال: اشتريت بعشرة، وبعتك بربح كذا، ثم تبين أنه اشتراه بتسعة.
فعند الإمام أبي حنيفة: يحق للمشتري الخيار في المرابحة، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وعند الإمام أبي يوسف لا يحق له الخيار، ولكن يحط قدر الخيانة([9]).
وفي مذهب الإمام مالك: يصح البيع الذي فيه غش؛ استدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: (لا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بين أن يحتلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر)([10]).
فبهذا أثبت للمشتري الخيار، فدل هذا على أن العقد صحيح؛ لأن العيب ليس فيه إلا نقص من المبيع، وذلك لا يوجب فساده([11]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الكذب في المرابحة من المنكرات، وتصرية الدابة بربط أخلافها؛ ليتجمع اللبن حرام؛ لتأذيها به، فإن ظهرت الزيادة معها، أو تبدل الحلب على العادة، ولو بإكراه، فاشتراها جاهلًا به فله الخيار([12]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يحرم تغرير المشتري، إذا أعلن أنه سيخفض القيمة 30% فاشتراها منه بناءً على ذلك، ثم تبين له أنه لم يخفض، أو خفض أقل من ذلك؛ ثبت له خيار عند الحنابلة حيث كذب عليه في إخباره بالثمن، قال في المقنع في باب الخيار: “السادس: خيار يثبت في التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة، ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال”([13]).
ويتبين مما سبق، ومن أحكام الشريعة وقواعدها أن الكذب والغش والتدليس حرام، وأن المشتري ومن في حكمه إذا تعرض لأي من هذه الأمور مخير بين الإمساك والرد، ذلك أن الله -جل وعلا-قد حرم على عباده أكل الأموال بالباطل، فقال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، والمقصود بالتجارة البيع والشراء، والتراضي: ما ظهر منه رضا المتبايعين، واتفاقهما في المعاوضة، كما أن الله -جل وعلا-حرم الكذب في آيات كثيرة، منها: قوله -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ} [الصف: 7]، وقوله -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، وقوله -عز وجل-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].
وحرم رسوله الكذب في قوله-عليه الصلاة والسلام-: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب)([14])، وحرم الغش في قوله -ﷺ- في الحديث المتقدم ذكره: (من غشنا فليس منا)، وحرم أكل المال بغير حق في قوله: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)([15]).
وينبني على هذا أن على البائع اجتنابَ الغشِّ والكذبِ، والتزامَ الصدق في تعامله مع غيره، فإن فعل غير ذلك فقد أخل بالأمانة المفترضة بينه وبين المشتري، فيحق للمشتري فسخ البيع، ورد المبيع، فإذا كانت بعض المحلات التجارية لا تلتزم بالصدق في إعلانها -كما ورد في السؤال- فهذا يعد كذبًا في ثمن السلعة يحق معه للمشتري رد المبيع أو إمساكه.
وخلاصة المسألة: أن لها حكمين: حكمًا يتعلق بالبائع ديانةً، فالله -عز وجل- قد أوجب على المسلم أداء الأمانة في بيعه وشرائه، وسائر أحواله، وقد حرمت شريعة الله الغش والكذب والتدليس، وبيَّنت أن المسلم ملتزم بالنصح لمن يتعامل معه، فإن فعل غير ذلك فقد عرض نفسه للإثم والخطيئة، وما يقتضيه ذلك من عقاب الله.
الحكم الثاني: يتعلق بالبائع والمشتري من حيث القضاء: فالبائع إذا أعلن أنه يبيع بضاعة بأقل من سعر السوق، فإن المشتري يُقبل على شراء هذه البضاعة اعتقادًا منه أن التاجر صادق في إعلانه؛ لهذا يفترض حكمًا أن هناك عقدًا نشأ بين البائع والمشتري بسبب هذا الإعلان، ويفترض حكمًا -أيضًا- أن هذا العقد يُبنى على الأمانة، وهي الصدق في الإعلان، فإذا كانت بعض المحلات التجارية لا تلتزم بالصدق في إعلانها فهذا يعد كذبًا في ثمن السلعة، يحق معه للمشترين رد المبيع أو إمساكه.
والله أعلم.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (102).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه وينصحه؟، برقم (2157)، فتح الباري ج4 ص 433.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب “الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما مشبهات”، صحيح البخاري ج3 ص 4.
([7]) الخزاز: من يبيع الثياب المتخذة من الوبر. انظر هذا في إحياء علوم الدين للغزالي، ج2 ص71.
([8]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب “إذا بين البيعان، ولم يكتما، ونصحا”، صحيح البخاري ج3 ص 10-11، وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص175.
([9]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج5 ص226، وانظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي، ج3 ص29.
([10]) أخرجه البخاري في البيوع، باب النهي للبايع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة، صحيح البخاري، ج3 ص 25، وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 165 – 166.
([11]) المعونة على مذهب أهل المدينة للبغدادي، ج2 ص105، وانظر الحديث في صحيح البخاري، ج3 ص25، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج10 ص160، والسنن الكبرى للبيهقي، ج5 ص320.
([12]) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي، ج2 ص311، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني، ج2 ص63-64، وقلائد الخرائد وفرائد الفوائد لباقشير الحضرمي الشافعي، ج1 ص344.
([13]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، ج4 ص398-400، وانظر: المبدع في شرح المقنع لابن مفلح، ج4 ص81-85، والشرح الكبير مع المغني لابن قدامة، ج4 ص80-82.
([15]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج3 ص113، 485، وج4 ص286، 2306، وج5 ص30، 37، 412، مسند الإمام أحمد، ج3 ص113. صححه الألباني في صحيح الجامع، (٢٠٦٨)، وأخرجه مسلم (١٢١٨).