والجواب عن هذا من وجهين:
أولهما: مدى حق الأجير في الحصول الفوري على أجرته حال استحقاقه لها.
وثانيهما: مدى حقه في أخذ أجرته من مال آجره في حال امتناعه عن دفعها.
الوجه الأول: مدى حق الأجير في الحصول الفوري على أجرته في حال استحقاقه لها:
الأصل أن العلاقة بين الأجير والآجر علاقة عقد، تتساوى فيها الحقوق والواجبات بين المتعاقدين؛ فالأجير يعمل لدى الآجر وفق ما هو محدد له، والآجر يدفع ما يترتب عليه من أجر بموجب العقد، لا فرق في ذلك بين أن يكون العقد بينهما مكتوبًا أو مشافهةً، والأصل في العقود الثقة، ووجوب الوفاء من أصحابها بعضهم تجاه بعض؛ عملًا بالكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا} [الإسراء: 34].
أما السنة: فقد أمر رسول الله -ﷺ- بإعطاء الأجير أجره على الفور، فقال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)([1]).
وعدم الوفاء بالعقد يعد نقضًا له، وقد وصف الله مَنْ فعله بالخسران وسوء العاقبة في قوله -عز وجل-: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة: 27]، وقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} [الرعد: 25]، كما وصف رسول الله -ﷺ- مخلف الوعد بالمنافق في قوله: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان)([2])، وبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أنه سيكون خصمًا لمن استوفى من الأجير، فلم يعطه أجره، فقال: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يوفه أجره)([3]).
قلت: وعدم إعطاء الأجير أجره يعد أكلًا للمال الحرام، بل هو من أشد الحرمات؛ لما فيه من استغلال الضعـيف، وحرمانه من قُـوتِهِ، وقـوت من يعول، وقـد حـذر الله -عز وجل-من أكل الحرام في عدة مواضع من كتابه، منها قوله -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقوله -تعالى- في وصف الكافرين: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت} [المائدة: 42]، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، فاقتضى ذلك حكمًا التزام المسلم ديانةً وقضاءً بأداء ما بذمته لغيره، سواءٌ بما عقده على نفسه، أو بما وجب عليه من حق لغيره مقابل ما أخذه منه، كما هو الحال في حق الأجير في أجرته.
الوجه الثاني: مدى حق الأجير في أخذ أجرته من مال آجره في حال امتناعه عن دفعها:
الأصل ألا يتعدى أحد على مال غيره إلا بإذنه؛ لأن المال من الضرورات الشرعية التي لها حرمتها وصونها من التعدي والعبث، فمن تعدى عليه بغير حق عُدَّ سارقًا، والسرقة من الجرائم الكبرى، وقد عاقب الله عليها في قوله -تعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ} [المائدة: 38]، ولكن حرمة المال مشروطة بعدم وجود حق فيه، سواءٌ كان هذا الحق عامًّا، كالزكاة وغيرها من الفرائض الشرعية، أم كان هذا الحق خاصًّا، كحق النفقة لمستحقيها، وحق الدائن في دينه، وحق الأجير في أجرته، ففي هذه الأحوال وأمثالها تتأثر حرمة المال بحق الغير.
وقد أفاض الفقهاء في ذلك:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: “أن من له على آخر دراهم، فسرق منه مثلها لم يقطع؛ لأنه بذلك قد استوفى حقه، والحالُّ والمؤجل فيه سواءٌ، وكذلك لا يقطع إذا سرق منه أكثر من مقدار حقه؛ لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع، وإن سرق خلاف جنس حقه، كما لو كان عليه دراهم، فسرق منه عروضًا، لا يقطع إذا قال: أخذتها لأجل حقي، فيكون بهذا متأولًا؛ لأنه اعتبر المعنى، وهي المالية لا الصورة، والأحوال كلها في معنى المالية متجانسة، فكان أخذًا عن تأويل”([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: إذا كان في المال شبهة الاستحقاق في حق السارق فلا قطع فيه، ومن ذلك: مستحق الدين إذا سرق من غريمه المماطل جنس حقه، وكذلك من سرق رهنه من مرتهنه، ومن سرق أجرته من مستأجره، ومن سرق شيئًا له فيه نصيب([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا أخذ الدائن مال مدينه بقصد دينه فلا يقطع به، ويصدق في دعواه عن جحود مديونه أو مماطلته؛ لاحتمال صدقه فيها([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا عجز الدائن عن استخلاص دينه من مدينه بحاكم، فسرق منه بقدر حقه، فلا يقطع فيه([7]).
وينبني على هذا أن الأجير إذا أدى ما عليه للآجر، ولم يوفه هذا حقه، فله أن يستعدي الحاكم للحصول على أجره، فإن لم يستطع، أو كان في مكان لا يتمكن فيه من الحصول على أجره، جاز له أن يأخذ من مال الآجر بقدر أجرته، سواءٌ كان نقدًا أم عينًا، ولا يعد هذا في حكم السرقة؛ للأدلة المشار إليها آنفًا.
وخلاصة ما سبق: أن العلاقة بين الأجير والآجر علاقة عقد يجب الوفاء به؛ عملا بالكتاب والسنة، وعدم إعطاء الأجير أجره يعد من أكل المال الحرام، بل هو من أشد الحرمات؛ لما فيه من استغلال الضعيف، وحرمانه من قوته وقوت من يعول.
والأصل ألا يأخذ أحد مال غيره إلا بإذنه؛ لأن المال من الضرورات الشرعية التي لها حرمتها وصونها من التعدي، فمن تعدى عليه عد سارقًا، ولكن حرمة المال مشروطة بعدم وجود حق لأحد فيه، فالأجير إذا أدى ما عليه للآجر، ولم يوفه هذا أجرته، فله استعداء الحاكم للحصول على أجرته، فإن لم يستطع، أو كان في مكان لا يتمكن فيه من الحصول عليها، جاز له أن يأخذ من مال آجره بقدر أجرته، سواءٌ كان نقدًا أم عينًا، ولا يعد هذا في حكم السرقة.
والله -تعالى-أعلم.
([1]) تقدم تخريجه، وهو حديث صحيح لطرقه كما قال الألباني في هامش مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي ج2 ص 900، ورقمه (2987).
([2]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33)، فتح الباري ج1 ص111، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب خصال المنافق، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص46.
([3]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب أجر الأجراء، برقم (2442)، سنن ابن ماجة ج2 ص 816، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج صحيح ابن حبان، (٧٣٣٩): إسناده حسن.
([4]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص 71-72، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4 ص 94-95، وشرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني ج5 ص377، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق للأفغاني ج1 ص398، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود ج3 ص190.
([5]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج3 ص 330، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك للكشناوي ج3 ص 181، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج4 ص 337-338.
([6]) بجيرمي على الخطيب ج4 ص 170، وانظر: حاشيتي قليوبي وعميرة ج3 ص 188، وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب للأنصاري ج1 ص 160، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب ج4 ص 163.
([7]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ج10 ص282، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج3 ص371، والمقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل لابن قدامة ص 303-304.