الوقف في اللغة: الحبس([1])، وفي الاصطلاح: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة([2])، والأصل فيه ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى إلى رسول الله -ﷺ-يستأمره فيها قائلا: يا رسول الله! إني قد أصبت أرضًا بخيبر لم أصب قط مالًا أنفس عندي منه، فماذا تأمرني فيها؟، فقال رسول الله -ﷺ-: (إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها)، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث([3]).
والأصل فيه -أيضًا- ما روي عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([4]).
والوقف على نوعين:
النوع الأول: وقف على العموم كبناء المساجد، ووقف الدور لسكن المحتاجين، ووقف الماء للسقيا منه، ونحو ذلك مما يعد لاستفادة عموم الناس منه.
النوع الثاني: وقف خاص يُبْتغى منه منفعة فرد أو أفراد أو أسرة مخصوصة، كالوقف على ذرية الموصي، أو أقربائه، أو أصدقائه المحصورين.
والواجب في الوقف بذل العناية، وتنفيد وصية الموصي، فإن كان الوقف عامًّا وجب على ناظره إجراء منافعه بلا تقييد، فالمسجد يخصص للصلاة فيه، والدور تخصص لسكن المحتاجين، والماء يجرى للسقيا، وهكذا.
ويختلف الحال بين ما إذا كان الموصي قد أوصى شخصًا بعينه ليقوم بذلك، وبين ما إذا لم يوص بذلك أحدًا، فإن عَيَّنَ شخصًا فعلى هذا تنفيذ ما وُصي به، وإن لم يفعل-وهو الغالب في الأوقاف العامة-فيكون الوقف حينئذ بلا ولي، وتصبح الولاية عليه لولي الأمر؛ لكونه وليَّ من لا ولي له.
وإن كان الوقف خاصًّا فيجب على الموصى له إجراء منافعه على النحو الذي عينه الموصي، فإن لم يعين طريقة لتنفيذه وجب على الموصى له الاجتهاد فيه، كقسمة منافعه على الورثة، ونحو ذلك مما هو معروف في هذه الأحوال.
ولما للوقف من أهمية في حياة المسلمين؛ لما فيه من سد حاجة المحتاجين، ومساعدة المعوزين، فقد عُني الفقهاء بالوقف، وحرصوا على جريان منافعه، ووضعوا الأحكام التي تمنع العبث به؛ حرصًا على عدم انقطاع أجر الموصي، وحرصًا كذلك على منفعة الموصى لهم.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا صار الوقف بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه، ويشتري بثمنه وقفًا آخر يستغل، ولو كان غلته دون غلة الأول.
وعدم الانتفاع به يشمل تعطل منافعه، فلو كان يُستأجر-ولو بشيء قليل-فيبقى أصله، والواضح من ظاهر المذهب أن حق الموصى لهم بالوقف لا يشمل عينه، بل يقتصر على منافعه، وينبني على هذا أن بيع الوقف في حال تعطل منافعه مقيد بوضع ثمنه في وقف آخر، وعند محمد([5]) أن المسجد أو الوقف إذا خرب عاد إلى ملك الواقف أو إلى ورثته([6]).
وفي مذهب الإمام مالك: قال الإمام سحنون([7]): لم يجز أصحابنا بيع الحبس (الوقف) بحال إلا دارًا بجوار مسجد احتيج أن تضاف إليه؛ لكي يتوسع بها، فأجازوا بيعها على أن يشترى بثمنها دارًا تكون حبسًا (وقفًا)؛ وذلك استدلالًا بأن دورًا محبسة (موقوفة) كانت تلي مسجد رسول الله -ﷺ-، فأدخلت فيه.
أما ما سوى العقار إذا ذهبت منافعه التي وقف بها كالحيوان أو الثياب، بحيث لا ينتفع بها، فيجوز بيعها، وتصرف أثمانها في مثلها، وتجعل مكانها، فإن لم يصل الثمن إلى كامل من جنسه فيجعل في شقص من مثله([8]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لو أوقف الموصي أرضًا للزراعة، فتعذرت، وانحصر النفع في الغرس أو البناء، فعلى الناظر أحدهما أو أجرها كذلك، وظاهر المذهب: أن الوقف إذا تعطلت منافعه يباع، ويوضع في مثله، ما عدا المسجد، فإنه إذا انهدم، وتعذرت إعادته، فإنه لا يباع بحال؛ لإمكان الانتفاع به حالًا بالصلاة في أرضه([9]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن الوقف إذا تعطلت منافعه، كما لو خربت الأرض، فأصبحت مواتًا، وانهدمت الدار، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وأصبح في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسعته في موضعه، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولاعمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه؛ لتعمر به بقيته، فإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه فيباع جميعه، واستدل أصحاب المذهب على هذا بما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلٍّ، وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان هذا إجماعًا([10]).
وفي قول في المذهب: أن الوقف إذا بيع فأي شيء اشتُرِيَ بثمنه مما يرد على أهل الوقف جاز، سواء كان من جنسه أم من غير جنسه؛ لأن المقصود المنفعة، وليس الجنس، لكن تكون المنفعة مصروفة إلى المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها؛ لأنه لا يجوز تغيير المصرف مع إمكان المحافـظة عليه، كما لا يجوز تغيير الوقف بالبيع مع إمكان الانتفاع به([11]).
وينبني على ما سبق أن الأصل تحريم بيع الوقف، ما لم تتعطل منافعه بالكلية، فيمكن بيعه بإذن الحاكم، ووضع ثمنه في وقف آخر يُنْتفعُ منه، والقول “بتعطل منافعه بالكلية” يقتضي عدم جواز بيعه إذا ضعفت منافعه، وإن كان غيره أكثر مردودًا في نفعه، وما ذاك إلا لأن الأصل-كما ذكر-تحريم بيع الوقف، وإباحته للضرورة.
والمقصود بهذا الوقف من غير المسجد..، أما المسجد ففي قول الإمام مالك والشافعي: لا يجوز بيعه؛ عملًا بقول رسول الله -ﷺ-: (لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث)([12]).
قلت: ولعل ما رآه الإمامان: مالك والشافعي هو الصواب؛ لأن المسجد ملك عام للمسلمين، أوقف لعبادتهم، ولحرمته لا يجوز التصرف فيه بالبيع بعضِه أو كُلِّه؛ لأنه إن كان مبنيًّا فسوف يصلَّى فيه، وإن انهدم فالغالب الأعم أن يعمره المسلمون، فإن لم يعمر فسوف يصلى فيه أرضًا، ولو فرض أن من حوله قد هجره لانتقال وغيره، فلا يخلو من أحد أن يصلي فيه من السابلة وخلافهم من عباد الله.
وبالنسبة للمسألة فإن كان ما قاله السائل صحيحًا عن حال المزرعة فالأولى بيعها، ووضع ثمنها في وقف آخر يستفاد منه، ولكن يجب أن يكون هذا بإذن القضاء، مع أن الواجب يقتضي عدم التساهل في بيع الأوقاف؛ لما قد يكون في ذلك من التحايل وخلافه.
والخلاصة أن الوقف على نوعين: وقف للعموم كالمساجد، ووقف خاص يراد منه منفعة فرد أو أفراد معينين، والأصل تحريم بيعه، ما لم تتعطل منافعه بالكلية، فيمكن بيعه بإذن الحاكم، ووضع ثمنه في وقف آخر ينتفع منه.
أما المسجد فإن الإمامين: مالكًا والشافعيَّ يريان عدم جواز بيعه؛ عملًا بقول رسول الله -ﷺ-: (لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث).
ولعل هذا هو الصواب؛ لأن المسجد ملك عام للمسلمين، أوقف لعبادتهم، ولحرمته لا يجوز التصرف فيه بالبيع كُلًّا أو بعضًا؛ لأنه إن كان مبنيًّا فإنه يصلى فيه، وإن انهدم فالغالب الأعم أن يعمره المسلمون، فإن لم يعمر فيصلى فيه أرضًا، ولو هجره مَنْ حوله فلا يخلو من أحد يصلي فيه من المسلمين كالسابلة وخلافهم من عباد الله.
أما بالنسبة للمسألة فإن كان ما ذكره السائل صحيحًا عن حال المزرعة فقد يكون من المناسب بيعها، ووضع ثمنها في وقف آخر يستفاد منه، ولكن يجب أن يكون ذلك بإذن القضاء، مع أن الواجب يقتضي عدم التساهل في بيع الأوقاف؛ لما قد يكون في ذلك من التحايل ونحوه.
والله أعلم.
([1]) لسان العرب لابن منظور: وقف، ج9 ص359، والمصباح المنير للفيومي ج2 ص669.
([2]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج6 ص185، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج4 ص240.
([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، صحيح البخاري ج3 ص 185، وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب الوقف، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص 86-87.
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص 85.
([5]) محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي شيبان، أبوعبد الله، صاحب الإمام أبي حنيفة، إمام بالفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة، له كتب كثيرة في الفقه والأصول، ولد سنة 131هـ، وتوفي سنة 189هـ. انظر: البداية والنهاية لابن كثير ج10ص210، والأعلام للزركلي ج6ص80.
([6]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4 ص376-377، وانظر: فتح القدير لابن الهمام ج6 ص236-238، وبدائع الصنائع للكاساني ج6ص221، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود ج3 ص43-44.
([7]) عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون، قاض فقيه، انتهت إليه رئاسة العلم بالمغرب، ولد سنة 160هـ، وتوفي سنة 240هـ. انظر: هدية العارفين للعارفين ج1 ص569.
([8]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش ج8 ص155، وما قبلها من ص152-155، وانظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج3 ص52-53، ومواهب الجليل على مختصر خليل للحطاب ج6 ص41-42.
([9]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج5 ص394-396، وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي ج15 ص361-362، ومغني المحتاج للشربيني الخطيب ج2 ص391-392.
([10]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج6 ص225-226.
([11]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج6 ص227، وانظر: الإنصاف للمرداوي ج7 ص100-105، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى ج4 ص366-368، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج31 ص92-93.