والجواب: أن هذه القضية من الأمور المعاصرة التي نتجت من تطور صناعة الأقمار الصناعية، وانتشار المحطات الفضائية، وما تبثه من صور ومعلومات قد يختلف النظر إليها من فرد إلى فرد، ومن بلد إلى بلد بحكم اختلاف العقائد والثقافة والزمان، وعادات المكان وأعرافه.
ومع أن مفهوم “الأخلاق” مفهوم نسبي، فما يكون أخلاقًا لدى فرد أو لدى بلد قد لا يكون بهذا المعنى لدى فرد أو بلد آخر، إلا أن الإنسان أينما كان ورغم اختلاف عقائده وأمكنته وأزمنته يتفق على تجريم عدد من الأفعال…، فالقتل والزنا فعلان محرمان في كل الأديان السماوية والعقائد، والنظم المادية، ولكن هذه تختلف فيما إذا كان فعل ما يعد قتلًا أو زنا، كما أنها تختلف فيما يجب نحو هذا أو ذاك من عقاب، والفحشاء تعد -أيضًا- فعلًا محرمًا، ولكن مفهومها أو تعريفها يختلف بين عقيدة وأخرى، أو نظام وآخر.
وفي الزمن المعاصر أصبح هناك اتفاق إنساني شامل على تحريم عدد من الأفعال كالمخدرات، وتجارة الرقيق، وإبادة الجنس البشري.
أما الأخلاق كمفهوم إنساني محدد فلا يبدو أن ثمة اتفاقًا عليه؛ لاختلاف النظر إليه -كما ذكر- وفقًا للعقائد والثقافات، فنشر الصور الفاحشة يعد جريمة في عدد من البلدان، ولكن هذا لا يعد جريمة في بلدان أخرى، ومثل ذلك: إثارة الغرائز، والابتذال في المظاهر والملابس، ونحو ذلك.
وقد يكون تقارب العالم عن طريق الاتصال المثير الذي يشاهد اليوم وسيلة (ولو في المستقبل البعيد) للاتفاق على مفهوم عام للأخلاق يمنع الرذيلة بكل صورها، ويحفظ الأجيال القادمة من الضياع، ويعيدها إلى الأخلاق المستمدة من الدين والفطرة الإنسانية السليمة، ويؤيد هذا التصور أن العلم المادي بكل أنواعه ومشتقاته لم يستطع أن يتغلب على المشكلات والقضايا الإنسانية المعاصرة، بل إن بعض الناس يعيشون اليوم أصعب عهود حياتهم من الناحية النفسية، الأمر الذي أصبح المرء معه حائرًا، يبحث عن حلول لهذه المشكلات، وهذا يعني أنه لن يجد هذه الحلول إلا في الالتزام الروحي والخلقي.
أما الجواب عن السؤال فرغم صعوبته من الناحية العملية إلا أن من الممكن تصوره من وجهين:
الوجه الأول: حالة ما إذا كانت المحطة الفضائية في بلد السائل، ففي هذه الحالة يمكن الادعاء عليها بحكم “الحسبة”، وهذا إطار عام يشمل كل فعل يؤدي إلى مرضاة الله، ويقصد منها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأصل في ذلك الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فالآيات كثيرة، منها قول الله -تعالى-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [آل عمران:104]، فقوله -تعالى-: {وَلْتَكُن} يقتضي الأمر للوجوب، وقوله -تعالى-: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110]، ففي هذه الآية وصف للأمة، وهذا يقتضي وجوب ملازمة الوصف للموصوف، أو زوال الصفة عنه، فهو بالمعنى العام أمر وجوب.
أما السنة: فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها ما روته درة بنت أبي لهب أن رجلًا جاء إلى النبي -ﷺ- وهو قائم على المنبر، فقال: من خير الناس يا رسول الله؟، قال: «آمَرُهُمْ بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم لرحمه»([1])، ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا»([2]).
وللعلماء أقوال كثيرة فيما إذا كانت الحسبة فرض كفاية أو فرض عين، وعامة أهل السنة على أنها فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ومن شروط المنكر المطلوب الاحتساب في منعه: أن يكون متفقًا على تحريمه، وأن يكون ظاهرًا بحيث لا يحتاج إلى التجسس، وأن يكون قائمًا، فلا يجوز العقاب على ذنب تاب منه فاعله([3]).
وفي مذهب الإمام مالك: ينبغي ألا يؤدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ماهو أعظم منه مفسدة، وأن يظن الإفادة، وهذان الشرطان للجواز، فيحرم عند فقدهما، فإن لم يظن الإفادة فلا يجب([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الشرع إذا لم يخف القائم به على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع، أو غلب على الظن أن المرتكب للمنكر يزيد فيما هو فيه عنادًا…، كما يشترط فيه ألا ينكر شيئًا إلا مجمعًا على إنكاره، وليس ما اختلف به([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب على من علم المنكر جزمًا، وشاهده، أن ينهى عنه إذا لم يخف أذى، وعلم أو غلب على ظنه أنه يؤدي إلى مفسدة([6]).
وينبني على هذا أنه يحق للسائل أن يحتسب في منع المنكر حسب الشروط المشار إليها؛ فإذا كان في بلده جهة معينة تقوم بالحسبة فعليه لفت نظرها إلى أن نشر الصور الفاحشة، وبث المعلومات المثيرة للغرائز مما يحرمه الإسلام، ومن الواجب عليها الاحتساب في منعها؛ حفظًا لأجيال الأمة من أخطار الانحراف، أما إذا لم يكن في بلده جهة تقوم بالحسبة فيمكنه رفع ذلك للقضاء لأن حماية الأخلاق العامة، ودفع الأخطار مما تتعاون فيه الأمة من خلال أجهزتها المختصة من قضاء وخلافه.
الوجه الثاني: حالة ما إذا كانت المحطة الفضائية في بلد غير بلد السائل.
والجواب عن هذه الحالة أصعب من سابقتها، ومع ذلك فقد يقول قائل: إن من حق أي إنسان أن يدعي على من يهدد الأخلاق؛ لأن هذا تراث إنساني مشترك، وعلى الأخص في هذا الوقت الذي أصبح فيه العالم يتصل ببعضه، ويتأثر بما يحدث فيه عن طريق الاتصال المباشر.
إن السبيل إلى علاج الظواهر التي تهدد الأمة اليوم في أخلاقها ربما يكون في “الدعوة” القائمة على المجادلة الحسنة، وبيان الأخطار التي تنتج من فساد الأخلاق، ولعل العالم سيدرك في المستقبل القريب أن الفواحش والرذيلة وإثارة الغرائز تعد أخطر ما يهدد الجنس البشري في الحضارة المعاصرة، كما سيدرك أن الالتزام بالأخلاق أهم وأعظم العوامل التي تحفظ للجنس البشري استمراره، واستمرار حضارته، وعندما يكون هذا الإدراك سوف يلجأ العالم حينئذ إلى محاكمة من يهدد الأخلاق كما يفعل اليوم في محاكمة من يرتكب الجرائم الانسانية كإبادة الجنس البشري.
وخلاصة المسألة: أن القضية التي يثيرها السائل من الأمور المعاصرة التي نتجت من تطور صناعة الأقمار الصناعية، وانتشار المحطات الفضائية، وما تبثه من صور ومعلومات قد يختلف النظر إليها من فرد إلى فرد، ومن بلد إلى بلد، بحكم اختلاف العقائد والثقافات والزمان، وعادات المكان وأعرافه.
ومع أن مفهوم الأخلاق مفهوم نسبي إلا أن الإنسان أينما كان ورغم اختلاف عقائده يتفق على تحريم عدد من الأفعال كالقتل ونشر الفحشاء، رغم اختلافه في مفهوم هذا الفعل أو ذاك أو تعريفه.
ومع صعوبة الجواب عن سؤال السائل من الناحية العملية إلا أنه يمكن تصوره من وجهين:
الوجه الأول: حالة ما إذا كانت المحطة الفضائية في بلد السائل، ففي هذه الحالة يمكن الادعاء عليها بحكم الحسبة حسب شروطها، إما عن طريق الجهة المختصة بها، أو عن طريق القضاء.
الوجه الثاني: حالة ما إذا كانت المحطة الفضائية في بلد غير بلد السائل، وهنا قد يقال: إن من الحق لأي إنسان أن يدعي على من يهدد الأخلاق؛ لأنها تراث إنساني مشترك، ولعل السبيل إلى علاج هذه الظواهر يكمن في الدعوة إلى سبيل الله، وبيان الأخطار التي تنتج من نشر الفواحش والرذائل.
ولعل العالم سيدرك أن هذه الظواهر أخطر ما يهدد الجنس البشري المعاصر، وعندئذ سيحاكم من يرتكب الأفعال التي تهدد الأخلاق الإنسانية. والله أعلم.
([1]) تفسير القرطبي، ج4 ص47، والحديث حسن إسناده العراقي في تخريج الإحياء، (٢/٢٦٩).
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي برقم 4336، سنن أبي داود، ج4 ص121-122، ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، (٤٣٣٦).
([3]) إحياء علوم الدين للغزالي، ج2 ص299.
([4]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج3 ص139، وانظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل، ج3 ص108، والتاج والإكليل للمواق هامش مواهب الجليل، ج3 ص348، والفواكه الدواني للنفراوي، ج2 ص326-327، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص282.
([5]) مغني المحتاج للشربيني الخطيب، ج4 ص211، وانظر: حاشية الجمل على شرح المنهج للأنصاري، ج5 ص182، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8 ص48-49.
([6]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3 ص34، وانظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ص271-275.