والجواب: أن هذه الأسئلة غالبًا ما تطرح من عدد من الإخوة القراء رغبة في معرفة الحكم الشرعي فيها توقيًا وخشية مما قد يكون محلًّا للتحريم، كذبح الحيوان بغير الذكاة الشرعية، أو مداخلة بعض الأطعمة المستوردة بشيء من لحم الخنزير، أوغيره من المحرمات في الشرع الإسلامي، وقد تزداد الخشية عند البعض، فيحرم بغير قصد ما أحل الله له، أو ينزل الأشياء كلها منزلة الحذر والخوف، فيضيق على نفسه خلافا لما أمر الله به من التيسير، ورفع الحرج عن عباده في قوله -تعالى-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}([1]).
والإسلام في مبادئه ومقاصده وكلياته وجزئياته قد بيّن الحلال والحرام؛ ولهذا نهى الله -عز وجل- وتوعد من يفتري عليه الكذب، فيحل ما حرمه، أويحرم ما أحله، قال -تعالى-: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}([2]).
وطعام أهل الكتاب من المسائل التي نزل في حلها القرآن الكريم في قول الله -تعالى-: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ}([3]).
كما جاءت بحلها السنة النبوية، فقد ورد في الأخبار أن النبي -ﷺ- أجاب دعوة يهودي إلى خبز من شعير، وإهالة من الودك السنخ([4])، كما بين أنه -عليه الصلاة والسلام- أكل لقمة من الشاة التي أهدتها له اليهودية، ثم توقف، وقال: «إن هذه تخبرني أن فيها سمًّا»([5]).
كما ورد في الأخبار أن صحابة رسول الله -ﷺ- لما فتحوا الأمصار كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب([6])، فعلاوة على ما نزل به القرآن من حكم في هذه المسألة كان هناك إجماع من سلف الأمة على حل أطعمة أهل الكتاب.
وذبائح أهل الكتاب تعد من أطعمتهم التي أباحها الله، وقد وضع الشرع الإسلامي لذبح الحيوان عدة شروط:
منها: كون الذابح مسلمًا أو كتابيًّا.
ومنها: التسمية عند الذبح عملًا بقول الله -تعالى-: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِين}، وقوله -تعالى-: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}([7]).
وفي الفقه الإسلامي أقوال كثيرة عن طعام أهل الكتاب، نجتزئ بعضًا مما ورد منها.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن ذبيحتهم تؤكل بدلالة الآية الكريمة: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}، “وأن المراد بالطـعام فيها ذبائحهم؛ إذ لو لم يكن المراد ذلك لم يكن للتخصيص بأهل الكتاب مـعنى”؛ لأن إطلاق اسم الطعام يشمل الذبائح كما يشمل غيرها؛ لأنه اسم لما يتطـعم والذبائح مما يتطـعم، فيدخل تحت إطلاق اسم الطعام([8]).
وحل طعام أهل الكتاب -الذبائح- لا يتوقف بالضرورة على سماع التسمية منهم، ففي المذهب تؤكل ذبيحة الكتابي إذا لم يشهد ذبحه، ولم يُسْمَعْ منه شيءٌ، أو سُمِعَ وشهد منه تسمية الله وحده؛ “لأنه إذا لم يسمع عنه شيء يحمل على أنه قد سَمَّى الله -تبارك وتعالى-، وجرد التسمية تحسينًا للظن به كما بالمسلم”([9]).
وفي مذهب الإمام مالك: تحل ذبائح أهل الكتاب: رجالهم، ونسائهم، وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح، أما ذبحهم للأعياد والكنائس فلم يحرمه الإمام مالك، ولكنه كرهه كراهية شديدة([10]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يحل طعام أهل الكتاب عملًا بقول الله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}، ولا يشترط في هذا تسميتهم على ما يذبحونه؛ لأن الله -تعالى- قال: {حِلٌّ لَّكُمْ}، وهم لايذكرونها([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد: تحل ذبيحة الكتابي، ولو كان حربيًّا عملًا بالآية السابقة، وينبني عليها تحريم طعام غيرهم من الكفار([12]).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله – عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقًا، ولا يدري ما حالهم؟ هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث رسول الله -ﷺ- أو بعد ذلك؟.
وقد أجاب -رحمه الله- بجواب طويل مفاده أنه “ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهودي والنصراني في هذا الزمان، ولا يحرم ذبحهم للمسلمين، ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطئ، مخالف لإجماع المسلمين، فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين، ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة، وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء، كيف والقول بتحريم ذلك في هذا الزمان-ومثله قول ضعيف جدًّا-مخالف لما علم من سنة رسول الله -ﷺ-، ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان؟([13]).
وقد فنّد شيخ الإسلام -رحمه الله- أقوال المنكرين والمتعصبين ضد ذبائح أهل الكتاب، ونكاح نسائهم، مشيرًا إلى أن المسلمين في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين.
قلـت: ولعل مسألة إنكار الإباحة لطعام أهل الكتاب تأتي في نطاق التعصب الذي يتولد من التَّمَاسِّ بين من يدينون بهذا الدين ومن يدينون بذاك، وعندما يطغى هذا التماسُّ يبقى البحث المجرد محدودًا، فيكثر الاجتهاد، وتزداد الأقاويل والعلل، ثم يبقى الأمر فى إطار الجدل الضيق، والتعصب المتشدد.
وهذا مما يجب طرحه، خاصة إذا كان في المسألة نص من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من إجماع صحابته ومن تبعهم من الأئمة-رضوان الله عليهم أجمعين-.
وإذا كانت مسألة الأطعمة المستوردة من دول غير إسلامية حساسة في الماضي لبعض الذين تزداد عندهم الخشية مما قد يكون محلًّا للتحريم، فإن هذه المسألة لا تبدو كذلك في الوقت الحاضر؛ لأن الشركات المصدرة للأطعمة -سواءٌ كانت لحومًا أم مأكـولات أخـرى- أصبحـت تحـرص -بل تتعـهد في الغالب- بتـصدير الأطعمة للبلاد الإسلامية وفقًا للمتطلبات الشرعية؛ لكون ذلك مما يسهل بيع منتجاتها، هذا إضافة إلى أن عالم اليوم ليس عالم الأمس، ففي الماضي كانت حواجز الاتصال كثيرة، ولا يعلم أحد حال هذه البلاد أو تلك، أما اليوم فإن المسلمين يتكاثرون في البلاد غير الإسلامية، ففي فرنسا وحدها أكثر من خمسة ملايين مسلم، وفي كل البلاد التي تدين بالديانه المسيحية الآف بل ملايين المسلمين، ويعمل عدد كبير منهم في شركات الأطعمة، ولعل في ذلك مما ينفي الشك، ويزيل الشبه.
وخلاصة المسألة: أن طعام أهل الكتاب حلال عملًا بقول الله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}، وعملًا بما ورد عن رسول الله -ﷺ- وصحابته من أخبار تدل على هذا الحل.
فعلى هذا فإن الأطعمة المستوردة من البلاد التي تدين بالديانة المسيحية تعد حلالًا، سواءٌ كانت لحومًا أو أجبانًا أو نحوها من الأطعمة، ولا يجوز تحريمها إلا إذا ظهر فيها أو خالطها شيء من المحرمات.
هذا إضافة إلى أن شركات الأطعمة في تلك البلدان تحرص- كما يبدو- على تصدير الأطعمة التي تتفق مع المتطلبات الشرعية. والله أعلم.
([2]) سورة النحل الآيتان: 116، 117.
([3]) سورة المائدة من الآية 5.
([4]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج3 ص238، وانظر: تفسـير ابن كـثير ج2 ص21، ومجموع فتاوى شـيخ الإسلام ابن تيمية ج35 ص218، أخرجه البخاري (٢٥٠٨)، ومسلم (١٦٠٣) بغير هذا اللفظ.
([5]) أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلًا سمًّا، أو أطعمه، فمات، أيقاد منه؟، برقم (4508)، سنن أبي داود، ج4 ص173، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى، (٣٥/٢١٧): ثبت في الصحاح.
([6]) أورده عبد الرزاق في مصنفه، باب ذبيحة أهل الكتاب، برقمي: (8571، 8572)، مصنف عبد الرزاق ج4 ص485-489، ج6 ص119، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ج35 ص218.
([7]) سورة الأنعام من الآية 119.
([8]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج5 ص45.
([9]) بدائع الصنائع ج5 ص46، وانظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين ج6 ص296-299، والاختيار لابن مودود ج5 ص9-10، ونتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده ج9، ص487، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني هامش نتائج الأفكار ج9 ص487، وشرح العناية على الهداية للبابرتي ج9 ص487، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق لعبد الحكيم الأفغاني ج2ص220، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي ج2 ص55.
([10]) المدونة الكبرى للإمام مالك برواية سحنون ج1 ص429-304، وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي ج1 ص312-315، وشرح منح الجليل لعليش ج2 ص411-430، وشرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل للزرقاني ج3 ص5-6، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة لابن شاس ج1 ص583-585، والشرح الصغير للدردير ج1 ص314، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج2 ص100-102، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي ج2 ص55.
([11]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1 ص 251-252، ونهاية المحتاج للرملي ج8 ص112-119، وكفاية الأخيار للحسيني ج2 ص227، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج4 ص272، وقليوبي وعميرة ج4 ص243، وبجيرمي على الخطيب ج4 ص251.
([12]) الإنصاف للمرداوي ج1 ص386-390، والمغني لابن قدامة ج11 ص32-36، وكشاف القناع للبهوتي ج6 ص205، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج3 ص405، وكتاب الفروع لابن مفلح ج6 ص318-319، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لابن قاسم ج7 ص443-444، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي للزركشي ج6 ص642-643.