والجواب من حيث العموم: أن تعيين الوصي من باب التأمير له؛ ليقوم بما أوصاه به الموصي، ولهذا التأمير شأن عظيم؛ لأنه باب من أبواب الأمانة، وقد وصى الله الأنبياء والرسل-عليهم السلام-أن يبلغوا رسالاته إلى خلقه؛ ليأتمروا بما أُمروا، وينتهوا عما نُهُوا، والإيصاء هنا بمعنى الأمر، وهذا بين في قوله-تعالى-: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشوري: 13].
ووصى الله أهل الكتاب -أي: أمرهم- بالتقوى، واجتناب الكفر، فقال-تعالى-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131]، ووصى الله الإنسان -أي: أمره- بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، ومن ذلك: بره بوالديه، وشكرهما على صنيعهما، فقال-تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلى الْمَصِير} [لقمان: 14].
والوصي مكلف من الموصي، والمكلف ملزَمٌ بأداء ما وُصِّيَ به، ولهذا بلغ الأنبياء والرسل -عليهم السلام- رسالات الله تنفيذًا لأمره، فقال-تعالى-لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وحينما وصى الله الولد ببر والديه جعل له جزاء، إن خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.
والوصي مؤتمن على ما وُصي به؛ ولهذا شدد الفقهاء على ما يجب أن يكون عليه الوصي من الأمانة والخلق القويم، ففي المذهب الحنفي: لو أوصى الموصي إلى وصي فاسق بدله القاضي؛ لأن الفاسق متهم بالخيانة، وفي الخيانة -بلا شك- ضرر للموصى عليه؛ لهذا حق للقاضي عزله بحكم ولايته في دفع الضرر، وعليه إقامة غيره([1]).
وقد سئل الإمام مالك: هل يعزل الوصي عن الوصية إذا كان خبيثًا؟، فقال: نعم! إذا كان الوصي غير عدل فلا تجوز الوصية إليه، وقال: “ليس للميت أن يوصي بمال غيره-وهم ورثته-إلى من ليس بعدل”([2]).
وعند الإمام الشافعي: لا تجوز الوصية إلا إلى بالغ مسلم عدل، أو امرأة، فلو أوصى الرجل إلى من تجوز وصيته، ثم حدث للموصى إليه حالٌ تخرجه من أن يكون كافيًا لما أسند إليه، أو أمينًا عليه، أخرجت الوصية من يديه، فإن ضعف عن الأمانة أخرج بكل حال، وعلي الوصي إخراج ما لليتيم غنى عنه من كسوة ونفقة، وما قد يحتاجه من خادم([3]).
وعند الإمام النووي: “وإن أوصى إلى رجل، فتغير حاله بعد موت الموصي، فإن كان لضعف ضم إليه معين أو أمين، وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصية إليه، ويقيم الحاكم من يقوم مقامه”([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد: تصح الوصية إلى الرجل العاقل المسلم الحر العدل إجماعًا، كما تصح الوصية إلى المرأة؛ بدليل أن عمر -رضي الله عنه- أوصى حفصة، ومن لم يكن عدلًا في دينه لم تصح الوصية إليه؛ لأن عدم العدالة في المسلم يمنع صحة الوصية إليه، وقد روي عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما: عدم صحة الوصية للفاسق، والرواية الأخرى: صحة الوصية إليه. ففي رواية ابن منصور: إذا كان الوصي متهما لم تخرج من يده، وفي قول الخرقي: إذا كان خائنًا يضم إليه أمين([5]).
وفي هذا قال الإمام ابن قدامة: “وكلام أحمد في إبقائه في الوصية على أن خيانته طرأت بعد الموت، فأما إن كانت خيانته موجودة حال الوصية إليه لم تصح؛ لأنه لا يجوز تولية الخائن على يتيم في حياته، فكذلك بعد موته، ولأن الوصية ولاية وأمانة، والفاسق ليس من أهلها، فعلى هذا إذا كان الوصي فاسقًا فحكمه حكم من لا وصي له، وينظر في ماله الحاكم، وإن طرأ فسقه بعد الوصية زالت ولايته، وأقام الحاكم مقامه أمينًا، وهذا اختيار القاضي”([6]).
وينبني على ما سبق وجوب توافر العدالة في الوصي، فإن كان فاسقًا لم تصح الوصية إليه؛ لأن فسقه دليل على خيانته للأمانة.
ولما كانت الوصية ولاية وأمانة وجب عزله، وإقامة غيره بنظر الحاكم، ولكن الفسق ليس صفة دائمة، فقد يفسق الوصي وقتًا من الزمن مما يجرح عدالته، ثم يتوب، وهنا يحق للحاكم النظر في إعادته، كما لو كان عدلًا أمينًا إذا توافرت فيه شروط العدالة والأمانة.
ومع أن للعدالة شروطَها، وفي مقدمتها: ديانة الرجل، وحسن خلقه وسلوكه، فقد يجرح في عدالته ما يفعله في زمن، ولا يجرحها ما يفعله في زمن آخر، ومن ذلك على سبيل المثال: أَنَّ مَشْيَ الرجل وهو حاسر الرأس، أو أكله في السوق قد يؤثر على عدالته عندما يكون هذا الفعل مستهجنًا بين الناس في زمن، ولكن هذا الفعل قد لا يؤثر على عدالته في زمن آخر، وذلك إما لفعل الناس له، أو لعدم استهجانهم له، وهكذا.
وما ورد في السؤال عن سوء سلوك الوصي، وسوء خلقه، وتقصيره في أداء واجبه تجاه إخوته مسألة وقائع، فإذا ثبتت هذه الوقائع التي تدعيها أمهم وجب عزله، واختيار من يقوم مقامه؛ حفظًا لأموال القصر، ورعاية لشؤونهم إلى حين رشدهم.
وخلاصة المسألة: أن الوصي مكلف من الموصي، والتكليف يقتضي الالزام، والوصي مؤتمن على ما وُصي به؛ ولهذا شدد الفقهاء على ما يجب أن يكون عليه الوصي من الأمانة والخلق القويم، ووجوب توافر العدالة فيه، فإن كان فاسقًا لم تصح الوصية إليه؛ لأن فسقه دليل على خيانته، ولما كانت الوصية ولاية وأمانة وجب عزله، وإقامة غيره بنظر الحاكم.
وما ورد في السؤال عن سوء سلوك الوصي، وتقصيره في واجبه تجاه إخوته مسألة وقائع، فإذا ثبتت هذه الوقائع التي تدعيها أم القصر وجب عزله، واختيار من يقوم مقامه؛ حفظًا لأموال القصر، ويمكن أن تكون الأم هي الوصيَّ إذا توافرت فيها شروط الوصاية.
والله أعلم.
([1]) حاشية رد المحتار لابن عابدين، وتكملتها لنجله، ج6 ص701-702، ط2، ونتائج الأفكار لقاضي زاده على الهداية للمرغيناني، ج10 ص499-503.
([2]) المدونة الكبرى برواية سحنون، مع مقدمات ابن رشد، ج4 ص287، وانظر في ذلك: عقد الجواهر الثمينة لابن شاس، ج3 ص427-428، ومواهب الجليل للحطاب، ج6 ص389، وشرح منح الجليل لعليش، ج9 ص579-580.
([3]) الأم للإمام الشافعي، ج4 ص120-121.
([4]) المجموع شرح المهذب، ج15 ص508-512، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مع حاشية الشبراملسي، ج6 ص100-101، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للحسيني، ج2 ص35، والسراج الوهاج للغمراوي على شرح متن المنهاج لشرف الدين يحيى النووي، ص345.
([5]) المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج6 ص569-572.
([6]) المغنى والشرح الكبير، ج6 ص 569 -572، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج4 ص393-394، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2 ص574، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي للزركشي، ج4 ص411، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج4 ص529-531.