والجواب: عن هذا له عموم وخصوص:
أما العموم: فإن الله عزوجل نهى عن الظلم، وحذر منه في أي صورة من صوره، لما ينشأ عنه من فساد النفوس، وسوء الأحوال بين الناس، وقد نزه الله عزوجل نفسه عن الظلم فقال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وحذر من عقوبة الظلم في قوله عزوجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، وقال: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19]، وفي الحديث القدسي قال الله عزوجل لعباده: ‹‹يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا››([1]).
وأكد رسول الله ﷺ تحريم الظلم فقال: ‹‹اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة››([2]). وقال ﷺ: ‹‹إذا خلص المؤمنون من النار جلسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا››([3])، وقال ﷺ: ‹‹المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه›› الحديث([4])، والأحاديث في هذا كثيرة فدل ما في كتاب الله وسنة رسوله على أن الظلم محرم سواء كان في صورة غصب، أو تعدٍ مباشر على النفس، أو العرض أو المال، أو كان في أي صورة من الصور كحال المخطوبة حين تستغل رغبة خطيبها في الزواج منها فتطلب منه طلاق زوجته، وهدم بيته وأسرته.
أما الخصوص فهو حكم شرط المخطوبتين في المسألة ولهذا الشرط حالتان: الحالة الأولى: أن تكون قد شرطت طلاق زوجة خاطبها لكي تقبل الزواج منه (إضافة إلى ما سوف يسميه لها من مهر).
الحالة الثانية: أن تكون قد شرطت طلاق زوجة خاطبها ليكون ذلك مهرها المسمى.
اشتراط المخطوبة طلاق زوجة خاطبها:
هذا الشرط من الشروط الفاسدة، وقد دلت الأحاديث النبوية على تحريمه فعن مسدد عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: ‹‹لا يبع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يزيدن على بيع أخيه ولا يخطبن على خطبته ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستكفئ إناءها››([5])، وفي لفظ آخر عن القضبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: ‹‹لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها››([6])، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: ‹‹لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى››([7])، فهذه الأحاديث جاءت بصيغ متشابهة، تدل على نهي رسول الله ﷺ المرأة المخطوبة أن تشترط طلاق زوجة خاطبها وهذا النهي يقتضي فساد هذا الشرط وتحريمه لما فيه من ضرر للزوجة المشروط طلاقها، وقد عبر عنه ﷺ: ‹‹باستفراغ صحفتها›› أي حرمانها مما هي فيه من السكن والنفقة والسكينة والاطمئنان مع زوجها وأولادها؛ فتكون الشارطة بشرطها قد حلت مكانها فتكون بمثابة الظالمة لها.
وقد نهى -عليه الصلاة والسلام- المخطوبة عن ذلك وأرشدها إما أن تنكح خاطبها مع بقاء زوجته، وإما أن تنكح غيره لأنه ليس لها إلا ما قدره الله لها سواء مع رجل له زوجة، أو خلافه.
اشتراط المخطوبة أن يكون مهرها طلاق زوجة خاطبها:
وهذا أيضًا شرط فاسد بدلالة النهي المشار إليه في الحالة الأولى وبدلالة عدم جواز المهر أن يكون بهذه الصفة (أي صفة الطلاق).
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: تفسد تسمية المهر إذا لم يكن المسمى مالًا أو كان مجهولًا، أي يجب أن يكون المهر مالًا متقومًا؛ استدلالًا بقول الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم} [النساء:24]، وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]، فهذا أمر بتنصيف المفروض في الطلاق قبل الدخول فيقتضي كون المفروض محتملًا للتنصيف وهو المال. وفي الرد على ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ وقالت: يا رسول الله إني وهبت نفسي لك، فقال ﷺ: ‹‹ما بي في النساء من حاجة›› فقام رجل وقال: زوجنيها يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ: ‹‹ما عندك؟›› فقال: ما عندي شيء أعطيها، فقال: ‹‹أعطها ولو خاتمًا من حديد›› فقال: ماعندي، فقال: ‹‹هل معك شيء من القرآن؟›› قال: نعم، سورة كذا، فقال: ‹‹زوجتكها بما معك من القرآن››([8])، الحديث – في الرد على هذا احتجوا في المذهب الحنفي بالآيتين السابقتين، وأن الحديث المذكور “خبر الآحاد، فلا يترك نص الكتاب بخبر الواحد مع أن ظاهره متروك؛ لأن السورة من القرآن لا تكون مهرًا بالإجماع، وليس فيه ذكر تعليم القرآن ولا ما يدل عليه، ثم تأويلها زوجتكها بسبب ما معك من القرآن وبحرمته وبركته، لا أنه كان ذلك النكاح بغير تسمية مال”([9]).
وعلى هذا إذا تزوج امرأة على طلاق أخرى لم يصح؛ لأن الطلاق ليس بمال وتسمية ما ليس بمال يعد شرطًا فاسدًا، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، فيكون للزوجة في حال فساد الشرط
مهر المثل([10]).
وفي مذهب الإمام مالك: إذا شرطت المرأة أن يطلق ضرتها، لم يصح الشرط؛ لنهي النبي ﷺ أن تشترط المرأة طلاق أختها، وفي قول آخر أن هذا شرط لازم؛ لأنه لا ينافي العقد ولها فيه فائدة فأشبه ما لو شرطت عليه ألا يتزوجها([11]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: ينعقد النكاح بغير مهر، فلو عقد النكاح بمهر مجهول أو حرام فثبتت العقدة بالكلام وكان للمرأة مهر مثلها إذا أصيبت، وعلى هذا القول تصح تسمية المهر بالطلاق فليس بشرط أن يكون المهر مالًا متقومًا، واحتج بتزويج رسول الله ﷺ المرأة بسورة من القرآن كما في الحديث المتقدم ذكره([12]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن من تزوج امرأة على طلاق أخرى، لم تصح التسمية، ولها مهر المثل، قال الإمام ابن قدامة: “وهذا اختيار أبي بكر وقول أكثر الفقهاء؛ لأن هذا ليس بمال، وإنما قال الله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم}، ولأن النبي ﷺ قال: ‹‹لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها. . . ›› ولأن هذا لا يصلح ثمنًا في بيع ولا أجرًا في إجارة فلم يصح صداقًا كالمنافع المحرمة، فعلى هذا يكون حكمه حكم ما لو أصدقها خمرًا، ونحوه ويكون لها مهر المثل. . ([13])، وعند الإمام أحمد رواية أخرى أن التسمية صحيحة؛ لأنه شرطٌ لها فيه نفع وفائدة لما يحصل لها من الراحة بطلاق ضرتها من مقاسمتها وضررها والغيرة منها فصح صداقًا([14]).
قلت: والأصوب -والله أعلم- ما عليه غالبية الفقهاء من عدم جواز تسمية الطلاق مهرًا، وذلك لعدة أسباب:
أولها وأهمها: أن رسول الله ﷺ نهى أن تطلب المرأة طلاق أختها، وهذا النهي يقتضي الفساد والتحريم.
ومن هذه الأسباب: أن يكون المهر مالًا؛ لأن القصد منه منفعة الزوجة لقاء ما ينتفعه الزوج منها فهو بمكانة الحق المادي المفروض لها، وفي هذا قال الله تعالى فيه: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينا} [النساء:20]، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21].
ومن هذه الأسباب: أن الطلاق من أبغض الحلال إلى الله فإذا جاز للمخطوبة جعل مهرها طلاق زوجة خاطبها فسيكون هذا مدعاة لها في التأثير على خاطبها بهدم بيته وأسرته، وفي هذا ظلم ينشأ عنه فساد وضرر، والأصل دفع الفساد ونفي الضرر عن المسلم والمسلمة.
ومن هذه الأسباب: أن هذا الشرط وإن كان فيه فائدة للشارطة إلا أنه في غير مصلحة المشروط طلاقها، والأصل ألا تكون منفعة إنسان مبنية على ضرر إنسان آخر وفقًا لقاعدة: ‹‹لا ضرر ولا ضرا›› وقاعدة: ‹‹درء المفاسد أولى من جلب المنافع››.
وينبني على ما سبق أنه لا يجوز للمخطوبة شرط طلاق زوجة خاطبها أو سؤاله، كما لا يجوز لها أن تجعل من هذا الطلاق مهرًا لها، فإن فعلتا عُد هذا الشرط فاسدًا، وعلى الزوج عدم قبوله وليتق الله ويخشاه لما في هذا الشرط من الإثم والخطيئة.
وخلاصة المسألة: أن الله حرم الظلم في أي صورة من صوره، سواء كان في صورة غصب أو تعد مباشر، أو كان كحال هذه المخطوبة حين تستغل رغبة خاطبها في الزواج منها فتطلب منه طلاق زوجته، وقد دلت الأحاديث النبوية على نهي المرأة عن سؤال طلاق أختها، لهذا لا يجوز للمخطوبة في المسألة شرط طلاق زوجة خاطبها أو سؤاله، كما لا يجوز لها أن تجعل من هذا الطلاق مهرًا لها فإن فعلت عُد هذا الشرط فاسدًا، وعلى الزوج أن يتقي الله ويخشاه لما في قبول هذا الشرط من الإثم والخطيئة.
والله أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص132.
([2]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، صحيح مسلم بشرح النووي ج16ص134.
([3]) أخرحه البخاري كتاب المظالم باب قصاص الظلم وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص48.
([4]) أخرجه البخاري كتاب المظالم باب لا يظلم المسلم ولا يسلمه وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم صحيح مسلم بشرح النووي ج16ص134.
([5]) أخرجه البخاري باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح، العيني على البخاري ج13 ص300.
([6]) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب المرأة تسأل طلاق زوجها طلاق امرأة له، انظر بذل المجهود في حل أبي داود للسهارنفوري مع تعليق الكاندهلوي ج10 ص240-242، وأخرجه البخاري، (٥١٥٢).
([7]) أخرجه البخاري في كتاب القدر، العيني على البخاري ج23 ص150.
([8]) أخرجه البخاري (٥٠٢٩)، ومسلم (١٤٢٥).
([9]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني ج2 ص277-278.
([10]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني ج2 ص277-278.
([11]) أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك للكاندهلوي ج9 ص322-323.
([12]) الأم للإمام الشافعي ج5 ص62-63 ط دار الفكر.