ومفاد المسألة: سؤال من الجمهورية اليمنية يقول فيه الأخ السائل: إذا كان في عهدة من يعمل في إحدى مؤسسات الدولة مال عيني كالطوابع وخلافها من الأموال العينية، فهل يجوز له أن يستفيد من هذا المال؟، مع العلم أن هذا العامل يتقاضى راتبًا شهريًّا من المؤسسة التي يعمل فيها.

حكم استفادة العامل في إحدى مؤسسات الدولة من المال العيني الذي في عهدته

والجواب: أن للمال حرمة كحرمة الدم والعرض؛ وذلك لأنه الوسيلة المادية التي يتعامل بها الناس في حياتهم؛ لقضاء ما يحتاجونه فيها من مطعم، ومشرب، وملبس، وبسبب ما له من الأهمية في التعامل فقد أصبح عرضة للاعتداء عليه بعدة وسائل، فتارة بالاعتداء المباشر كالحرابة والغصب، وتارة بالسرقة، وتارة بالنهب، وتارة بالخيانة، ولما كانت هذه الوسائل مفسدة لأحوال الناس، ومفضية إلى فساد علاقاتهم ببعضهم، وما يؤدي إليه ذلك من التقاتل والتشاجر بينهم، فقد اقتضت حكمة الله تحريم الاعتداء على المال.

والأصل في ذلك الكتاب والسنة:

أما الكتاب: ففيه عموم وخصوص، أما العموم فالآيات كثيرة، منها: قول الله  -تعالى-:  {وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة: 190]، وقوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، والنهي عن الاعتداء يقتضي التحريم، وهو عام وشامل لكل أنواعه، والأمر بالتعاون على البر والتقوى يقتضي تحريم ما كان على خلافه، ولهذا أكده الله في الجزء الآخر من الآية بقوله: {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وهذا نهي شامل لكل أنواع الإثم والعدوان، ومنه: الاعتداء على المال.

أما الخصوص فقد حرم الله السرقة، وأمر بقطع يد السارق جزاءً ونكالًا له في قوله -تعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ} [المائدة: 38].

والعقاب على الاعتداء على المال أمر مسلم به، ولكن الفقه يختلف في نوع العقاب تبعًا لنوع الاعتداء وطبيعته، والمؤثرات فيه.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا قطع في خيانة المال؛ لعدم توافر الحرز في فعله، ولا قطع في من ينتهب أو يختلس؛ لأنهما مجاهران بالفعل، والأساس في ذلك قول رسول الله -ﷺ-: (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع)([1]).

وفي المذهب-أيضًا-: لا قطع في من يسرق من بيت المال؛ لأنه يستحق منه عند الحاجة، فكان في ذلك شبهة تنفي القطع، ولا قطع في مال للسارق فيه شركة([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا قطع في الاختلاس، ويقصد به أخذ المال على غفلة، وفرار آخذه بسرعة، ويقطع من سرق مما لا شبهة له فيه، كما يقطع مما له فيه شبهة ضعيفة، كما لو سرق من بيت المال، أو الغنيمة التي هو بين أهلها إذا حيزت؛ لأنها لا تستحق إلا بالقسمة، كما يقطع من سرق من مال شركة بينه وبين غيره إذا حجب المال المسروق عنه([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: لا يجب على المنتهب قطع، ولا على المختلس، ولا يجب قطع فيما فيه شبهة؛ لقول رسول الله -ﷺ-: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)([4])، فإذا سرق المسلم من مال بيت المال فلا قطع فيه؛ استدلالًا بأن عاملًا لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال، فأجابه: “لا تقطعه، فما من أحد إلا وله فيه حق”([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الغاصب ولا على الخائن قطع، ولا قطع على من يسرق من بيت المال، ولا على من يسرق من مال له فيه شرك([6]).

وعلى هذا فإن مذهب الأئمة: أبي حنيفة والشافعي وأحمد يرى أنه لا قطع على المختلس، والخائن، والمنتهب، والسارق من بيت المال، والغاصب، والسارق من المال المشترك، ويعاقب هؤلاء بما هو أقل من ذلك.

أما مذهب الإمام مالك: فيتفق معهم في عدم القطع في الاختلاس، ويختلف معهم في السرقة من مال بيت المال ومال الشريك، فيرى في ذلك القطع.

وللإمام ابن حزم رأي مخالف، فيرى أن رسول الله -ﷺ- قضى بقطع السارق جملة، ولم يخص حرزًا من غير حرز([7])، ثم قال أبو محمد: “ونحن نشهد بشهادة الله  -تعالى- أن الله -عز وجل- لو أراد ألا يقطع السارق حتى يسرق من حرز، ويخرجه من الدار لما أغفل ذلك، ولا أهمله، ولا أعنتنا بأن يكلفنا علم شريعة لم يطلعنا عليه، ولبينه على رسوله -ﷺ-، إما في الوحي، وإما في النقل المنقول، فإذا لم يفعل الله  -تعالى-ذلك ولا رسوله -ﷺ- فنحن نشهد ونبت ونقطع بيقين لا يمازجه شك أن الله  -تعالى- لم يرد قطُّ ولا رسوله -ﷺ- اشتراط الحرز في السرقة”([8]).

وبعد أن رد أبو محمد على من يقول بعدم القطع في السرقة من بيت المال قال: “والعمل في ذلك أن ننظر فيمن سرق من شيء له فيه نصيب من بيت المال أو الخمس، أو المغنم، أو غير ذلك، فإن كان نصيبه محددًا معروف المقدار كالغنيمة، أو ما اشترك فيه ببيع، أو ميراث، أو غير ذلك، أو كان من أهل الخمس، نظر فإن أخذ زائدًا على نصيبه مما يجب في مثله القطع قُطِعَ ولا بد، فإن سرق أقل فلا قطع عليه، إلا أن يكون مُنِعَ حقَّه في ذلك، أو احتاج إليه، فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى أخذ ما أخذ إذا لم يقدر على تخليص مقدار حقه، والله  -تعالى-يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]([9]).

قلت: وحجة الفقهاء الذين قالوا بعدم القطع في الاختلاس والانتهاب هي أن الفاعل يأخذ المال على نحو يمكن نزعه منه، إما بالاستعانة بالناس، أو بولي الأمر، إما عن طريق القضاء كما هو الحال في الذي يجحد العارية أو الأمانة، أما الذي يأخذ المال من حرزه فيأخذه عامدًا متعديًا على وسيلة حفظه، ككسر الأقفال، وفتح الأبواب ليلًا، فجزاؤه حينئذ القطع؛ لأنه لا وسيلة لردعه إلا بهذه العقوبة.

وانتفاء هذه العقوبة عن المختلس والخائن المنتهب والسارق من بيت المال لا يعني انتفاء العقوبة عنهم، فالاختلاس وما في حكمه من الخيانة يعد من المحرمات المعاقَبِ عليها ديانةً وقضاءً، أما الديانة فقد روى أبو حميد الساعدي أن رسول الله -ﷺ- استعمل على الصدقة رجلًا، فجاء يقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، فقام رسول الله -ﷺ-، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (فما بال العامل نستعمله، فيأتينا، فيقول: هذا من عملكم، وهذا أهدي لي؟، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر: هل يُهدى له أم لا؟، فوالذي نفس محمد بيده لا يغُل أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيرًا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر، فقد بلغْتُ)([10]).

وفي حديث آخر أن رسول الله -ﷺ- قال: (من استعملناه منكم على عمل، فكتمَنا مخيطًا فما فوقه، كان غلولًا يأتي به يوم القيامة)، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، فقال: (وما ذاك)؟، قال: سمعتك تقول كذا وكذا، فقال رسول الله -ﷺ-: (وأنا أقوله الآن: من استعملناه على عمل، فيجيء بقليله وكثيره، فما أُعطي منه أخذ، وما نُهي عنه انتهى)([11]).

أما القضاء فالمختلس مطالب برد ما اختلسه، والخائن مطالب برد ما أخذه خيانة، والذين قالوا بعدم القطع في السرقة من بيت المال قالوا ذلك تجوزًا، ولم يقصدوا بقولهم الإطلاق كما قد يظنه ظانٌّ، وإنما قصدوا به المحتاج الذي ليس له فرصة من رزق تسد حاجته، أما وقد أصبحت الأحوال على ما نشاهده اليوم من قيام الدول بإيجاد فرص للعمل، وتوفير وسائل العيش، والضمان الاجتماعي للمحتاجين ومن على شاكلتهم، فلا مجال للاجتهاد.

فالموظف الذي يتقاضى مرتبًا، ثم يمد يده إلى ما في عهدته من مال عيني أو خلافه يعد سارقًا ومتعديًا على المال العام، والشخص الذي يجد فرصة للعمل، ويتعدى على المال العام، يعد معتديًا وسارقًا، وفي جميع الأحوال فإن التعدي على مال بيت المال (المال العام) يعد جريمة منكرة، ولا عذر لأحد في تعليلها باجتهاد رآه بعض الفقهاء في زمن يختلف عن الزمن الذي نعيش فيه.

أما سؤال الأخ السائل فإن كان المال العيني الذي يأخذه العامل يعد من الصغائر، كالطابع العادي أو نحوه مما يتعارف الناس على قلة قيمته، فلا حرج فيه، وإن كان الأَولى عدم أخذ أي شيء من المال العام اقتفاءً وتأسيًا بما كان يفعله السلف الصالح من الأمة.

وخلاصة المسألة: أن للمال حرمةً كحرمة الدم والعرض، وقد اقتضت حكمة الله تحريم الاعتداء على المال، والعقاب على هذا الاعتداء أمر مسلم به، ولكن الفقه يختلف في نوع العقاب تبعًا لنوع الاعتداء وطبيعته، والمؤثرات فيه، فمن الفقهاء من لا يرى القطع في الاختلاس، والخيانة، والانتهاب، والسرقة من بيت المال، والغصب والسرقة من المال المشترك، ومن الفقهاء من يرى القطع في بعض هذه الأفعال، ومنهم من يرى القطع في كل تعدٍّ على المال، أيًّا كان نوع التعدي.

وانتفاء عقوبة القطع عن المختلس والخائن والسارق من بيت المال ومن على شاكلتهم لا يعني انتفاء العقوبة عنهم، فهذه الأفعال تعد من المحرمات المعاقب عليها ديانةً وقضاءً، وليس لأحد أن يقول بجواز السرقة من بيت المال، والذين لم يروا القطع في ذلك لم يقصدوا بقولهم الإطلاق، وإنما قصدوا المحتاج الذي ليس له مصدر رزق يسد حاجته، ومع ذلك فلهذا عقوبة تقتضيها طبيعة السرقة، ووقائعها، والمرتكب لها، وفي كل الأحوال فإن التعدي على مال بيت المال (المال العام) يعد جريمة منكرة، ولا عذر لأحد في تعليلها باجتهاد رآه بعض الفقهاء في زمن يختلف عن الزمن الذي نعيش فيه.

أما سؤال الأخ السائل فإن كان المال العيني الذي يأخذه العامل يعد من الصغائر كالطابع العادي وخلافه مما يتعارف الناس على ضعف قيمته فهذا لا حرج على من يأخذه، وإن كان الأولى والأفضل عدم أخذ شيء من المال العام إلا بحقه.

والله أعلم.

([1]) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه، والنسائي في قطع السارق، باب ما لا قطع فيه، وابن ماجة في الفتن، باب الخائن والمنتهب والمختلس، والترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب، برقم (1448)، سنن الترمذي ج4 ص42، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٤٤٨).

([2]) شرح فتح القدير لابن الهمام، ج5 ص373-376، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج4 ص94-98، وبدائع الصنائع للكاساني، ج7 ص70، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي، ج4 ص108، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي، ج3 ص205.

([3]) شرح منح الجليل على مختصر خليل للحطاب لعليش، ج9 ص306-307، 324-325، ومواهب الجليل على مختصر خليل للحطاب، ج6 ص307-309، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج3 ص329، والبيان والتحصيل لابن رشد، ج16 ص263، والتاج والإكليل للمواق، ج6 ص307-309.

([4]) أخرجه الزيلعي في نصب الراية في باب الوطء الذي يوجب الحد، وقال: “غريب بهذا اللفظ”، ج3 ص333، وقال العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس ج1 ص73: “قال شيخنا-يعني الحافظ ابن حجر-: وفي سنده من لا يعرف”، ثم أضاف العجلوني قائلًا: “والمعروف في كتب الحديث أنه من قول عمر بن الخطاب بغير لفظه”.

([5]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج2 ص277، 281، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج2 ص445، 446، 457، والمجموع شرح المهذب للنووي، ج20 ص93، والأم للإمام الشافعي، ج6 ص151، وكفاية الأخيار للحسيني، ج2 ص191.

([6]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج6 ص129، 141-142، وانظر: الإنصاف للمرداوي، ج10 ص253-254، 278-279، والمغني لابن قدامة، ج10 ص260، 278، ومطالب أولي النهى للرحيباني، ج6 ص228، 243، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، ج6 ص329-330.

([7]) الإيصال في المحلى بالآثار، للإمام ابن حزم، ج12 ص303-309.

([8]) الإيصال في المحلى بالآثار، ج12 ص310.

([9]) الإيصال في المحلى بالآثار، ج12 ص313.

([10]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي -ﷺ-، صحيح البخاري، ج7 ص219، والرجل المشار إليه في الحديث هو ابن اللتبية الأزدي، استعمله النبي -ﷺ-على زكاة بني سليم، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 218.

([11]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص222.