والجواب: أن زيارة القبور ليست واجبة، ولكنها مستحبة؛ لما فيها من العظة، وتذكر الموت، والزهد في مفاتن الدنيا وزخرفها، ولما فيها من تليين القلوب القاسية، وتذكر عظمة الله عز وجل، وما كتبه على الإنسان من الموت، والانتقال إلى الآخرة وما فيها من الجزاء، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز في قوله -عز وجل-: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون} [التكاثر: ١–٣]. وقد دلت الأحاديث النبوية على استحباب زيارة القبور والسلام على أهلها، والدعاء لهم، ومن هذه الأحاديث ما روته عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله r كلما كان ليلتها كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين. وأتاكم ما توعدون غدًا. مؤجلون وإنا، إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)([1]). ومنها ما رواه بريدة عن أبيه أن رسول الله r كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية)([2]).
ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة t أن رسول الله r قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي)، وقد زار رسول الله عليه الصلاة والسلام قبر أمه فبكى وأبكى من حوله([3]). ومنها ما رواه بريدة أن رسول الله r قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإن زيارتها تذكركم الآخرة)([4]).
وقد استدل الفقهاء -رحمهم الله- بهذه الأحاديث على استحباب زيارة القبور؛ بل منهم من ندب إليها، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا بأس بزيارة القبور والدعاء للأموات إن كانوا مؤمنين، وذلك من غير وطء لها. استدلالًا بحديث رسول الله rالمتقدم ذكره (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن في زيارتها تذكرة). واستدلالًا أيضًا بعمل الأمة من لدن رسول الله r، وقيل في المذهب بأن الزيارة تندب كل أسبوع([5]).
وفي مـذهــب الإمـام مـالك: أن زيارة القبور مندوبة؛ لأن قـول رســول الله ﷺ: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن في زيارتها تذكرة). وغيره من الأحاديث الأخرى يقتضي الحث على الزيارة([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: تستحب زيارة القبور استدلالًا بالأحاديث المتقدمة([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يستحب للرجال زيارة القبور استدلالًا بهذه الأحاديث([8]).
قلت: فاقتضى هذا أنه لا خلاف في زيارة الرجال للقبور، والسلام على أصحابها والدعاء لهم، والاستغفار لهم، كما كان رسول الله r يذهب إلى البقيع ويسلم على أهله ويدعو لهم، وليس لهذه الزيارة وقت محدد؛ فقد تكون متباعدة أو متقاربة، وقد تكون في مناسبة معينة كمناسبة العيد، أو القدوم من السفر، أما المداومة عليها كل يوم أو نحوه، واتخاذ ذلك عادة فليس له أصل من السنة؛ لأن الأصل في الزيارة الاستحباب، والمسلم في حاجة إلى أن يستفيد من وقته لعمله لدينه ولرزقه وحاجاته، فذاك أنفع له من المداومة اليومية على زيارة القبور.
وأما سؤال الأخ السائل عن الصلاة عند القبور، فإن كان المقصود من الصلاة، الصلاة على الميت؛ لأنه لم يصل عليه لغيابه أو سفره، فهذا جائز؛ لأن الصلاة عليه هنا صلاة جنازة. أما إن كان المقصود بالصلاة صلاة الفرائض، أو النوافل أو غيرها عند القبور، فهذا من البدع المحرمة؛ لأن للصلاة أماكنها المعروفة وهي المساجد وما في حكمها.. وقد حذر رسول الله r من الصلاة عند القبور، ومن ذلك أن أم سلمة -رضي الله عنها- ذكرت لرسول الله r كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)([9]). ومن ذلك قول رسول الله r قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)([10]). وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)([11]). وقوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد)([12]).
وتحذير رسول الله rمن الصلاة عند القبور له دلالاته، وأسبابه، لما قد تفضي إليه الصلاة عندها من عبادة أصحابها من دون الله؛ فإن من أسباب الشرك في قوم نوح أنهم عكفوا على قبورهم، وصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. وقد أخبر الله عنهم في قوله -عز وجل-: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 32] .
وإن كانت الصلاة عند القبور بقصد طلب الدعاء من أصحابها، أو رجائهم، أو الاستعانة، أو الاستغاثة بهم، فهذا شرك أكبر، توعد الله بعدم مغفرته لكونه يجعل معه شريكًا في ألوهيته، فقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء: 611].
أما سؤال الأخ السائل عن حكم زيارة النساء للقبور، فجمهور العلماء على أنها مكروهة لهن، استدلالًا بقول رسول الله r : (لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)([13]). وقد فرق الأحناف في ذلك؛ فإن كان النساء شواب فتكره لهن الزيارة، وإن كن عجائز فيندب ذلك لهن إذا كان القصد هو الترحم من غير بكاء([14]). والأمر كذلك في مذهب الإمام مالك إذا انفرد العجائز بالخروج عن الرجال؛ لأن قول رسول الله r (زوروا القبور) عام([15]). وفي مذهب الإمام الشافعي ثلاثة أوجه: التحريم، والكراهة، والإباحة إذا أمنت الفتنة([16]).
وفي مذهب الإمام أحمد قال البهوتي: «تكره زيارة القبور للنساء لما روته أم عطية قالت: «نهينا عن rزيارة القبور، ولم يعزم علينا» فإن علم أنه يقع منهن محرم حرمت زيارتهن القبور، وعليه يحمل قوله : (لعن الله زوارات القبور) غير قبر النبي rوقبر صاحبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فيسن زيارتها للرجال والنساء لعموم الأدلة في طلب زيارته r. وإن اجتازت امرأة بقبر في طريقها ولم تكن خرجت له فسلمت عليه ودعت له فحسن؛ لأنها لم تخرج لذلك»([17]).
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور مطلقًا. وقد فصل القول في ذلك، ثم ختمه بقوله: «ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها، فيحرم هذا الباب سدًّا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية، وغير ذلك من النظر، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها، ولهذا قال الفقهاء: إذا علمت المرأة من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل لم تجز لها الزيارة بلا نزاع»([18]).
قلت: ومن هذا يتبين أن مسألة زيارة النساء للقبور محل اجتهاد بين الفقهاء -رحمهم الله- فمن كان منهم يجيزها علّل الجواز بحديث رسول الله r: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)([19])، فجعل هذا الجواز عامًّا للرجال والنساء. ومن رأى منهم كراهتها أو منعها علّل ذلك بما ورد عن رسول الله r من لعن زوارات القبور، كما علله بالخوف من فتنة النساء، واحتمال نياحتهن مما هو محرم أصلًا.
ولعل الأحوط في ذلك أن تترحم النساء على الأموات، ويدعون لهم، ويستغفرن لهم فلعل في ذلك خيرًا لهن إذا كن في بيوتهن. وإن مررن في طريقهن بالمقابر فسلمن على من فيها، ودعون لهم فذلك حسن، كما قاله فقيه الحنابلة الإمام البهوتي.
وخلاصة المسألة: أن زيارة القبور مستحبة للرجال، اقتداء بما كان رسول الله r يفعله من زيارة البقيع، والسلام على أهله، وبما ورد من الأحاديث الدالة على سنة الزيارة، وليس لهذه الزيارة وقت محدد، بل قد تكون متباعدة أو متقاربة. أما المداومة عليها كل يوم فليس له أصل في السنة.
وأما الصلاة عند القبور، فإن كان المقصود منها الصلاة على ميت توفي في غيابه، فالصلاة هنا صلاة جنازة ولا بأس بها. وإن كان المقصود بالصلاة صلاة الفرائض أو النوافل أو غيرها، فهذا من البدع المحرمة؛ لأن للصلاة أماكنها المعروفة وهي المساجد، وما في حكمها. وقد حذر رسول الله r من الصلاة عند القبور، لما قد تفضي إليه من عبادة أصحابها من دون الله.
وإن كانت الصلاة عند القبور، بقصد طلب الدعاء من أصحابها، أو رجائهم، أو الاستعانة، أو الاستغاثة بهم فهذا شرك أكبر، توعد الله بعدم مغفرته، لكونه يجعل مع الله شريكًا في ألوهيته.
أما حكم زيارة النساء للقبور:
فجمهور العلماء على أنها مكروهة، ومن العلماء من قال بجوازها للقواعد من النساء، ومنعها على الشواب منهن. ومنهم من قال بالمنع مطلقًا؛ فالمسألة إذًا محل اجتهاد بين الفقهاء -رحمهم الله- ولعل الأحوط في ذلك أن تترحم النساء على الأموات، وتدعون لهم وتستغفرن لهم، فلعل ذلك خير لهن إذا كن في بيوتهن. وإن مررن في طريقهن بالمقابر فسلمن على من فيها ودعون لهم فذلك حسن.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي ج٣ ص٨٨٣-٠٩٣، برقم (٢٠١).
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي ج٣ ص٨٨٣-٠٩٣، برقم (٤٠١).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي r ربّه عز وجل في زيارة قبر أمه، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي ج٣ ص٥٩٣-٦٩٣، برقم (٥٠١، ٦٠١).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي r ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج٣ ص٦٩٣، برقم (٧٠١)، وأخرجه أحمد في مسنده، ج٥ ص٥٣، برقم (٥٥٣) والزيادة له.
([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للإمام الكاساني، ج١ ص٠٢٣، وانظر حاشية رد المحتار، لابن عابدين، ج٢ ص٢٤٢.
([6]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج١ ص٢٢٤، وجامع الأحكام الفقهية، للإمام القرطبي من تفسيره، ج١ ص٢٩٢.
([7]) روضة الطالبين، للإمام النووي، ج٢ ص٩٣١، والحاوي الكبير، للماوردي، ج٣ ص٨٣٢.
([8]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، ج٢ ص١٦٥، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي، ج٢ ص٠٥١.
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر، فتح الباري ج٣ ص٧٤٢، برقم (٤٣١) ومسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم (2/324 رقم 61)
([10]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج٢ ص٥٢٤-٦٢٤، برقم (٣٢).
([11]) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج٣ ص٥٨٣، برقم (٧٩، ٨٩).
([12]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج2 ص246، قال الألباني في أحكام الجنائز (٢٧٦): إسناده صحيح.
([13]) حاشية رد المحتار، لابن عابدين ج٢ ص٢٤٢، والحديث أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، سنن أبي داود، ج٣ ص٦١٢، برقم (٦٣٢٣)، وقال الألباني في إرواء الغليل (٧٦١): ضعيف.
([14]) حاشية رد المحتار، لابن عابدين، ج٢ ص٢٤٢، وانظر: إعلاء السنن، لظفر أحمد العثماني، ج٨ ص٨١٣-٥٢٣.
([15]) جامع الأحكام الفقهية، للإمام القرطبي من تفسيره، ج١ ص٢٩٢-٣٩٢.
([16]) صحيح مسلم بشرح إكمال إكمال المعلم للأبي وشرحه مكمل إكمال الإكمال للحسني، ج٣ ص٤٩٣، وانظر روضة الطالبين، للإمام النووي، ج٢ ص٩٣١.
([17]) كشاف القناع عن متن الإقناع ج٢ ص٠٥١، وانظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، ج٢ ص١٦٥-٢٦٥.
([18]) كتاب الزيارة، مطبوع ضمن كتاب الجامع الفريد، ص٥٣٥-٣٤٥.
([19]) وقد ذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: أن النساء كالرجال في استحباب زيارة القبور لوجوه: الأول: عموم قوله r (.. فزوروا القبور)، فيدخل فيه النساء. الثاني: مشاركتهنّ الرجال في العلة التي شرعت زيارة القبور. الثالث: أنّ النبي r قد رخص لهنّ في زيارة القبور، في حديثين حفِظَتْهما لنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن عبدالله بن أبي مليكة «أنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلتُ لها: يا أمَّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبدالرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله r نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، ثم أمر بزيارتها». أخرجه الحاكم في المستدرك، ج١ ص٦٧٣. وحديث عائشة -رضي الله عنها- عند مسلم وفيه: «إنّ ربَّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفري لهم، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: (قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)، ولكن لا يجوز لهن الإكثار من زيارة القبور والتردد عليها، لأن ذلك قد يفضي بهنّ إلى مخالفة الشريعة، من مثل الصياح والتبرّج واتخاذ القبور مجالس للنزهة، وتضييع الوقت في الكلام الفارغ، كما هو مشاهد اليوم في بعض البلاد الإسلامية، وهذا هو المراد بحديث (لعن الله زوارات القبور). انظر: أحكام الجنائز، للألباني، ص٩٢٢-٥٣٢.