ومفاد المسألة سؤال من الأخ ن‮ … ‬أنصر من الجزائر‮ ‬يقول فيه‮: ‬هل‮ ‬الجنة والنار موجودتان الآن،‮ ‬وإن كانتا‮ ‬غير موجودتين فأين تسكن أرواح المؤمنين والكافرين‬؟.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وجود الـجنة والنار حقيقة قطعية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

والجواب: من الحقائق القطعية أن الجنة والنار مخلوقتان من خلق الله، وأنهما موجودتان الآن؛ هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة. والأصل في خلقهما كتاب الله، وسنة رسوله محمد r، والإجماع. أما كتاب الله فقوله -عز وجل-: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 201]. وقوله لنبيهr  أن يقول للمشركين الذين أشركوا مع الله في خلقه: {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [الرعد: 61]. وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: ٢]. وقوله عز من قائل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 26] . وقوله جل ثناؤه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 26]. فاقتضى هذا أن كل ما في الكون العلوي، والكون الأرضي من مخلوقات هو من خلق الله، وإرادته، وأمره؛ لأن كلمة (كل) تقتضي الاستغراق والحصر، ونفي كل خالق آخر غيره.

 

وأما السنة: فالأحاديث كثيرة، نجتزئ منها ما رواه الترمذي عن أبي هريرة t عن رسول الله r قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعدّه الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: فوعزّتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد! قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)([1]). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة؛ فدل هذا حكمًا على أن الله قد خلق الجنة والنار منذ أن قدر ذلك في سابق علمه وأمره، وإرادته.

وأما الإجماع: فقد أجمع جمهور العلماء من السلف والخلف على سابق هذا الوجود، ولم تشذ عن هذا إلا المعتزلة والقدرية، الذين ادعوا أن الله يخلقهما يوم القيامة.

أما وجود الجنة والنار الآن فهو أيضًا حقيقة قطعية ثابتة بثبوت خلقهما، والأصل في هذا الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب: فالآيات في كتاب الله كثيرة، منها قوله -عز وجل- في وجود الجنة: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران: 331] . وقوله -عز وجل-: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} [الرعد: 53]. وقوله عز من قائل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد: 51]. وقوله جل ثناؤه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 12].

ومن الآيات في كتاب الله عن وجود النار قوله -عز وجل-: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين} [آل عمران: ١٣١]. وقوله جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب: 46].

 

وقوله -عز وجل- في المنافقين والمنافقات والمشركين و المشركات: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]. وقوله في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 64].

وقوله عز من قائل: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ: 12-22]. إلى قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا * إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 42- 52].

وأما السنة: فما ورد في الصحيحين في قصة الإسراء، وفيها: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال ثم دخلت الجنة، فإذا فيها جبال اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)([2]). وما ورد في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله r قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، من أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)([3]). وما رواه عمران بن حصين tأن رسول الله r قال: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ثم اقترأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [السجدة: 61-71]([4]). وحديث أبي هريرة t أن رسول الله r قال: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أَكَلَ بَعْضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون في الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)([5]).

فاقتضى هذا حقيقة وجودهما؛ لأن قول الله عز وجل في الجنة (أعدت) و(تجري من تحتها الأنهار)، وقوله في النار (أعدت للكافرين) وأعد لهم سعيرًا، ولا يذوقون فيها بردًا ولا شرابًا، يدل على واقع هذا الوجود وحقيقته؛ وقوعًا فعليًّا تامًّا؛ لأن (الإعداد) كما يُفهم منه لغة قد تم فيما مضى من سابق خلق الله، وأمره. كما أن ذكر الله -عز وجل- لواقع الجنة والنار، وما في الأولى من الأنهار، وما في الثانية من عرض آل فرعون عليها في الغداة

 

والعشي، وما فيها من حرمان أهلها من البرد والشراب يدل أيضًا على حقيقة سابق هذا الوجود.

وهذا هو ما بيّنه أيضًا رسول الله r في الأحاديث السابقة من دخوله الجنة، وما رآه فيها حين أسري به، وما بيّنه عليه الصلاة والسلام عما سيواجه الميت من عرض مقعده عليه من الجنة أو النار هو أيضًا دليل على سابق هذا الوجود.

أما الإجماع فقد أجمع علماء السلف والخلف على وجود الجنة والنار وجود علم ويقين، ولم ينكره -كما ذكر- إلا الذين اشتبهت عليهم الحقيقة، وضلت بهم السبل من القدرية، والمعتزلة، فأولوا النصوص بما يخدم شبههم مما يتعارض كلية مع ما في كتاب الله وسنة رسوله محمد r.

وخلاصة المسألة: أن الجنة والنار مخلوقتان من خلق الله، والأصل في ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع. كما أنهما موجودتان وجود علم ويقين وقد أجمع السلف والخلف على سابق هذا الوجود، ولم يشذ عن هذا إلا المعتزلة والقدرية الذين اشتبهت عليهم الحقائق، وضلت بهم السبل، فأولوا النصوص بما يخدم شبههم، وزعموا أن الله يخلقهما يوم القيامة؛ مما يتعارض مع ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله محمد r وإجماع السلف.

([1]) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، سنن الترمذي، ج٤ ص٨٩٥، برقم (٠٦٥٢)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار، سنن أبي داود، ج٤ ص٦٣٢-٧٣٢، برقم (٤٤٧٤)، قال الألباني في صحيح النسائي (٣٧٧٢): حسن صحيح.

([2]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، صحيح البخاري، ج١ ص١٩-٣٩.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الميِّت يعرَضُ عليه مقعده بالغداة والعشي، فتح الباري، ج٣ ص٦٨٢، برقم (٩٧٣١).

([4]) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج٩ ص١٧٢-٢٧٢، برقم (٥).

([5]) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، فتح الباري، ج٢ ص٣٢، برقم (٧٣٥).