ومفاد المسألة سؤال من الأخ/ ماجد محسن المراني من الجمهورية اليمنية يطلب فيه الإفادة عن القات، وحكمه، وما قيل فيه.

حكم القات وما قيل فيه

تمهيد:

نبتة القات معروفة بالاسم والشكل عند كثير من سكان أثيوبيا، وإريتريا، والصومال، وكينيا، واليمن، وجيبوتي، وفي أماكن أخرى، وهي عبارة عن شجيرة صغيرة خضراء في لونها، وليس لها رائحة مميزة، ولا يتجاوز ارتفاعها مترين، وتزرع في عدة أماكن من البلدان المذكورة، ومنها النوع الجيد والنوع الرديء حسب الموقع الذي تزرع فيه، ويمضغ متعاطي القات أوراق هذه الشجرة عن طريق وضعها في أحد جانبي الفم؛ لامتصاص عصارة الورق تمهيدا لبلعها.

ويستمر المتعاطي في إضافة أوراق الشجرة كل فترة مع شرب الماء أو غيره، ويقوم بهذا المضغ إما منفردا أو من خلال جلسة جماعية من المعارف والأصدقاء، تسمى ‏«‏جلسة التخزين‏»‏‏.

وأكثر ما يتعاطاه الرجال، وبعض من النساء يتعاطينه في بيوتهن.

وتظهر علامة التعاطي في شكل تورم في أحد جانبي الوجه تكدس أوراق الشجرة في هذا الجانب.

ويعد تعاطي القات ظاهرة متفشية في البلدان المشار إليها آنفا، وقد تصدى لهذه الظاهرة عدد من الباحثين؛ لبيان أضرارها الشرعية باعتبار القات من المفترات التي ورد النص على تحريمها مثل المسكرات، وبيان أضرارها الصحية باعتبار ما ينتج عن تعاطيه من الشعور بالغثيان، وارتفاع ضغط الدم عند بعض متعاطيه، ونقص الشهية عند بعضهم الآخر، إضافة إلى الإمساك، وانحباس البول، وسوء الهضم، وما ينتج عن هذه العوارض من أضرار صحية تبعية أخرى، يعاني منها متعاطو القات طيلة سني حياتهم.

كما تصدى عدد من الباحثين لأضرار القات الاقتصادية؛ لما في جلسات التخزين من هدر للوقت، وضياع لسنوات العمر، وهدر للمال، واستغلال لجهد الإنسان؛ حيث ينفق بعض متعاطيه أكثر من خمسين في المئة من دخلهم اليومي؛ مما ينعكس على حياتهم الاجتماعية والأسرية، وعلى الأخص عندما يبتعد المتعاطي عن بيته ساعات طويلة في جلسات التخزين، فينسى واجبه في تربية أولاده، وتفقد أحوال أسرته، إضافة إلى حرمانها من مال يهدر في هذه الجلسات كان الأولى أن ينفقه عليها لتنشيط دورها في الحياة الاجتماعية العامة، وتربية جيل قوي في بنيته وسلوكه وطموحه.

لقد تصدى عدد من الباحثين لبيان أضرار القات، ومن المهم الإشادة بهذه البحوث، والإشادة كذلك بما تأسس من جمعيات لمحاربة هذه الظاهرة، وبيان أضرارها، وأذكر في هذا الشأن ما يقوم به معالي الأخ الدكتور/ رشاد العليمي وزير الداخلية في الجمهورية اليمنية من جهود مشهودة، حيث يرأس جمعية من المفكرين والعلماء والباحثين؛ لمحاربة هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع اليمني الشقيق.

الجانب الشرعي في مسألة القات:

لقد تعددت الاجتهادات الفقهية في حكم القات، وقد نتج عن هذا التعدد تفاوت في الحكم عليه، إما بالقول بالتوقف فيه لعدم معرفة ذلك المجتهد لطبيعة القات وآثاره، أو لتصور مجتهد آخر لعدم ضرره، أو القول بحرمته وفقا للقواعد الشرعية التي توجب درء الضرر عن النفس، سواء كان هذا الضرر يتعلق بالدين أو النفس أو المال أو العرض.

ومن الفقهاء الذين اجتهدوا في الحكم عليه: الإمام الشوكاني([1])، فقد قال: ‏«‏وأما القات فقد أكلت منه أنواعا مختلفة، وأكثرت منها، فلم أجد لذلك أثرا في تفتير ولا تخدير ولا تغيير‏»‏‏.

وقد وقعت فيه أبحاث طويلة بين جماعة من علماء اليمن عند أول ظهوره، وبلغت تلك المذاكرة إلى علماء مكة، وكتب ابن حجر الهيثمي في ذلك رسالة طويلة، سماها ‏«‏تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات‏،»‏‏ ووقفت عليها في أيام سابقة، فوجدته تكلم فيها كلام من لا يعرف ماهية القات، ثم قال: “وبالجملة فإنه إذا كان بعض أنواعه يبلغ إلى حد السكر أو التفتير من الأنواع التي لا نعرفها توجه الحكم بتحريم ذلك النوع بخصوصه، وهكذا إذا كان يضر بعض الطباع من دون إسكار وتفتير حرم لإضراره، وإلا فالأصل الحل كما يدل على ذلك عمومات القرآن والسنة([2]).

أما الإمام ابن حجر الهيثمي([3]) فقد أشار في رسالته ‏«‏تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات‏»‏‏([4]) إلى ما ذكره أبو بكر بن إبراهيم المقرى الحرازي الشافعي في مؤلفه في تحريم القات من أنه كان يأكل القات في سن الشباب، ثم اعتقدها من المتشابهات، وقد قال -ﷺ-: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»([5])، ثم قال: إنه رأى من أكلها الضرر في بدنه ودينه، فترك أكلها، وأن العلماء ذكروا أن المضارات من أشهر المحرمات، فمن ضررها أن آكلها يرتاح، ويطرب، وتطيب نفسه، ويذهب حزنه، ثم يعتريه قدر ساعتين من أكله همومٌ متراكمةٌ، وغمومٌ متزاحمةٌ، وسوء أخلاق، وأنه إذا كان في هذه الحالة، وقرأ عليه أحد يشق عليه مراجعته، ويرى هذه المراجعة جبلا ومشقة عظيمة ومللا، وأنه (أي: القات) يذهب بشهوة الطعام ولذته، ويطرد النوم ونعمته.

ومن ضرره في البدن: أنه يخرج من أكله بعد البول شيء كالودي([6])، ولا ينقطع إلا بعد حين، ثم قال([7]): “وطالما كنت أتوضأ، فأحس بشيء منه (الودي)، فأعيد الوضوء، وتارة أحس به في الصلاة، فأقطعها، أو عقب الصلاة بحيث أتحقق خروجه فيها، فأعيدها. وسألت كثيرا ممن يأكلها، فذكروا ذلك عنها، وهذه مصيبة في الدين، وبلية على المسلمين، وحدثني (والقول له) عبد الله بن يوسف المقري عن العلامة يوسف بن يونس المقري أنه كان يقول: ظهر القات في زمن فقهاء لا يجسرون على تحريم ولا تحليل، ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدمين لحرموه، وقد دخل عراقي اليمن، يسمى الفقيه إبراهيم، وكان يجهر بتحريم القات، وينكر على آكليه، وذكر أنه إنما حرمه على ما وصف له من أحوال مستعمليه، ثم إنه أكله مرة أو مرارا لاختباره، قال: فجزمت بتحريمه لضرره وإسكاره، وكان يقول: ما يخرج عقب البول بسببه مَنِيٌّ.

ثم اجتمعتُ به، فقلت له: نسمع عنك أنك تحرم القات، قال: نعم!، فقلت له: وما الدليل؟، فقال: ضرره وإسكاره؛ فضرره ظاهر، وأما إسكاره فهل هو مطرب؟. فقلت: نعم. فقال: فقد قالت الشافعية وغيرهم في الرد على الحنفية في إباحتهم ما لم يسكر من النبيذ: النبيذ حرم قياسا على الخمر، بجامع الشدة المطربة. فقلت له: يروون عنك أنك تقول: ما يخرج عنه مني، وليس فيه شيء من خواص المني. فقال: إنه يخرج قبل استحكامه، وكان عمي أحمد بن إبراهيم المقري -وكان له معرفة بالطب وغيره- يصرح بتحريمه، ويقول: إنه مسكر، وقد رأيت من أكثر من أكله فجن‏»([8]).

كما ذكر الإمام ابن حجر الهيتمي أن الفقيه العلامة حمزة الناشري يوافق القائلين بحرمة القات، وهو ممن يعتمد عليه نقلا وإفتاء كما تدل عليه ترجمة المذكور في تاريخ خاتمة الحفاظ والمحدثين الشمس السخاوي في منظومته المشهورة، وقد أخبرني محدث مكة -شرفها الله تعالى- أنه قرأها على مؤلفها حمزة المذكور، وأجازه بها:

ولا تأكلنَّ القاتَ رطبا ويابسا     فذاك مضر داؤه فيه أعضلا

فقـد قال أعلام من العلـماء:         إن هذا حرام للتضرر مأكلا

ومن حجج القائلين بالحرمة: أن النبي -ﷺ- نهى عن كل مسكر ومفتر، قال في النهاية ما معناه: إن المفتر ما يكون منه حرارة في الجسد وانكسار، وذلك معلوم ومشاهد في القات ومستعمليه كسائر المسكرات، وإن كان يحصل منها توهم نشاط أو تحققه فإن ذلك مما فضل من الانتشاء والسكر الحاصل من التخدير للجسد، وكذلك يحصل من الإكثار والادمان على المسكر حتى الخمر خدر يخرج إلى الرعشة، والفالج، ويبس الدماغ، ودوام التغير للعقل، وغير ذلك من المضار، لكن القات لم يكن فيه من الطبع إلا ما هو مضرة دينية ودنيوية؛ لأن طبعه اليبس والبرد، فلا يصحبه شيء من منافع غيره من المسكرات التي أشار إليها الشارع؛ لأن سائر المسكرات فيها شيء من الحرارة واللين، فلا يظهر الضرر فيها إلا مع الإدمان عليها، وهذا محصل من الضرر في الأغلب ما في الأفيون من مسخ الخلقة، وتغير الحال المعتدلة في الخلق والخلق، وهو (القات) يزيد في الضرر على الأفيون من حيث إنه لا نفع فيه بعلم قط، وإن ضرره أكثر، وفيه كثرة يبس الدماغ، والخروج عن الطبع، وتقليل شهوة الغذاء والمياه، ويبس الأمعاء والمعدة، وبردها، وغير ذلك.

ومن أضرار القات: أن جميع الخصال التي ذكروها في الحشيشة موجودة فيه، مع زيادة حصول الضرر فيما به قوام الصحة وصلاح الجسد من إفساد شهوة الغذاء والمياه والنسل، وزيادة التهالك عليه الموجب لإتلاف المال الكثير الموجب للسرف.

ومن أضرار القات: أنه إن ظُنَّ فيه نفع فهو لا يقابل ضرره.

ومن أضراره: أنه شارك كل المسكرات في حقيقة الإسكار وسببه من التخدير وإظهار الدم، وترقيقه ظاهر البشرة، مع نبذ الدسومة من الدماغ والجسد إلى الظاهر، وليس فيه حرارة ولين يبدلان ما نبذه من الحرارة واللين إلى ظاهر الجسد، بخلاف الخمر والحشيش، فهذا أكثر ضررا”. هذا خلاصة ما ذكره الإمام ابن حجر الهيثمي في رسالته المشار إليها([9]).

قلت: ومن العلماء المحدثين الذين حرموا القات: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية، فقد أجاب -رحمه الله- على سؤال عن القات قائلا: “لقد تتبعنا ما أمكننا العثور عليه من كلام العلماء فيها، فظهر لنا بعد مزيد البحث والتحري، وسؤال من يعتد بقولهم من الثقات أن المتعين فيها المنع من تعاطي زراعتها، وتوريدها، واستعمالها؛ لما اشتملت عليه من المفاسد والمضار في العقول والأديان والأبدان، ولما فيها من إضاعة المال، وافتتان الناس بها، ولما اشتملت عليه من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهي شر ووسيلة لعدة شرور، والوسائل لها أحكام الغايات، وقد ثبت ضررها وتفتيرها وتخديرها..، ولا التفات لقول من نفى ذلك، فإن المثبت مقدم على النافي، فهاتان قاعدتان من قواعد الشريعة الأصولية تؤيدان القول بتحريمها، وقياسا لها على الحشيشة المحرمة؛ لاجتماعهما في كثير من الصفات، وليس بينهما تفريق عند أهل التحقيق([10]). وقد ساق رحمه الله عددا من الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء ممن أشير إلى بعض أقوالهم آنفا.

واستجابة لداعي الحاجة إلى بيان حقيقة القات، وعلاقته بالمسكرات والمخدرات قرر المشاركون في المؤتمر العالمي الإسلامي لمكافحة المسكرات والمخدرات الذي انعقد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بتاريخ 27/5/1402هـ تحريمه، حيث جاء في التوصية التاسعة من قرارهم ما يلي: “يقرر المؤتمر بعد استعراض ما قدم إليه من بحوث حول أضرار القات الصحية والنفسية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية أنه من المخدرات المحرمة شرعا، ولذلك فإنه يوصي الدول الإسلامية بتطبيق العقوبة الإسلامية الشرعية الرادعة على من يزرع، أو يدرج، أو يتناول هذا النبات الخبيث”([11]).

قلت: إن الاختلاف في الحكم على القات -خاصة من واحد أو أكثر من العلماء الأقدمين- كان بسبب اختلاف متعاطيه حول آثاره وأضراره؛ فمنهم من قال بعدم ضرره الصحي كالإمام الشوكاني، ومنهم من قال بهذا الضرر، فأصبح هناك قولان متعارضان في مسألة آثاره، فيقتضي الأمر ترجيح أحدهما على الآخر، والعبرة في الترجيح ‏«‏غلبة‏»‏‏ ما لهذا القول أو ذاك من شواهد وبينات حسية وعقلية، وعلاوة على أن المثبت للضرر يقدم على النافي له وفقا للقاعدة الأصولية، فقد ثبت أن للقات أضرارا تتعلق بالدين، والنفس، والمال، والعقل.

أما الدين فإن الحفاظ عليه يعد من الضرورات الشرعية، ولا يتأتى هذا الحفاظ إلا بالائتمار بما أمر الله ورسوله به، والانتهاء عما نهيا عنه، وقد تبين من أقوال الأطباء أنه يحدث لبعض متعاطي القات بعض التنبيه العصبي لبعض الوقت كما يفعل ذلك الكوكايين، ثم ينقلب ذلك إلى خدر وهبوط وتعب، وقد تستمر مدة التنبيه العصبي طويلا، فيصاب المتعاطي بالأرق والسهر؛ مما قد يدفعه إلى البحث عن مهدئ لهذا التنبيه، فيلجأ إلى السكر، وهنا تتضاعف المعصية.

إن ما يصاحب تعاطي القات من تخدير وتفتير ووهن وتعب يجعله في حكم المسكر المحرم؛ استدلالا بقول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} [المائدة: 90: 91]، واستدلالا بقول رسول الله -ﷺ-: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»([12])، وبقوله -ﷺ-: «كل مسكر حرام»([13])، وبما روي عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: «نهى رسول الله -ﷺ- عن كل مسكر ومفتر»([14]).

أما ضرر القات بالنفس فإن الله أمر بالأكل من الطيبات في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وقوله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4]، فاقتضى ذلك تحريم كل ما ينافيها، والطيبات هنا اسم جامع لكل ما يحل أكله، والأصل في حلية الأكل ألا يكون له ضرر، فإن كان فيه ضرر -ولو مجرد شبهة- وجب اجتنابه؛ عملا بقول رسول الله -ﷺ-: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه»([15])، ولهذا، ولما كان من الثابت ضرره على النفس فقد اقتضى ذلك تحريمه لضرره.

وأما ضرره على المال فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الحفاظ على المال من الضرورات الشرعية، وهذا يقتضي تحريم صرفه فيما ليس فيه منفعة لصاحبه أو لغيره؛ استدلالا بقول الله -عز وجل-: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26: 27]، والحكم هنا واضح في النهي عن إعطاء المال للسفيه؛ لعدم قدرته على التصرف المشروع فيه، ولهذا شرع الحجر عليه حتى يؤنس منه رشده، والحكم -أيضا- واضح في أن المبذر للمال في غير ما أحل الله يعد من أمثال الشياطين في كفرهم.

هذا من القرآن، أما السنة: فقد نهى رسول الله -ﷺ- عن إضاعة المال في قوله: «إن الله كره لكم القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»([16]).

لهذا، ولما كان من المعلوم أن المتعاطين للقات ينفقون أموالا كثيرة تصل إلى الملايين من الدراهم، فإن هذا الإنفاق يعد محرما؛ لما فيه من إضاعة المال وإهداره في غير ما أحل الله.

وأما ضرر القات على العقل فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الحفاظ على العقل من الضرورات الشرعية، والحفاظ عليه يقتضي صيانته من العبث الذي يغيبه عن الوعي والإدراك، ومن المعلوم أن تغييبه بأي صورة من صور العبث يصرفه عن أداء التكاليف الشرعية المترتبة وجوبا على صاحبه، فيترك المأمورات، ويرتكب المحظورات والمنهيات، فيتضاعف إثمه.

إن للوسائل حكم الغايات فإذا كان القات بما ذكر عنه يغيب العقل، أو يكون وسيلة لغيابه بارتكاب محظور آخر كشرب المسكر؛ لتهدئة التنبيه العصبي -مثلا-، فيكون محرما لضرره على العقل.

وجماع ذلك كله: أن الإسلام يحرم كل ما يؤدي إلى ضرر الإنسان في دينه أو ماله أو عقله أو نسله، كما يحرم كل وسيلة تؤدي إلى هذه الغاية، والعبرة في إثبات الضرر بما يغلب فيه، ولما كان للقات أضرارٌ كثيرة بحكم ما ذكره عنه أصحاب الاختصاص من أطباء وغيرهم، فيعد بحكم هذه الأضرار محرما استنباتا وتجارة وتعاطيا. والله أعلم.

([1])  هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني: فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان، ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها سنة (1229هـ)، ومات حاكما بها، وكان يرى تحريم التقليد، له 114 مؤلفا، ومنها: ‏«‏نيل الأوطار‏»‏‏، و‏«‏إرشاد الفحول‏»‏‏، وتفسير ‏«‏فتح القدير‏»‏‏، توفي سنة (1250هـ)، انظر: الأعلام للزركلي، ج6 ص 298.

([2])  البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر، للقاضي محمد بن علي الشوكاني، تحقيق الدكتور عبد الكريم بن صنيتان العمري الحربي، ص168-169.

([3])  هو الإمام الحافظ علي بن أبي بكر نور الدين، أبو الحسن الهيثمي القاهري الشافعي، كان عجبا في الدين والتقوى والزهد، والإقبال على العلم والعبادة والأوراد، كثير الحفظ للمتون والآثار صالحا خيرا، ومن مؤلفاته: ‏«‏مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‏»‏‏ في الحديث، توفي سنة 802هـ. انظر: مقدمة مجمع الزوائد، ج1 ص 2-5.

([4]) الرسالة منصوص عليها في الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيثمي ج3 ص223-229.

([5]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات»، برقم (2051)، انظر: فتح الباري، ج4 ص340.

([6]) الودي بالتسكين: الماء الذي يخرج بعد البول، وكذلك الوديُّ بالتشديد. أنيس الفقهاء في تعريف الألفاظ المتداولة بين الفقهاء للقونوي، ص51.

([7])    الرسالة ص226.

([8])   هذا كلام الحرازي في الرسالة ص226.

([9])   الفتاوى الكبرى الفقهية، ج3 ص227.

([10])  مجلة المنهل تحت عنوان “تحريم القات”، فتوى سماحة المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية، المجلد7 السنة الواحدة والعشرون، (1376هـ).

([11])   البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر للإمام الشوكاني، تحقيق وتعليق: الدكتور عبد الكريم بن صنيتان العمري الحربي والفقرة من القرار منقولة من تعليق المحقق ص171.

([12])  أخرجه البخاري (٥٥٧٥)، رواه ابن ماجة في كتاب الأشربة، باب كل مسكر حرام برقم (3390)، ج2 ص1124.

([13]) أخرجه البخاري، (٤٣٤٣). رواه ابن ماجة في كتاب الأشربة، باب «كل مسكر حرام»، برقم (3387)، ج2 ص1223، وقد بوب البخاري بقوله: باب الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة، انظر: الفتح، ج10 ص64 رقم الباب 10،

([14])   رواه الإمام أحمد في مسند أم سلمة، انظر: الفتح الرباني للساعاتي ج17 ص131،  صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٤٧٩).

([15]) رواه البخاري في البيوع، باب «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات»، برقم (2051)، انظر: الفتح، ج4 ص340.

([16]) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب قول الله -تعالى-: ﴿لا يسألون الناس إلحافا﴾ البقرة: 273، برقم (1477)، انظر فتح الباري، ج3 ص398.