ومفاد المسألة سؤال من الأخ‮ … ‬قبايلي‮ ‬من الجزائر عن حكم من تعمد إنكار سنة رسول الله‮ ‬ ‬وماذا‮ ‬يجب عليه‮؟.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حكم من تعمد إنكار السنة النبوية.

السنة هي الطريقة أو السيرة، وجمعها سنن([1]). وسنة رسول الله r طريقته وهديه؛ ويطلق لفظ السنة على ما جاء منقولًا عنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال والأفعال، مما لم ينص عليه في كتاب الله([2]).

ويطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه صحابة رسول الله، سواء وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد؛ لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم، إما لكونها لم تنقل إلينا، أو لأنها اجتهاد أجمعوا عليه هم أو خلفاؤهم؛ فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضًا إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه حسبما اقتضته المصلحة([3]). فيدخل تحت هذا التعريف المصالح المرسلة والاستحسان ..إلـخ. والأصل في هذا التعريف قول رسول الله r:

 

(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)([4]).

والسنة هي المصدر الثاني لشريعة الله، وقد جاءت متفقة مع كتاب الله تشرح أحكامه، وتفصل مجملها، وتقيد مطلقها، وتفسر مبهمها، وتخصص عامها، كما جاءت بأحكام لم ينزل بها القرآن الكريم، فكانت مصدرًا لشريعة الله بلا ريب؛ لأنها جاءت من نبيه، وفي هذا قال -عز وجل- في حقه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ – ٤].

والسنة حجة قطعية على الأمة والأصل في ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

أما الكتاب: فقد بيَّن الله فيه ما امتن به على الناس من بعث رسوله إليهم لهدايتهم في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} [البقرة: 921]. وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون} [البقرة: ١٥١]، وقوله -عز وجل-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة: ٢].

كما بين ما فرضه على الأمة، من طاعة رسوله مقرونًا بطاعته في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [آل عمران: 231]. وقوله عز من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 95]. وقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 08]. وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [النحل: ٤٤]. وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين} [النور: 45]. وقوله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 26]. وقوله جل وعلا: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧] .

وأما السنة، فما رواه أبو هريرة t أن رسول الله r قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)([5]). وما رواه أبو موسى أن النبي r قال: (إنما مَثلي ومَثَلُ ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعينيَّ، وإني أنا النذير العُريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذَّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثلُ من أطاعني فاتَّبع ما جئتُ به، ومثل من عصاني وكذَّب بما جئت به من الحق)([6]).

وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة منذ سابق عهدها بالإسلام على الأخذ بسنة رسول الله r، والعمل بها جنبًا إلى جنب مع كتاب الله، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله، وما كان أحد منهم ليجتهد برأيه في أي مسألة إلا إذا لم يجد لها نصًّا من كتاب الله أو سنة رسوله. وقد سار على هذا المنهج التابعون وتابعوهم وسائر الأئمة والخلف، فما كان أحد منهم يتردد في قبول حديث إلا إذا وجد على روايته مأخذًا، أو وجد غيره أكثر منه قوة أو أرجح منه حجة أو أفضل منه دلالة.

وفي هذا قال الإمام أبو حنيفة: «إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى الرأس والعين»([7]).

وقال الإمام مالك: كل منّا يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر r([8]).

وقال الإمام الشافعي: «متى رويت عن رسول الله r حديثًا صحيحًا فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب»([9])، وقال رحمه الله: «إذا قلت قولًا وجاء الحديث عن رسول الله r بخلافه فاضربوا بقولي الحائط»([10])، وقال أيضًا: «وما سنَّ رسول الله فيما ليس له فيه حكم فبحكم الله سَنَّهُ. وكذلك أخبرنا الله في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى: 25]. وقد سَنَّ رسول الله مع كتاب الله، وسَنَّ فيما ليس فيه بعينه نص كتاب. وكل ما سَنَّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته وفي العُنُود عن اتباعها معصيته التي لم يَعْذِر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سُنَنِ رسول الله مخرجًا لما وضعت، وما قال رسول الله»([11]).

وأما المعقول، فإن الله أوحى إلى نبيه، وأنزل عليه القرآن وأمره أن يبينه ويعلمه للناس، كما أمر الناس أن يطيعوا رسوله ويؤمنوا به كما يطيعوه، ويؤمنوا به هو، فاقتضى ذلك منهم -بحكم العقل- طاعة من أُمِروا بطاعته، وإلا أصبحوا في حكم المنكر لأمر الآمر -وهو الله- الجاحد لنبوة ورسالة نبيه ورسوله، وهذا مبلغ الضلال.

قلت: وإنكار السنة يكون:

إما بانكارها بالكلية.

أو إنكار بعض أحكامها.

أو إنكارها بزعم وشبهة.

فإنكارها بالكلية يعني عدم الإيمان بما بينته من الأحكام في العبادات، والمعاملات من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم. ومثل هذا في الإجمال ما يقوله بعض الزائغين من عدم الحاجة لها في الوقت الحاضر، وأن يحل محلها قوانين تتفق مع مقتضيات العصر وتطور المجتمعات، وهذا في مبناه ومعناه مبلغ الكفر والضلال في عصيان الله، وعدم طاعته.

ولا شك أن هؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك لم يدركوا أن للاجتهاد في المسائل والقضايا الفرعية التي لا نص فيها مجالًا واسعًا، وأن هذا مما يجعل شريعة الله تستغرق كل قضية، وتستوعب كل نازلة أنى كانت في الزمان والمكان، ولكن هؤلاء ممن وصفهم الله بالنفاق في قلوبهم، والمرض والخوف والريبة في نفوسهم، كما قال -عز وجل-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 16]، وقوله جل ثناؤه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 56]. وقوله عز من قائل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِين * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [النور: 84–15]. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 63].

قلت: وإنكار بعض أحكام السنة مثل إنكارها كلها، فمن أنكر بعض ما حرمته فقد أنكر كل ما حرمته. ومن أحَلَّ بعض ما حرمته فقد أحل كل ما حرمته؛ لأن أحكامها وقواعدها واحدة، ومن أنكر منها حكمًا دون آخر فقد حكَّم هواه؛ لأنه بهذا آمن ببعضها وأنكر البعض الآخر؛ وهذا هو ما عاقب الله عليه بني إسرائيل في قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} [البقرة: 58]([12]). وهو ما أخذه الله عليهم أيضًا في تحكيم أهوائهم في قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُون} [المائدة: 07].

أما إنكار السنة بزعم أو شبهة، فيفعله الخوارج ومن سار على نهجهم، وحجتهم في ذلك ما نسب إلى ثوبان بأن رسول الله r قال: (ما آتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالفه فلم أقله)([13]). وهذا الحديث موضوع، وقد روج له من يسمون بـ«القرآنيين أو أهل القرآن». ففي زعمهم الفاسد أن الذي يحتج به هو القرآن فحسب؛ لأن السنة كتبت بعد رسول الله r :بمدة طويلة، وأن ما كتب يجري عليه الغلط والنسيان، وأنه لهذا لا يمكن الاحتياط إلا بالقرآن، ونحو ذلك من الأقوال الباطلة.

والأصل في بطلان هذه المزاعم الكتاب، والسنة، والاجماع:

أما الكتاب: فقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: ٦٧]، وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [النحل: ٤٤]، وهذا البلاغ والبيان لن يكون إلا بالسنة؛ فالقرآن مثلًا لم يبين عدد ركعات الصلاة ولا شروطها وأركانها، ولم يبين أنصبة الزكاة وأوقات إخراجها، فجاءت السنة تبين ما أجمله، سواء في هذين الركنين من أركان الإسلام، أو في مختلف الأحكام الأخرى.

وقد علم الله ما سيقوله مثل هؤلاء المنحرفين، فقال -عز وجل-: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 56]. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 36] . وقال -عز وجل-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧]. وغير ذلك من الآيات التي سبقت الإشارة إليها.

وأما السنة: فقد روى أبو رافع عن أبيه أن رسول الله قال: (لألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)([14]). وما رواه الحسن بن جابر أنه سمع المقداد بن معدي كرب يقول: حرم رسول الله  يوم خيبر أشياء ثم قال: (يوشك أحدكم أن يكذبني، وهو متكئ على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرمه الله)([15]). وجاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t قوله: «إن أناسًا يجادلونكم بمشتبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل»([16]). وجاء عن عبدالله بن مسعود قوله: إنكم ستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق([17]).

وأما الإجماع، فقد اتفقت الأمة منذ سابق عهدها بالإسلام على أن السنة مصدر يستقل بتشريع الأحكام، مثلها مثل القرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وأن من ينكرها يخرج من ملة الإسلام، وفي هذا قال الإمام ابن حزم: «لو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرًا بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك .. إلخ»([18]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «محمد r مبعوث إلى الثقلين: أنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر»([19]).

وخلاصة المسألة: أن السنة هي المصدر الثاني لشريعة الله، وقد جاءت متفقة مع كتاب الله تشرح أحكامه، وتفصل مجملها، وتقيد مطلقها، وتفسر مبهمها، وتخصص عامها. كما جاءت بأحكام لم ينزل بها قرآن، فكانت مصدرًا مستقلًا إلى جانب كتاب الله، وهي حجة قطعية على الأمة.

وإنكار السنة يكون إما بإنكارها بالكلية؛ أي بما بينته من الأحكام في العبادات والمعاملات، وهذا مبلغ الضلال أو يكون إنكارها بإنكار بعض أحكامها، أو يكون إنكارها بزعم يعتمد على حديث أو أحاديث موضوعة، وفي كل الأحوال، فإن من ينكر أحكام سنة رسول الله  فقد عصى الله وخرج بذلك من ملة الإسلام.

 

([1]) المصباح المنير، للفيومي، ج١ ص٢٩٢ وانظر: التعريفات، للجرجاني ص١٦١-٢٦١، والسنة قبل التدوين، لمحمد عجاج الخطيب ص٤١-٦١.

([2]) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، ج٤ ص٣-٥.

([3]) الموافقات ج٤ ص٣-٥.

([4]) الموافقات ج٤ ص٣-٥، والحديث أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة برقم ٧٠٦٤، سنن أبي داود ج٤ ص٠٠٢-١٠٢، وابن ماجة في مقدمة سننه، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين برقم (٢٤)، سنن ابن ماجة ج١ ص٥١، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع برقم (٦٧٦٢)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، سنن الترمذي ج٥ ص٣٤-٤٤.

([5]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله برقم (٠٨٢٧). فتح الباري، ج٣١ ص٣٦٢.

([6]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله برقم (٣٨٢٧). فتح الباري، ج٣١ ص٤٦٢.

([7]) أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه وفقهه، لمحمد أبي زهرة ص٤٧٢.

([8]) نقلاً عن سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي ج٨ ص٣٩.

([9]) سير أعلام النبلاء، ج٠١ ص٤٣.

([10])     سير أعلام النبلاء، ج٠١ ص٥٣.

([11])     الرسالة، للإمام الشافعي، ص٨٨-٩٨.

([12])     ومفاد ذلك أن الله أخذ على بني إسرائيل ميثاقًا خاصًا يقضي ألا يقتل إسرائيل آخر، ولا يخرجه من داره، وإذا وقع في الأسر وجب إطلاقه، فلم يلتزموا بذلك، فكانوا يفعلون ذلك مع فريق، ويتركونه مع آخر، انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ج1 ص115-116.

([13])     قال الإمام الشاطبي في الموافقات ج4 ص18: «قال عبدالرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث. وقالوا: وهذه الألفاظ لا تصح عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه». وقال العجلوني: «وقد سُئل شيخنا -يعني الحافظ ابن حجرـ عن هذا الحديث، فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو عن مقال، وقد جمع طرقه البيهقي في كتابه المدخل». وقال الصغاني: «هو موضوع» كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعجلوني ج1 ص89-90، برقم (220).

([14])     رواه الإمام الشافعي في الرسالة بإسناد صحيح (٥٩٢)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج٦ ص٨٥، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة برقم (٥٠٦٤)، سنن أبي داود ج٤ ص٠٠٢، والترمذي في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي r برقم (٣٦٦٢)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، سنن الترمذي ج٥ ص٧٣، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول اللهr والتغليظ على من عارضه برقم (٣١)، سنن ابن ماجة ج١ ص٦-٧.

([15])     أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله r والتغليظ على من عارضه برقم ٢١، سنن ابن ماجة ج١ ص٦، والترمذي في كتاب العلم، باب ما نُهي عنه أن يقال عند حديث النبي  rبرقم (٤٦٦٢)، سنن الترمذي ج٥ ص٧٣، قال الألباني في السلسلة الصحيحة ج6 ص 872.

([16])     الشريعة، للآجري ص٨٤، تحقيق: عبدالله الدميجي. وذكره البغوي في شرح السنة ج١ ص٢٠٢، وأورده أبو الحسن البغدادي في المختار في أصول السنة ص٦٤، تحقيق: عبدالرزاق البدر

([17])     أخرجه الدارمي في سننه، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع برقم (٦٤١)، ج١ ص٦٦، تحقيق، فواز زمزلي وخالد العلمي.

([18])     الإحكام في أصول الأحكام ج٢ ص٠٨.

([19])     الوصية الكبرى ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ج١ ص٥١٣.