ومفاد المسألة سؤال من الأخ ع… م.. من تونس يسأل فيه عن حكم الجهة الحكومية التي تتملك الأراضي الخاصة عن طريق نزعها للمصلحة العامة دون أن تدفع تعويضا عادلا لأصحابها؛ فتدفع مثلا للمتر الواحد عشرين دينارا بينما يقل هذا المبلغ كثيرا عن القيمة الحقيقية للمتر من الأراضي المشار إليها، وما على أصحاب تلك الأراضي إلا الإذعان لهذا القرار الحكومي.

حكم الجهة الحكومة التي تنزع الملكيات الخاصة دون دفع تعويض عادل لأصحابها

كما يسأل عما إذا كان من الجائز شرعا العمل في هذه الجهة.

هكذا ورد السؤال، والجواب عنه من وجهين:

الأول: أن حفظ المال من الضرورات الشرعية الخمس، وقد حرم الله أكله دون حق؛ لما في ذلك من الظلم والفساد في الأرض، وتسلط القوي على الضعيف، واختلال العلائق بين الناس، والأصل في هذا التحريم الكتاب، والسنة، والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى- {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة:188]، وقوله -عز وجل- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء:29].

أما السنة: فمن ذلك ما ورد في خطبة رسول الله -ﷺ- يوم النحر في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم»([1])، ومن ذلك ما ورد في حديث سعيد بن زيد أنه قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين»([2]).

أما المعقول: فإن مال الإنسان يعد حقا من حقوقه الفطرية؛ لأنه قد اكتسبه إما بجهده أو بأي طريق شرعي آخر، فنزعه منه دون حق مما يتنافى مع العقل وسنن الفطرة، ويؤدي إلى فتن تفسد معها حياة الناس في معاشهم وسائر أحوالهم.

ولهذا اقتضت حرمة المال أن من ملك أرضا ملكية مشروعة فلا يجوز لأي أحد التعدي عليها، أو نزعها منه دون رضاه، ويستثنى من ذلك ما كان للمنفعة العامة على أن يُدْفَعَ لصاحبها تعويضٌ عادلٌ([3]).

وقد تعرض الفقهاء لمسألة نزع الملكية للمنفعة العامة، واستدلوا على جوازها بما فعله الصحابة -رضوان الله عليهم-:

فمن ذلك: أن عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف دينار؛ ليجعلها سجنا.

ومن ذلك: أنه كان للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب المسجد، فأراد عمر -رضي الله عنه- أن يزيدها في المسجد، فأبى العباس أن يبيعها إياه، فقال عمر: فهبها إليَّ، فأبى، قال: فوسعها أنت في المسجد، فأبى، فقال عمر: لا بد لك من إحداهن، فأبى عليه، فقال: خذ بيني وبينك رجلا، فأخذ أبيَّ بن كعب، فاختصما إليه، فحكم أُبَيٌّ بأنه لا يجوز لعمر أن يشتريها منه بغير رضاه، فانصاع عمر لحكم أبي -رضي الله عنهما-، فتركها عمر، فوسعها العباس بعد ذلك في المسجد([4]).

ومن ذلك: ما فعله عثمان -رضي الله عنه- من نزع أرضين من أصحابها لتوسعة مسجد رسول الله -ﷺ-([5]).

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: نصت المادة (1216) من مجلة الأحكام العدلية على أنه ‏”لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان، ويلحق بالطريق، لكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤدَّ له الثمن”([6]).

وفي مذهب الإمام مالك: يجبر من له دار تلاصق الجامع أو الطريق على بيعها إذا احتيج إلى توسعتهما، فكما يجبر الإنسان على بيع ماله لحق عليه كذلك يجبر على بيعه كأرض تلاصق طريقا هدها نهر لا ممر للناس إلا فيها، على أن يكون ذلك بثمن يدفعه الإمام من بيت المال([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يحرم الاستيلاء على مال أحد بغير حق، فمن منع إنسانا من ملكه، أو تصرف فيه بغير استحقاق عد غاصبا([8]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يجوز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة([9]).

وينبني على ما سبق أنه لا يجوز للجهة المشار إليها في السؤال نزع ملكية الأراضي الخاصة للمنفعة العامة دون دفع تعويض عادل لأصحابها، ومعيار هذا التعويض ثمن المثل وقت النزع، فإذا كان متر الأرض يساوي – مثلا – عشرين دينارا وقت نزعها وجب على هذه الجهة دفع هذا الثمن، فإن دفعت لصاحبها ثمنا أقل من ثمن المثل عد ذلك ظلما.

أما حكم العمل لدى هذه الجهة كما ذكر في السؤال فله وجهان:

الوجه الأول: إن كان عدم دفعها التعويض العادل يرجع إلى خلاف بينها وبين أصحاب الأراضي الخاصة في مسألة تقدير القيمة -مثلا- فهذا مرجعه القضاء للفصل فيه، وهنا لا شبهة في العمل لدى هذه الجهة طالما أن المسألة مسألة خلاف سيفصل فيه القضاء.

الوجه الثاني: إن كانت هذه الجهة تتعمد عدم دفع التعويض العادل؛ مما يعد في حكم الغصب والظلم، فلا يجوز العمل لديها ما لم يكن العامل مضطرا إلى ذلك، ومسألة الاضطرار تعني معرفة الحال التي يكون عليها الشخص، فالأصل أن المكلف منهي عن ارتكاب الحرام ما لم يلجئه أمر يتعلق بالخطر على حياته في وقت معلوم، ودليل ذلك قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [البقرة:172]، وقوله -عز وجل-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [البقرة:173]، وقوله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [المائدة:3].

فالأمر بالأكل من الطيبات أمر وجوب وتكليف، وهذا يتعدى إلى تحريم الأكل إذا كان من غير الطيبات، وقد استثنى الله منها الميتة والدم ولحم الخنزير، وكل ما أهل به لغير الله، وفي أمره -تعالى- بالحفاظ على النفس أباح الأكل من غير هذه الطيبات في حال الاضطرار، وجعل لذلك شروطا وأحكاما، منها: أن يكون في مجاعة لا يجد فيها ما يحفظ به نفسه من الهلاك، وأن يكون غير مستحل لما حرم الله أصلا، وألا يتجاوز الحد لما يحفظ به النفس([10])، وتنتفي حالة الاضطرار للطعام المحرم في حال وجود الطعام الحلال([11])، والإنسان أعلم بحاله.

وخلاصة المسألة: أن المال من الضرورات الشرعية الخمس، وقد حرم الله التعدي عليه بدون حق، ويقتضي هذا التحريم أن من ملك أرضا ملكية مشروعة، فلا يجوز لأحد التعدي عليها أو نزعها منه دون رضاه، ويستثنى من ذلك ما كان للمنفعة العامة على أن يُدفع لصاحبها تعويضٌ عادلٌ.

وعلى هذا لا يجوز للجهة المشار إليها في السؤال نزع ملكية الأراضي الخاصة للمنفعة العامة دون دفع تعويض عادل لأصحابها، ومعيار هذا التعويض ثمن المثل، فإن دفعت لأصحابها أقل منه عُدَّ ذلك من الظلم الذي حرمه الله.

أما حكم العمل لدى هذه الجهة فله وجهان:

الوجه الأول: إن كان عدم دفعها التعويض العادل يرجع إلى خلاف بينها وبين أصحاب الأراضي الخاصة في مسألة تقدير القيمة -مثلا- فهذا مرده القضاء للفصل فيه، وهنا لا شبهة للعمل لديها.

الوجه الثاني: إن كانت هذه الجهة تتعمد عدم دفع التعويض العادل؛ مما يعد في حكم الظلم، فلا يجوز العمل لديها ما لم يكن العامل مضطرا لذلك، والاضطرار له أحكام، أهمها: أن يكون هناك أمر يتعلق بالخطر على حياة المضطر. والله أعلم.

([1]) وتمام الحديث: «ألا هل بلغت»؟ قالوا: نعم!، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرُب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب «ظهر المؤمن حِمى إلا في حد أو حق»، ج8 ص15-16، وأخرجه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين والديات والقصاص، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص169-170.

([2])  أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، ج4 ص74، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص48.

([3]) كما يستثنى من التعدي على الملكية الخاصة ما قصد منه منفعة فردية لمصلحة راجحة، كما هو الحال في الشفعة وفي مصالح أخرى كالتسعير وخلافه.

([4]) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للبرهان فوري ج8 ص318، وانظر: المصنف لعبد الرزاق ج5 ص148، وموسوعة فقه عمر بن الخطاب للقلعة جي ص797.

([5]) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق ج4 ص253.

([6])  درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية ج3 ص244.

([7]) مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق ج4 ص252، وانظر: البهجة في شرح التحفة للتسولي ج2 ص76.

([8]) المجموع شرح المهذب للنووي ج14 ص230-232، وانظر: الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي ج246.

([9]) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ص259.

([10])  تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج1 ص211، وانظر: المغني والشرح الكبير ج11 ص73، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 ص476، والمجموع شرح المهذب للنووي ج9 ص52، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6 ص338-339، والدر المختار شرح تنوير الأبصار ج6 ص338-339، وعقد الجواهر الثمينة لابن شاس ج1 ص603.

([11]) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة السابعة، العدد السادس والعشرون 1416هـ.