ومفاد المسألة سؤال من الأخ‮ ‬ع‮ … ‬حمداني‮ ‬من حي‮ ‬العبادية‮ ‬من الجزائر العاصمة‮، ‬يقول فيه‮: ‬ما هي‮ ‬عقيدة أهل السنة والجماعة في‮ ‬القضاء والقدر‬؟‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

عقيدة أهل السنة والـجماعة في‮ ‬القضاء والقدر‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تمهيد :

هناك ألفاظ تجري على ألسنة العامة من الناس؛ فهذا يقول عندما يحدث له (بفعله هو) أمر من الأمور: هذا مقدر، وليس لنا فيه حيلة. وهذا يقول متسائلًا: هل الإنسان مسير أم مخير؟ وآخر يقول الإنسان مسير لا مخير؛ فهذه العبارات وأمثالها مما يدور على الألسن، وذلك يرجع إما إلى حيرة في فهم معنى القدر، وإما إلى رغبة في إدراك ما يجب على المسلم من معرفة القضاء والقدر، وذلك قبل معرفة عقيدة أهل السنة والجماعة فيه.

فأهل السنة والجماعة هم أهل الهدى والحق من صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، ومن اقتفى أثرهم، وسلك منهجهم، وسار على طريقتهم من التابعين وتابعيهم ومن تبعهم بعد ذلك من الفقهاء والعلماء والمحدثين، ثم من اقتدى بهم من عامة الأمة، جيلًا بعد جيل، وزمانًا بعد زمان، دون تغيير أو تبديل أو ابتداع، وهؤلاء هم الذين وصفهم رسول الله r : (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)، وفي رواية: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)([1]).

أما تعريف القضاء والقدر في اللغة: ففي لسان العرب قدر: القدير والقادر من صفات الله عز وجل، يكونان من القدرة، ويكونان من التقدير، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 02] من القدرة فالله على كل شيء قدير، والله سبحانه مقدر كل شيء وقاضيه … والقدر والقضاء الموفق يقال: قدر الإله كذا تقديرًا، وإذا وافق الشيء الشيء قلت: جاءه قدره، قال ابن سيده: القَدْر والقَدَر: القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء، ويحكم به من الأمور … والمراد بالقدر التقدير وبالقضاء الخلق كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 21] أي خلقهن فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه([2]).

وأما تعريفه في الاصطلاح: فقد تباينت تعريفات العلماء فيه، فمنهم من جعلها شيئًا واحدًا، فقال: «القدر علم الله تعالى بما تكون عليه المخلوقات في المستقبل. والقضاء إيجاد الله تعالى الأشياء حسب علمه وإرادته»([3]) ، ومنهم من عرف القضاء والقدر تعريفًا واحدًا، فقال: «هو النظام المحكم الذي وضعه الله لهذا الوجود والقوانين العامة والسنن، التي ربط بها الأسباب بمسبباتها»([4]).

ولعل الصواب: أن القدر والقضاء اسمان متلازمان؛ فالقدر هو القدرة المطلقة لله جل وعلا؛ حيث خلق كل شيء بقدرته، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر: 94]، وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 021]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. والقضاء بمعنى القدر؛ فالله عز وجل حين قدر كل شيء قضاه وأحكمه، فلما قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}  قال في آخر الآية: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [فصلت: 21].

 

وقد تعرضت الأمة طيلة تاريخها للعديد من الفرق، ومنها فرقة القدريّة، فمن أقوال أصحاب هذه الفرقة: «إن الله حكيم عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شر وظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحكم عليهم شيئًا ثم يجازيهم عليه، فالعبد هو الخالق للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والرب أقدره على ذلك كله»([5]).

وقد قسم الإمام ابن القيم هذه الفرقة إلى ثلاث فرق: القدرية المجوسية([6]) والقدرية الشركية، الذين قالوا: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 841]، والقدرية الإبليسية، وهم المخاصمون للرب سبحانه، وهم أعداء الله وخصومه وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 93]([7]).

أما أهل السنة والجماعة فيؤمنون أن الله قَدَّرَ الأقدار وكتبها في اللوح المحفوظ، عملًا بقوله عز وجل:  {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر: 94]، ويؤمنون أن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن مقادير الله تجري على كل مخلوق، وأن الإنسان لا يؤمن إلا إذا آمن بالقدر خيره وشره. وقد دلت السنة النبوية على ذلك بما يزيل اللبس، ويقطع الشك، فقد سأل جبريل النبي rعن الإيمان، فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)([8])، وروى عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله r يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)([9]). وروى عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت رديف النبي r فقال: (ياغلام أو ياغليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)، فقلت: بلى فقال: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)([10]).

وقال علي بن الجعد: أنبأنا عبدالواحد البصري عن عطاء بن أبي رباح قال للوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: يا بني اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبت كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإن مت على غير هذا دخلت النار، سمعت رسول الله r يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، قال: ربّ وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء، حتى تقوم الساعة)([11]).

وعلى هذا، فإن المؤمن حقًا هو من يؤمن إيمانًا مطلقًا بإثبات القدر له وحده، وأنه لم ولن يحدث شيء في الوجود إلا بمشيئته وعلمه وقدره، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس لأحد من المخلوقين فعل شيء إلا بمشيئته، ومن اعتقد غير ذلك فقد ضل سواء السبيل، وأصبح في عداد الملحدين والمشركين.

ومما سبق ذكره أيضًا فإن أهل السنة والجماعة يبنون إيمانهم بالقدر على أسس أربعة:

أولها: الإيمان بأن الله عز وجل علم بعلمه المطلق كل الأشياء قبل وجودها.

فعلم أمر الخلق وما يعملونه من الطاعات والمعاصي. علم أرزاقهم وعلم آجالهم وبعثهم ونشورهم، وعلم علانيتهم وسرائرهم ومختلف أحوالهم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِين * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون} [البقرة: 30 – 33].

وثاني أسس الإيمان: أن الله كتب هذه الأشياء في اللوح المحفوظ قبل وجودها. كتب دقائقها وجلائلها أولها وآخرها، فأول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة جفت الأقلام ورفعت الصحف. قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 83]([12]). وقال تعالى لنبيه r: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [الحج: 07]. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [الحديد: ٢٢]. وجماع ذلك أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل ما يصيب الخلق في أرزاقهم ومعاشهم من الفقر والغنى، وفي أنفسهم من الأمراض والأسقام والمصائب، وأن عليهم أن يؤمنوا بان ذلك من عند الله. وفي هذا يروي أبو داود صاحب السنن عن عبادة بن الصامت أنّه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله r  يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب، قال: ربّ وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)، يا بني إنّي سمعت رسول الله r يقول: (من مات على غير هذا فليس منّي)([13]).

وثالث الأسس: الإيمان بمشيئة الله فيما أوجده من المخلوقات.

فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في السماء والأرض من جريان وحركة وسكون فهو بمشيئته وعلمه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُون} [الأنعام: ١١١] وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: ١١٢]، وقال: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [التكوير: 92]. وقال عز وجل: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 32–42]. وفي هذا أمر لنبيه وأمته ألا يقولوا في أي أمر من الأمور أنهم سيفعلونه على سبيل الجزم واليقين؛ لأن أحدًا منهم لا يستطيع عمل شيء إلا بمشيئة الله وتدبيره.

 

ومشيئة الله لا تتعارض مع ما للإنسان من إرادة واختيار، فالإنسان له عقل وحواس وجوارح يأكل ويشرب ويلبس ويتزوج ويتجر، ويعمل ويمارس مختلف التصرفات قولًا وعملًا، وهو يؤمن ويكفر ويفسق ويتوب، ذلك أن طبيعته وعقله يوجبان أن يكون له إرادة، فإذا كانت الكائنات الأخرى كالحيوانات والطيور تتصرف بغريزتها في الحصول على طعامها وشرابها، فإن الإنسان يتصرف ويريد ويختار بفعل عقله ولكن هذه الإرادة محكومة بمشيئة الله؛ لأن الإنسان نفسه (بما فيه إرادته) محكوم بهذه المشيئة.

وقد دل كتاب الله على ما للعبد من الإرادة والاختيار في آيات كثيرة عن أكله وشربه وطاعته ومعصيته، فعندما أمره الله بالأكل والشرب نهاه عن الإسراف فيه في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}  [الأعراف: 13]. وهذا النهي يقتضي منه الامتناع عن الإسراف، ولا يكون هذا الامتناع إلا عن إرادة، وعندما أمره بالزواج نهاه عن عدم العدل فيه في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: ٣] . وهذا النهي يقتضي منه الامتثال بالعدل، وهذا لا يكون إلا بإرادة، وعندما أمره بالتوبة من المعصية في قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: ٨]. وهذا الأمر يقتضي الطاعة، ولا تكون الطاعة إلا بالإرادة، وهكذا في مختلف الأمور الأخرى.

وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: «ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، أن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه .. إلى قوله: ولم يكن من السلف والأئمة من يقول: إن العبد ليس بفاعل ولا مختار ولا مريد ولا قادر، ولا قال أحد منهم: إنه فاعل مجازًا، بل من تكلم فهم بلفظ الحقيقة والمجاز متفقون على أن العبد فاعل حقيقة، والله تعالى خلق ذاته وصفاته وأفعاله»([14]).

ورابع الأسس: الإيمان بأن الله خالق كل المخلوقات.

فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله وحده خالق كل شيء، وما سواه فهو مخلوق. وقد دل كتاب الله على تفرده بالخلق تفردًا مطلقًا، لا ينازعه ولا يضاهيه فيه أحد، وذلك في قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 201].

 

وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: ٢]، وقوله عز من قائل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل}  [الزمر: 26]. كما دل كتاب الله على أنه خلق الخلق بحكمته وعلمه وقدرته، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 37]. وقال تعالى: {مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [يونس: ٥].

وقد اقتضت حكمته عز وجل أن يخلق من الخلق ما شاء منهم، ثم يخلق مثلهم ما يشاء منهم، وفي هذا قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: ٩٩] وقال عز وجل: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيم} [يس: 18] . وفي هذه الآيات المحكمات ما يدل على بطلان حجج الملاحدة والحلوليين، مثل ابن عربي والحلاج وابن سبعين، الذين اتبعوا البراهمة، فقالوا بوحدة الوجود، وأن كل موجود جزء من الله (تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا).

ونختم هذه المسألة بقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «إن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد، وحشر الأجساد، والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفي لوازمها، كما فعلت القدرية المجوسية، والقدرية المعارضة للأمر، وكانوا أسعد الناس بالخلق، وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم»([15]).

وخلاصة المسألة: أن أهل السنة والجماعة يؤمنون أن الله قدر الأقدار وكتبها في اللوح المحفوظ، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن مقادير الله تجري على كل مخلوق وأن الإنسان لا يؤمن إلا إذا آمن بالقدر.

وقد بنى أهل السنة والجماعة إيمانهم بالقدر على أسس أربعة:

أولها: الإيمان بأن الله عز وجل علم بعلمه المطلق الأشياء قبل وجودها، فعلم أمر الخلق وما يعملونه من الطاعات والمعاصي، وعلم آجالهم وأرزاقهم وبعثهم ونشورهم وعلانيتهم وأسرارهم.

وثانيها: الإيمان بأن الله كتب هذه الأشياء في اللوح المحفوظ قبل وجودها. كتب دقائقها وجلائلها أولها وآخرها.

وثالث الأسس: الإيمان بمشيئة الله فيما أوجده من المخلوقات، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في السماء والأرض من حركة وسكون فهو بمشيئة الله وعلمه. وهذه المشيئة لا تتعارض مع ما للإنسان من إرادة واختيار، فالإنسان له عقل وحواس وجوارح، فهو يأكل ويشرب ويتزوج ويمارس مختلف التصرفات قولًا وعملًا، ولكن هذه الإرادة محكومة بمشيئة الله؛ لأن الإنسان نفسه بما فيه إرادته محكوم بهذه المشيئة.

أما رابع الأسس: فهو الإيمان بأن الله وحده خالق كل شيء وما سواه فهو مخلوق، وأنه خلق الخلق بحكمته، وأنه متفرد بالخلق تفردًا مطلقًا لا ينازعه ولا يضاهيه فيه أحد. وقد اقتضت حكمته أن يخلق من الخلق ما شاء منهم، ثم يخلق مثلهم ما يشاء.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبيr : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم)، صحيح البخاري ج٨ ص٩٤١، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قولهr : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)، صحيح مسلم بشرح النووي ج٣١ ص٥٦.

([2]) لسان العرب ج٥ ص٤٧-٥٧، ج٥١ ص٦٨١-٨٨١.

([3]) تبسيط العقائد الإسلامية لحسن أيوب ص ٥٨ ط٦.

([4]) العقائد الإسلامية، للعلامة الشيخ/ سيد سابق ص٥٩.

([5]) الملل والنحل للشهرستاني على هامش الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الظاهري ج١ ص٨٥.

([6]) ومنهم المعتزلة، ورأسهم واصل بن عطاء تلميذ معبد الجهني، وهذا الأخير هو أول من قال في القدر بالبصرة، فقد روى مسلم في صحيحه قال: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب عن وكيع عن كهمس عن عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميدي حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبدالله بن عمر ابن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: «فإذا لقيت أولئك فأخبرهم إني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر..»، صحيح مسلم بشرح النووي ج١ ص ٠٥١-٦٥١.

([7]) انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن القيم ص ٦٨.

([8]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي  r عن الإيمان والإسلام والإحسان، صحيح البخاري ج١ ص٨١، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تعريف الإسلام والإيمان، صحيح مسلم بشرح النووي ج١ ص٦٥١-٧٥١.

([9]) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، صحيح مسلم بشرح النووي ج٦١ ص ٣٠٢.

([10])     أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج١ ص٧٠٣-٨٠٣، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٢٨٠٣):صحيح.

([11])     أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب السنة، باب في القدر برقم (٠٠٧٤)، سنن أبي داود ج٤ ص٥٢٢-٦٢٢، قال الألباني في صحيح أبي داود (٤٧٠٠): صحيح.

([12])     والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ.

([13])     أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في القدر برقم (٠٠٧٤)، سنن أبي داود ج٤ ص٥٢٢- ٦٢٢، قال الألباني في صحيح أبي داود (٤٧٠٠): صحيح.

([14])     مجموع فتاوى ابن تيمية ج٨ ص ٩٥٤-٠٦٤.

([15])     طريق الهجرتين وباب السعادتين ص ١٩.