هكذا ورد السؤال، والجواب عليه من وجهين:
أولهما: تحريم الربا وتعظيم حرمته.
وثانيهما: حكم الاقتراض الوارد في السؤال.
الوجه الأول: تحريم الربا:
الربا في اللغة الزيادة، وقد عَرَفَ العرب في جاهليتهم ربا النسيئة، ومعناه: أنه إذا كان على المدين دين وجب عليه وفاؤه في أجله، فإن لم يفعل أَجَّلَ الدائن سداد الدين، وزاد على المال قدرًا محددًا، وشبيه بهذا ما تفعله بعض البنوك من إقراض المرء إلى أجل مسمى، ويزيدون عليه مبلغًا (فائدة) يحددها العقد بينهما.
والربا في مختلف أنواعه وصفاته محرم بالكتاب والسنة والاجماع([1]).
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 275]، ففي هذه الآية وصف للمرابين عندما يبعثون من قبورهم بأنهم مِثْلُ مَنْ يصيبهم مَسُّ الشيطان، فيتخبطون من مسه، ويصرعون منه، وفيها رد وإنكار على المشركين الذين جعلوا الربا مثل البيع، بينما هما مختلفان في الوصف والمعنى، فالزيادة في أول البيع تجري على قواعد التجارة، وقوانين العرض والطلب، وغلاء الأسعار ورخصها، بينما الزيادة في آخر البيع لا تمت إلى أمر التجارة بصلة، بل هي زيادة في أجل الدين، مع زيادة إضافية عليه، والمعنى: أن الله -تعالى- حرم الربا تحريمًا قاطعًا، فمن انتهى عنه فله ما سلف قبل توبته، أو معرفته بتحريم الربا، ويكون أمره إلى الله، أما من عاد إليه بعد توبته، أو بعد معرفته بتحريمه، فسيكون من أصحاب النار، وهذا هو ما دل عليه قول الله -عز وجل-: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 275].
ثم بين الله -عز وجل- في الآية التالية أنه بقدرته يزيل الربا تدريجيًّا حتى لا يبقى منه شيء، مثله مثل القمر في آخر الشهر، وأنه بقدرته يزيد الصدقات، ويربيها، ويمقت ويبغض كل من أحل الربا، وكفر بشرعه -تعالى-، وارتكب نواهيه، فقال -تعالى-: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} [البقرة: 276]، ثم وعد في الآية التالية أنه سيجزي كل مؤمن عمل صالحًا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأنه سيكون آمنًا من الخوف والحزن في الدنيا والآخرة، وهذا هو معنى قوله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [البقرة: 277].
وبعدما وصف الله المرابين، وسوء مآلهم، وتحريمه للربا، وتحليله للبيع، أمر المؤمنين أن يتقوا الله، ويتركوا الربا في معاملاتهم، ثم حذر المخالفين منهم لهذا الأمر بأنهم إذا لم يتوبوا سيتعرضون لحرب من الله ورسوله، وأن من تاب منهم، وترك الربا فله رأس ماله، لا يَظْلِمُ أحدًا بأخذ زيادة منه، ولا يُظْلَمُ هو بإنقاص رأس ماله، فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُون} [البقرة: 279].
أما تحريم الربا في السنة فالأحاديث فيه كثيرة، منها قول رسول الله -ﷺ-: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منها الربا([2])، ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام-: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)([3]).
ولعظم أمر الربا، وشدة عقوبته لعن الله كل من شارك أو ساهم في عقده بالكتابة أو الشهادة، وفي هذا قال -عليه الصلاة والسلام-: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه)، وقال: (هم سواء)”([4]).
أما الاجماع: فقد أجمع علماء المسلمين وأئمتهم خلفًا بعد سلف على تحريم الربا؛ عملًا بما بينه الله من تحريمه في كتابه، وما بينته سنة رسوله-ﷺ-، ولما في ارتكابه من محاربة الله ورسوله وانتهاك شرعه.
أما المعقول: فإن الربا في مجمله يؤدي إلى استغلال الأغنياء للضعفاء والفقراء وذوي الحاجة، ناهيك عن كون المرابين يعطلون طاقاتهم ومساهمتهم في الحياة، ويكونون عالة على ما يأخذونه من جهد العاملين؛ مما يوجد العداوة والبغضاء بين أفراد الأمة بسبب تسلط قويهم على ضعيفهم، وغنيهم على فقيرهم، فيؤدي ذلك إلى فساد أحوالهم، وسوء حياتهم، ففي العصر الحالي يوجد في بلد في شبه القارة الهندية خمسة ملايين مستضعف عجزوا عن الوفاء بديونهم، فتحولوا إلى أرقاء لدائنيهم، يعملون عندهم طيلة حياتهم، وفي هذا ما فيه من الإثم والخطيئة للإنسان وكرامته.
الوجه الثاني: حكم الاقتراض الوارد في السؤال:
الأصل في القرض أنه قربة يتقرب بها المقرض إلى الله في سد حاجة المقترض، وفي هذا أجر كثير؛ لما روي عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)([5])، والأصل في القرض أنه بدون عوض، ولا يجوز اشتراط الأجل فيه، وقال بعض العلماء -ومنهم الإمام مالك- بجواز ذلك([6]).
ومع أن القرض لا يزال يجري بين فئة من الناس يعرف بعضهم بعضًا بحكم قرابة، أو صداقة، أو نحوهما، إلا أنه يبقى قاصراً عن تحقيق مطالب الناس في عصر كثرت فيه الحاجات، وتعقدت معه القضايا والمشكلات، فلم يعد هناك من يقرض الناس ابتغاء وجه الله كما ذكر الأخ السائل.
أما القرض الذي ذكره الأخ السائل، وتُشترط فيه الفائدة، فللفقهاء في ذلك عدة أقوال، سنشير إلى بعضها بإيجاز.
ففي المذهب الحنفي: يحرم أن يكون القرض قد جر منفعة، فإن كان لم يجز، كما لو أقرضه دراهم غلة على أن يرد عليه صحاحًا، أو أقرضه، وشرط شرطًا له فيه منفعة؛ لِمَا روي عن رسول الله -ﷺ-أنه نهى عن قرض جر نفعًا؛ ولأن الزيادة المشروطة تشبه الربا؛ لأنها فضل لا يقابله عوض، والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهته واجب، هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد([7]).
وفي مذهب الإمام مالك: كل زيادة في سلف “قرض”، أو منفعة ينتفع بها المسلف “المقرض”، فهي ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان شرط([8]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا يجوز قرض نقد أو غيره إذا اقترن بشرط رد صحيح عن مكسر، أو رد زيادة على القدر المُقْرَضِ، أو رد جيد عن رديء، أو غير ذلك من كل شرط جر نفعًا، أي: كان فيه شرط يجر إلى المقرض منفعة، فهذا ربا؛ لأن موضوع القرض الإرفاق، فإذا شرط المقرض فيه لنفسه حقًّا خرج العقد عن مضمونه، فمنع ذلك صحته([9]).
وفي مذهب الإمام أحمد: كل قرض شرطت فيه الزيادة فهو حرام بغير خلاف، قال الإمام بن قدامة في المغني: “قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلِفَ “المقرِضَ” إذا شرط على المستلف “المقترض” زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك، أَنَّ أَخْذَ الزيادة على ذلك حرام، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرطت فيه الزيادة خرج عن مضمونه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل: أن يقرضه نقودًا مكسرة؛ ليعطيه نقودًا صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه”([10]).
قلت: وينبني على ما سبق أن القرض الذي ورد في السؤال يعد قرضًا ربويًّا؛ لاشتراط المنفعة فيه، ويبقى السؤال عن الوسيلة التي يستطيع من خلالها صاحب الحاجة سدَّ حاجته من مسكن وسيارة وزواج وعلاج ونحو ذلك -كما ذكر الأخ السائل-، فهذه الوسيلة يجب أن تكون مشروعة، وإلا أصبح صاحب الحاجة يبيع دينه بعرض من الدنيا، ولما كان القرض المشروطةُ فيه المنفعةُ يعد ربا فإن في لجوء صاحب الحاجة إليه مخالفة لأمرٍ نهى الله عنه، وحذر من عواقبه، والله لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه مصلحة ظاهرة لعباده، وإن خفيت عليهم هذه المصلحة لقصور عقولهم عن إدراكها، وغنيٌّ عن القول أن المرء عندما يجتنب أمرًا نهى الله عنه فإنه سيعوضه عنه خيرًا منه.
ومع أن المؤسسات الاقتصادية غير الربوية لا تزال محدودة، وقاصرة عن أداء الدور الذي تقوم به المؤسسات الربوية، إلا أن هناك بعض الحلول القائمة لسد بعض الحاجات التي أشار إليها السائل، مثل: شركات التقسيط، والجمعيات التعاونية المنتشرة في العديد من البلدان.
ويبقى السؤال ملحًّا عن دور الفقهاء، وعلماء الاقتصاد، ورجال المال في تأسيس المؤسسات غير الربوية التي تحقق للمال ربحه، وللمحتاج حاجته بعيدًاً عن الربا الذي حرمه الله أشد تحريم.
وخلاصة المسألة: أن الله حرم الربا في كتابه العزيز أشد تحريم، ووصف صاحبه بأنه محارب له ولرسوله، وقد دلت السنة النبوية على عظم حرمته، وأجمع أئمة المسلمين وعلماؤُهم خلفًا بعد سلف على حرمته، ناهيك عما فيه من تعطيل طاقات المرابين وقدراتهم، وكونهم عالة على ما يأخذونه من جهد العاملين والفقراء.
والأصل في القرض أنه قربة يتقرب بها المقرض إلى الله في سد حاجة المقترض، فإذا اشترطت فيه منفعة صار ربا، فعلى هذا فإن القرض الذي ورد في السؤال يعد قرضًا ربويًّا؛ لوجود شرط المنفعة فيه، وفي لجوء صاحب الحاجة إليه مخالفة لأمرٍ نهى الله عنه، وحذر من عواقبه، والله لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه مصلحة ظاهرة لعباده وإن خفيت هذه المصلحة عنهم، وعندما يجتنب المرء شيئًا نهى الله عنه فسيعوضه عنه خيرا منه.
ومع أن المؤسسات الاقتصادية غير الربوية -كما ذكر آنفًا- لا تزال محدودة، وقاصرة عن أداء الدور الذي تقوم به المؤسسات الربوية، إلا أن هناك بعض الحلول القائمة لسد بعض الحاجات التي أشار إليها الأخ السائل، مثل: شركات التقسيط، والجمعيات التعاونية.
ويبقى السؤال ملحًّا عن دور الفقهاء، وعلماء الاقتصاد، ورجال المال في ايجاد المؤسسات غير الربوية التي تحقق للمال ربحه، وللمحتاج حاجته بعيدًا عن الربا الذي حرمه الله أشد تحريم.
والله أعلم.
([1]) الربا محرم في جميع الأديان السماوية ما عدا أن اليهود يبيحون أخذه من غيرهم.
([2]) وتمام الحديث: قالوا: يا رسول الله! وما هن؟، قال: “الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات”. متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رمي المحصنات، صحيح البخاري ج8 ص 33-34، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أكبر الكبائر، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 83.
([3]) انفرد بتخريجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج5 ص225، صححه الألباني في غاية المرام، (١٧٢)..
([4]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب الربا، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص 26، وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في آكل الربا وموكله، برقم (3333)، سنن أبي داود ج3 ص 244، وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في آكل الربا، برقم (1206)، ج3 ص 512.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21، وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في المعونة للمسلم، برقم (946)، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم (225)، سنن أبي داود ج4 ص287، وسنن ابن ماجة ج1 ص82.
([6]) الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر النمري القرطبي ص358، وعقد الجواهر الثمينة ج2 ص565، وإعلام الموقعين، ج3 ص374-375.
([7]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص395، وانظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار ج3 ص105.
([8]) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ص359، وانظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل مع هامش البناني ج5 ص228-229، والبهجة في شرح التحفة للتوسلي ج2 ص287، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، مع التاج والأكليل لمختصر خليل للمواق ج4 ص546-547، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج2 ص239-240.
([9]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج4 ص230-231، والمجموع شرح المهذب ج13 ص170-171.
([10]) المغني ج6 ص 436، وانظر: شرح منتهى الإرادات للبهوتي ج2 ص227-228، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3 ص316، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي ج5 ص131، وفتاوى شيخ الإسلام بن تيمية ج29 ص528-535.