ومفاد المسألة: سؤال من الأخ عبد الله الماجري من تونس يتضمن ما يأتي: موظف في شركة تختص بتقسيم الأراضي وبيعها، يتمتع بحق شراء قطعة أرض من الشركة المذكورة مباشرة، مع الاستفادة من تخفيض ثمن البيع العادي بنسبة 15.5%، بالاضافة إلى تقسيط ثمن الأرض على عشرين سنة، مع زيادة في قيمة الأرض.

بيع المؤسسة لموظفيها أراضي بالتقسيط وبناء مساكن لهم بزيادة نسبة معينة

– تساعد هذه الشركة موظفيها في بناء محلات سكنية لهم لقاء دفع نسبة 2% من قيمة الأرض، مع ملاحظة أن هذه العملية تتم فقط بين الشركة وموظفيها، دون تدخل من مؤسسة بنكية أو غيرها، مع العلم -كما يقول الأخ السائل- أن نسبة هذه الفائدة تعد أقل نسبة معمول بها.

– تمنح المؤسسات بعض موظفيها نسبة على الأجر الشهري، يتم إرجاعها بفائدة 2% على مدة سنة. ثم يسأل الأخ السائل عن حكم ما ذكره في سؤاله.

والجواب: أن هذا له ثلاثة أحكام:

الأول: بيع الشركة لموظفيها أراضيَ بالتقسيط، مع زيادة في قيمة الأرض.

والثاني: أخذها فائدةً عليهم مقابل مساعدتهم في بناء مساكن لهم.

والثالث: منح بعض المؤسسات لموظفيها نسبة على أجورهم الشهرية، ثم استرجاع هذه النسبة بفائدة.

البيع بالتقسيط مع الزيادة مقابل الأجل:

البيع بالتقسيط جائز؛ لكونه بيعًا إلى أجل معلوم:

والأصل فيه الكتاب، والسنة، والمعقول، أما الكتاب: فإن الله -تعالى-أحل البيع، وحرم الربا في قوله -عز وجل-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].

وأما السنة: فما روته عائشة-رضي الله عنها-قالت: دخلت عليَّ بريرة وهي مكاتبة، فقالت: اشتريني، فأعتقيني، قلت: نعم! قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، قلت: لا حاجة لي فيك، فسمع ذلك النبي -ﷺ-، أو بلغه، فقال: (اشتريها، فأعتقيها، ويشترطوا ما شاؤوا)، قالت: فاشتريتُها، فأعتقتُها، واشترط أهلها ولاءها، فقال النبي -ﷺ-: (فإنما الولاء لمن أعتق…، ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مئة مرة)([1]). وفي رواية أخرى قالت عائشة: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبتُ أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية([2])، فدل هذا على أنها -رضي الله عنها- بيعت على أقساط، فأجاز ذلك رسول الله -ﷺ-.

وأما المعقول: فإن في بيع التقسيط مصلحةً ظاهرةً للمتبايعين، فمصلحة المشتري ظاهرة في أنه قد يحتاج إلى شيء ما، ولكن ثمنه كاملًا لا يتوافر لديه، فيجد في البيع بالتقسيط ما يسد حاجته، ومصلحة البائع ظاهرة في أنه يحتاج إلى بيع ما عنده إلى آجال يزداد فيها ثمن البيع لقاء تأخير أجل السداد، هذا إلى جانب ما تتطلبه دورة التعامل في الاقتصاد من تسهيل الحركة بين الناس.

ولهذا البيع فوائد، غير أن له آثارًا ضارةً، ولتلافي هذه الآثار يجب اتخاذ الضوابط الشرعية الآتية:

أولها: أن تكون الأقساط والآجال بينة ومعلومة؛ لما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -ﷺ- لما قدم المدينة وجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)([3]).

وثاني الضوابط: أن يكون المبيع محلُّ التقسيط في ملك البائع وحيازته؛ لما رواه حكيم بن حزام، قال: قلتُ: يا رسول الله! يأتيني الرجل، فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: (لا تَبِعْ ما ليس عندك)([4])، وما رواه جابر أن رسول الله -ﷺ- قال: (إذا ابتعتَ طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه)([5])، وما رواه زيد بن ثابت أن النبي -ﷺ-نهى ألا تُبَاعَ السلع حيث تُبْتَاعُ حتى يحوزها التجار إلى رحالهم([6]).

وثالث الضوابط: عدم جواز بيع المبيع (محل التقسيط) على البائع نفسه، كحال من يشتري أرضًا بأقساط مؤجلة، ثم يبيعها نقدًا على البائع، فهذا “بيع العينة”، وقد نهى عنه رسول الله -ﷺ- فيما رواه ابن عمر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم.. الحديث)([7]).

فإذا توافرت هذه الضوابط في بيع التقسيط فهو جائز، ومع ذلك فثمة أمر آخر يتعلق بالتجار الذين يتبعون هذه الطريقة من البيع، وهو ما يجب عليهم من عدم استغلال أصحاب الحاجات لقاء البيع بالأجل؛ لكون هذا الاستغلال يندرج تحت الظلم الذي حرمه الله في قوله -عز وجل-في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)([8])، ولكون استغلال التجارِ حاجةَ أصحابِ الحاجات يتنافى مع قول رسول الله -ﷺ-: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا)([9])، وقوله: (رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى)([10]).

أخذ الشركة فائدة على موظفيها مقابل مساعدتهم في بناء مساكنهم:

هذا العمل يعد قرضًا بفائدة، لا يجوز للشركة ولا لموظفها التعامل به؛ لأنه ربًا، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الربا محرم بالكتاب والسنة والاجماع:

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} [البقرة: 275-276]، وقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون} [البقرة: 278-279].

وأما السنة: فالأحاديث في هذا الباب كثيرة، منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر قال: لعن رسول الله -ﷺ-آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: (هم سواءٌ)([11]).

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة منذ سالف عصورها على أن الربا في صوره المختلفة حرام بيعًا، وشراءً، وتعاملًا.

قلت: وهذا الحكم المشار إليه آنفًا ينطبق على ما ذكره الأخ السائل عن منح بعض المؤسسات لموظفيها نسبة على أجورهم الشهرية، ثم يتم إرجاعها بفائدة؛ فهذا ربًا، لا يجوز لهذه المؤسسات ولا لموظفيها التعامل به، ومن المؤسف -بل من المؤلم حقًّا- أن بعضًا من المسلمين تهاونوا في هذا الأمر المحرم رغم ما فيه من محاربة الله ورسوله في قوله  -عز وجل- في الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279]، تهاونوا في هذا، وما علموا أن الله -سبحانه وتعالى- لم يحرم شيئًا إلا وفيه مصلحة ظاهرة لعباده؛ لعلمه المطلق بأحوالهم، وحاجاتهم، ومعاشهم.

كما أن من المؤلم حقًّا أن تصدر من قلة من منتسبي العلم دعاوى واجتهادات، تحاول تعليل وتحليل هذا النوع أو ذاك من أنواع الربا، وهي بهذا تعلل وتحلل ما لا يمكن تعليله وتحليله، وتجتهد فيما لا يمكن الاجتهاد فيه مما هو ظاهرٌ في حرمته، وفاسد في أساسه.

واللهَ نسأل أن يجعل لهذه الأمة من أمرها رشدًا، وأن يوفقها للالتزام بشرعه.

وخلاصة المسألة: أن ما تقوم به الشركة المذكورة في السؤال بالنسبة لتقسيطِ أراضٍ على موظفيها، مع زيادة في قيمة الأرض مقابل الأجل يعد أمرًا جائزًا.

أما عرضها عليهم دفع فائدة مقابل بناء مساكن لهم فهذا ربًا، لا يجوز لها ولا لموظفيها التعامل به؛ لما فيه من الربا المحرم بكتاب الله وسنة رسوله محمد -ﷺ- وإجماع الأمة.

كما أن منح المؤسسة المذكورة في السؤال لموظفيها نسبة معينة على أجورهم الشهرية، ثم استرجاع هذه النسبة بفائدة، يعد ربًا، لا يجوز لها ولا لموظفيها التعامل به.

والله -تعالى-أعلم.

([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، صحيح البخاري، ج3 ص127، وأخرجه مسلم في كتاب العتق، باب بيان أن الولاء لمن أعتق، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج9 ص144.

([2]) أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب بيان أن الولاء لمن أعتق، صحيح مسلم بشرح النووي، ج10 ص144.

([3]) أخرجه البخاري (٢٢٤٠) واللفظ له، ومسلم (١٦٠٤)، نيل الأوطار للشوكاني، ج3 ص226.

([4]) أخرجه أحمد في المسند ج3 ص402، 432، وأبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده ج3، رقم (3503)، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، ج3 ص534، الحديث رقم 1232، والنسائي، باب بيع ما ليس عند البائع ج7 ص289، وإسناده صحيح، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٧٢٠٦).

([5]) رواه أحمد في المسند ج3 ص327، ومسلم في كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض ج3 ص1162، رقم (1529).

([6]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يَستوفي، ج3 ص282، رقم (3499)، قال الألباني في صحيح أبي داود، (٣٤٩٩): حسن لغيره.

([7]) سنن أبي داود ج3 ص274، باب في النهي عن العينة، الحديث رقم (3462)، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٤٦٢)..

([8]) أخرجه مسلم مطولاً (2577).

([9]) صحيح البخاري ج3 ص98 باب نصر المظلوم، بلفظ (المؤمن للمؤمن …. الحديث) أخرجه مسلم مطولا (2577).

([10]) صحيح البخاري ج3 ص9 باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع.

([11]) صحيح مسلم ج5 ص498-499 باب لعن آكل الربا وموكله.