والجواب: أن الحديث عن الاستنساخ ربما أصبح غير شائق؛ لكثرة ما كتب عنه في المدة الأخيرة من بحوث دينية وعلمية واقتصادية وغيرها، ومع ذلك ربما يكون الحديث عنه مطلوبًا لاحتمال تشعبه، وكثرة صوره في المستقبل.
وكلمة الاستنساخ معروفة في لغة العرب، فهو كَتْبُ كِتَابٍ من كِتَابٍ([1])، ودليله قول الله -عز وجل-: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}([2]) أي نستنسخ ما تكتب الحفظة، فيثبت عند الله، ويعنى ذلك الأمر بنسخ ما يكتبون وإثباته، فهو بهذا نسخ، والنسخ: إبطال الشيء، وإقامة آخر مقامه([3])، ودليله قول الله -عز وجل-: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}([4]).
ومحاولات الاستنساخ لم تكن وليدة السنوات الأخيرة، وإنما بدأت على يد العلماء الألمان منذ أن كان هاجس أدولف هتلر في العقد الثالث من القرن التاسع عشر مسألة العرق المميز “السوبرمان” وفقًا لنظريته الشهيرة في الأعراق، ولكن هذه المحاولة لم تنجح لعدة أسباب، ثم توالت المحاولات، فتم استنساخ أنواع من النباتات في بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر.
واستمر العلماء الأمريكان واليابانيون في محاولاتهم إلى أن نجح العالم الأسكتلندي “إيان ويلموت” في تجربته بإنتاج النعجة التي سميت “دولي”، فكانت هذه التجربة الأكثر نجاحًا، والأكثر شهرة.
والاستنساخ فرع من علم (البيولوجيا)، ومجال من مجالات هندسة الوراثة، وهو بتعريفٍ يسيرٍ: نزع خلية من كائن حي، ووضعها في بويضة بعد أن تفرغ من موروثاتها، فينتج من هذا الوضع كائن جديد بإذن الله مطابقٌ أو مشابهٌ للكائن الذي نزعت منه الخلية، وهذه العملية تتطلب الكثير من الجهد والبراعة والدقة العلمية عند نزع الخلية ووضعها في البويضة.
وولادة الكائن الجديد على النحو الذي ذُكر تختلف عن طريقة الإنجاب المعروفة المتولدة عن الاتصال بين الحيوان المنوي الذكري، والبويضة الأنثوية. وهذه الطريقة-أي: نزع الخلية، ووضعها في البويضة-نوع من أنواع العلم بصرف النظر عن الحديث عن مدى فائدة هذا العلم من عدمه، ومن المهم للمسلم في حال كهذه أن يعرف موقف الإسلام من العلم عمومًا، ومن النوازل التي تنزل به تبعًا للتطور العلمي المعاصر خصوصًا.
موقف الإسلام من العلم:
الإسلام دين العلم، والأصل في هذا الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِين * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم * قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون}([5]).
أما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»([6])، وإقراره -عليه الصلاة والسلام- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-حين بعثه إلى اليمن أن يجتهد فيما لم يجد فيه نصًّا من الكتاب والسنة([7]).
وفي هذه الآيات الكريمات عدة أحكام:
أول هذه الأحكام: أن الله -جل وعلا- هو العالم حصرًا بكل العلوم: دقائقها وجلائلها، أولها وآخرها؛ لأنه لمَّا علّم آدمَ الأسماءَ كان هو العالم بها أصلًا؛ لعلم علمه، وقدرٍ قدّره، وقد بيّن ذلك لملائكته حين تساءلوا عن الحكمة من وجود إنسان على الأرض رغم ما فيه من الأخطاء، فرد عليهم -جل وعلا- بأنه يعلم ما لا يعلمون، قائلًا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}([8]).
وثاني الأحكام: أن في تعليم الأسماء لآدم تعليمًا لذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والمقصود بالأسماء جميع الموجودات على الأرض من إنسان وماء ونبات وحيوان وغير ذلك من الأجناس والموجودات الأخرى، فاقتضى ذلك معرفتهم بالعلوم الإنسانية من كيمياء وفيزياء وغير ذلك من شتى العلوم والمعارف.
وثالث الأحكام: أن العلم في كلياته وجزئياته يبقى دائمًا لعالِمِهِ أصلًا، وهو الله -جل وعلا-، فاقتضى ذلك حكمًا أنه ليس لأحد من خلقه من الملائكة أو الجن أو الإنس أن يعلم شيئًا إلا ما علّمه الله إياه، وفي ذلك قال -تعالى-: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}([9])، وقال -عز وجل-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}([10]).
ورابع الأحكام: أن الله يعطي الإنسانَ العلمَ لكي يعمل به لخير دينه وخلقه؛ فحين سخر له الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والسير في البر والبحر أراد أن يكون ذلك عونًا له على عبادة الله التي هي الغاية أصلًا من الخلق في قوله -عز وجل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}([11])، كما أراد له أن يعمل بالعلم لخير خلقه، فحرم عليه إيذاءهم، أو الإضرار بهم.
وخامس الأحكام: أن الإنسان قد يستخدم علمه للفساد والشرور، سواء بالنسبة لدين الله أو لعباد الله، فرغم علم الإنسان أن الله خالقه وموجده من العدم ينكر ذلك ويجحده، وهو ما فعله الدهريون من قديم الزمان ويفعله أشباههم في حاضر الزمان، وقد أخبر الله عنهم في قوله -تعالى-: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}([12])، ورغم علم الإنسان بمسؤوليته تجاه عباد الله، وعدم الإضرار بهم، فقد يفعل بعلمه ما يضرهم ويؤذيهم، وقد أخبر الله عمن يفعل ذلك في قوله -تعالى-: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}([13])، وقوله -تعالى- لنبيه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}([14])، وقوله -عز وجل-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُون}([15]).
وقد حذر الله عباده مما يسوله لهم الشيطان؛ ليصدهم بذلك عن الخير، ويدفعهم إلى الشر، كما فعل ذلك مع أبيهم آدم، فقال -عز وجل-: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون}([16])، وقال -تعالى- لنبيه داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب}([17]).
والعلم في مجاله النظري والمادي قد يكون نافعًا للإنسان، وقد يكون وسيلة للإضرار به؛ إذْ يتخذها من يعلم ضد من لا يعلم، وليس من وسيلة لمواجهة هذا الإضرار إلا بالعلم القائم على البحث والتحليل للنوازل، وعلاقتها بدين الأمة وتراثها وقيمها، ولعل أمة المسلمين تستذكر ما كان لسلفها الصالح من دور رائد في العلوم في شقيها: التجريبي والتطبيقي، وما آل اليه حال خلفها اليوم من تخلف أدى إلى تلقيه كل نازلة من النوازل رغم ما قد يكون فيها من أضرار على المدى القريب والبعيد.
نوازل العلوم المعاصرة، والحكم الشرعي فيها:
الاستنساخ من النوازل المعاصرة، واكتشاف خارطة المورثات الجينية “جينوم” التي أعلن عنها أخيرًا من النوازل المعاصرة، ولن تكون هذه النوازل هي الأخيرة، بل ربما نواجه في عصرنا هذا وفي العصر القادم عددًا منها في مجال علم البيولوجيا وهندسة الوراثة.
والحيرة أمام هذه النوازل، أو إصدار الأحكام العفوية فيها بالقبول أو الرفض دون بحث وتحليل أمر لا يتفق مع نظرة الإسلام وموقفه من العلم والتفكر، هذا الموقف الواضح في تعليم الله -عز وجل- أسماء الموجودات والأجناس لآدم وذريته، وفي ثنائه على العلماء من عباده في قوله -عز وجل-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}([18])، وفي عدم مساواته بين من يعلم ومن لا يعلم منهم في قوله -عز وجل-:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب} ([19]).
كما أن الحيرة أمام هذه النوازل أو الموقف العفوي منها بالقبول أو الرفض لا يتفق -أيضًا- مع ما أمر الله به عباده من التبصر في أنفسهم بما فيها من الدلائل الواضحة على قدرة الخالق وعلمه وحكمته في قوله -تعالى-:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون}([20])، كما لا يتفق مع ما بينه الله لعباده أنه سيريهم آياته في السماوات والأرض وفي أنفسهم في قوله -عز وجل-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([21]) قال ابن كثير في تفسيره: “ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع-تبارك وتعالى-، وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يَجُوزَها ولا يتعداها، كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي، حيث قال:
وإذا نـظرت تريد مـعـتـبَرًا فانظر إلـيـك فـفـيـك معتَبَرُ
أنت الـذي تمسي وتصبح في الدنيـا وكـل أمـوره عـبـــرُ
أنت المعرف كان في صغــــر ثــم استقل بشخصك الكبـرُ
أنت الذي تـنـعـاه خـلـفته ينعاه منه الـشعــر والـبشر
أنـت الـذي تعطَى وتُسلب لا ينجيه من أن يسلب الحــذر
أنت الـذي لا شيء منـه لـه وأحق مـنـه بماله الـقـدر”([22])
قلت: هذه النوازل لها بلا شك منافع وأضرار، فإذا كان استنساخ النبات قد ييسر للإنسان قُوته واستقرار حياته فهذا من المنافع التي أباحها الله للإنسان، وتدخل تحت حكم قوله -عز وجل-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}([23])، كما تدخل في عموم ما خلقه الله للإنسان في الأرض من نبات، وحيوان، وأشياء في قوله -عز وجل-: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون}([24]).
وإذا كان نسخ الحيوان يؤدي إلى زيادة نسله فهذا من المنافع العلمية، ويدخل تحت حكم قوله -عز وجل-: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون}([25]).
وإذا كان استنساخ أعضاء البشر (في حال حدوثه) يؤدي إلى علاج أمراض الإنسان فهذا من المنافع التي تدخل في حفظ النفس؛ لكون هذا الحفظ من الضرورات الشرعية، كما تدخل في أمر رسول الله -ﷺ- بالتداوي في قوله: «تداووا، ولا تداووا بحرام أو محرم»([26])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء يبرئ بإذن الله»([27]).
ومع ذلك فإن هذه المنافع في ظاهرها قد تتحول إلى أخطار وأضرار للإنسان والحيوان؛ فاستنساخ النبات قد يخرجه عن حقيقته الفطرية، فلو أخذنا على سبيل المثال استعمال المواد الكيماوية لزيادة المحاصيل الزراعية لوجدنا أن إساءة استعمالها تؤدي إلى أضرار خطيرة للإنسان، ولعل قائلًا يقول: إن ما نشاهده اليوم من أمراض خطرة ومستعصية ما هو إلا نتيجة لسوء استخدام هذه المواد، وهذا مما يعد محرمًا؛ لأنه غش حرمه الإسلام في قول رسول الله -ﷺ-: «من غشنا فليس منا»([28]).
واستنساخ الحيوان قد يكون خطرًا وضارًا بصحة الإنسان والحيوان نفسه، فاستنساخه قد يخرجه -أيضًا- عن حقيقته الفطرية، ولعل أبرز مثال لهذه الحقيقة قضية جنون البقر في بريطانيا، فقد أُطْعِم بأنواع من المخلفات تتغاير مع الطبيعة الفطرية لإطعامه، فحدث له ما حدث من جنون أضر به، وأضر بالإنسان الذي أكل لحمه.
واستنساخ أعضاء البشر قد يؤدي كذلك إلى أخطار وأضرار قد لا تظهر إلا بعد مضي مدة من حدوثه، فإذا كان استنساخ هذه الأعضاء يؤدي إلى تغيير في التركيبة أو الصفات الفطرية للإنسان فهذا بلاشك يعد محرمًا؛ لأنه تدخل في تغيير خلق الله، وقد أخبر الله -عز وجل- أن إبليس سوف يأمر أتباعه وأولياءه بتغيير خلق الله، كما ورد في الآية السابقة في قول الله -عز وجل-: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}([29]).
إذًا فالمعيار الشرعي لقبول نازلة من النوازل العلمية “الاستنساخ وغيره”، أو رفضها هو في كينونة هذه النازلة ذاتها، ومدى اتفاقها مع الأحكام الشرعية التي جاءت من عند الله رحمة لعباده، ودفع الضرر عنهم، فما اتفق مع هذه الأحكام وجب قبوله، وما تعارض معها وجب رفضه.
وخلاصة المسألة: أن الاستنساخ فرع من فروع علم الأحياء، ومجال من مجالات هندسة الوراثة، وهو بالتالي نوع من أنواع العلم، ومن المهم للمسلم أن يعرف موقف الإسلام من العلم عمومًا، ومن النوازل التي تنزل تبعًا للتطور العلمي المعاصر؛ فالإسلام دين العلم، وقد علم الله آدم الأسماء كلها، وهي جميع الموجودات على الأرض من إنسان وماء ونبات وحيوان وغير ذلك من الأجناس والموجودات الأخرى، فاقتضى ذلك معرفة ذريته بالعلوم الإنسانية من كيمياء وفيزياء وغير ذلك من شتى العلوم والمعارف.
وكما أن العلم قد يكون نافعًا للإنسان قد يكون وسيلة للإضرار به، وليس من وسيلة لمواجهة هذه الأضرار إلا بالعلم القائم على البحث والتحليل.
والاستنساخ من النوازل المعاصرة، وستواجه الأمة في هذا العصر-وربما في العصر القادم-عددًا من النوازل العلمية، والحيرة أمامها، أو إصدار الأحكام العفوية فيها أمر لا يتفق مع نظرة الإسلام، وموقفه من العلم والتفكر.
ولا شك أن لهذه النوازل منافع، وأن لها في الوقت نفسه أضرارًا، والمعيار الشرعي في قبولها أو رفضها هو في كينونتها هي نفسِها، وما تثمره من منافع، وما يترتب عليها من سلبيات، ومدى اتفاقها مع الأحكام الشرعية التي جاءت من عند الله رحمة لعباده، ودفعًا للضرر عنهم، فما اتفق مع هذه الأحكام وجب قبوله، وما تعارض معها وجب رفضه، وهذا لا يتحقق إلا بالبحث والتحليل. والله -تعالى- أعلم.
([1]) لسان العرب لابن منظور ج3 ص 61.
([2]) سورة الجاثية من الآية 29.
([4]) سورة البقرة من الآية 106.
([5]) سورة البقرة الآيات: 31: 33.
([6]) صحيح مسلم كتاب الفضائل ج4 ص 1835-1836، ومصابيح السنة للبغوي، كتاب الإيمان، باب الاعتصام بالسنة ج1 ص 108.
([7]) تفسير ابن كثير ج7 ص340، قال رسول الله -ﷺ- له: «بم تحكم»؟. قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد». قال: بسنة رسول الله، قال: «فإن لم تجد»؟. قال أجتهد رأيي، ولا آلو، قال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى الله ورسوله»، والحديث مرسل، تكلم فيه الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الضعيفة.
([9]) سورة البقرة من الآية 255.
([10]) سورة الإسراء من الآية 85.
([11]) سورة الذاريات الآية 56.
([12]) سورة الجاثية من الآية 24.
([13]) سورة النساء الآيات: 117: 120.
([20]) سورة الذاريات الآية 21.
([22]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4 ص ۱۰۷.
([26]) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم (3874)، سنن أبي داود ج4 ص7، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب النهي عن التداوي بما يكون حراماً في غير حال الضرورة، ج10 ص 5، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٦٩٠).
([27]) رواه مسلم كتاب السلام، باب «لكل داء دواء»، ج4 ص 1729، وانظر: شرح النووي لمسلم ج14 ص191 الباب نفسه، ومصابيح السنة للبغوي ج3 برقم (3487)، رواه عن جابر.
([28]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب قول النبي-ﷺ-: «من غشنا فليس منا»، برقم (164)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص348.