وتقوم المؤسسة حاليًّا بإدارة (135) مدرسة من مختلف أنحاء كشمير الحرة، وقد نالت هذه المدارس إعجاب أهالي المنطقة؛ نظرًا للمنهج التعليمي والتربوي الذي يشمل العلوم الإسلامية والعلوم العصرية معًا.
وهذه المدارس تعمل في مبان مستأجرة، لا تستوعب الضرورات اللازمة التي يجب توافرها لعملية التعليم والتربية، ومن أجل ذلك فقد أصبحت الحاجة إلى بناء المباني تحديًا كبيرًا للمؤسسة، فلهذا تقدمت بمشروعات بناء المدارس إلى الجهات الحكومية وغير الحكومية؛ للحصول على الدعم المادي، ولكن المساعدات التي وصلت حتى الآن لا تكفي لإنجاز هذه المشروعات.
ومن بين الجهات التي قدمت المساعدة: بعض من المؤسسات الحكومية، ولكنا عرفنا من بعض الإخوة العاملين فيها أن هذا الدعم يكون من الأموال التي تأتي من ربا البنوك، علمًا بأن هذا الربا الذي تتسلمه هذه المؤسسات لا يكون على المبالغ التي تقوم بإيداعها في البنك، بل هو جزء من الربا الذي يتبقى لدى البنك بعد صرفه للزبائن في نهاية السنة المالية، والسؤال هو:
– هل يجوز للمؤسسة أن تتسلم هذه المبالغ من الأموال الربوية لبناء مباني المدارس والمعاهد التعليمية ومرافقها؟.
– ما حكم الأموال التي تأتي لهذه المؤسسات الحكومية نتيجة التعامل الربوي مع البنوك على الأموال المودعة الخاصة بها؟، وهل يجوز تسلمها من قبل المؤسسة؛ لصرفها في بناء المباني أو في الأعمال الخيرية الأخرى؟، علمًا بأن هذه المؤسسات الحكومية لا تخبر المنظمات الخيرية غير الحكومية عن مصادر هذه الأموال.
وقبل الجواب عن السؤال فإن من المهم التعليق عليه، فهذه المؤسسة وأمثالها تستحق التشجيع؛ لما تقوم به من جهود في تربية الفقراء والأيتام، ومن قست عليهم ظروف الحياة من أطفال المسلمين، وتعليمهم، ومن أهم العوامل في بقاء الحضارة أيِّ حضارةٍ نشوء المؤسسات الخيرية ذات الدوافع الإنسانية، ومشاركتها في بناء الحياة الاجتماعية، وتلافي ما قد يقع فيها من خلل، وخاصة في هذا العصر الذي تفرض طبيعته وظروفه الاهتمام بالتعليم، وجعله عنصرًا أساسيًّا في مسيرة الحياة.
أما الجواب فإنه يبدو من سؤال الأخ السائل ورفاقه حرصهم على تجنب الحرام وشبهه؛ اتباعًا لأمر دينهم، وهو أمر يستحقون عليه الثناء، وهذا الحرص جعلهم يترددون في قبول تبرعات ربما ظنوا، أو قيل لهم: إن فيها شبهة من ربا.
والأصل في الشرع الإسلامي تحريم التعامل بما هو حرام، سواءٌ كان في ذاته، أم في الوسيلة الموصلة إليه، وسواءٌ كان هذا التعامل بيعًا، أم شراءً، أم هبةً، أم تبرعًا، أم وصيةً، أم غير ذلك من أنواع التعامل الأخرى.
وهذا التحريم لمصلحة العباد أنفسهم، فلم يحرم الله شيئًا إلا وقد علم بعلمه المطلق أن فيه ضررًا لعباده، كحال الربا؛ لما فيه من الظلم والاستغلال والتغابن بين الناس، وقد شبه الله أَكَلَتَهُ بمن يتخبطه الشيطان من المس، ونفى عنه صفة البيع الحلال، ثم بين أنه يُذهب بركته، فقال-تعالى-: {الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ منَ الْمَسّ ذَلكَ بأَنَّهُمْ قَالُواْ إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَا} [البقرة: 275]، وقال -تعالى-: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا} [البقرة: 276].
والحرام يظل حرامًا في ذاته، كما يظل النهي عنه ثابتًا بثبوت حرمته، إلا أن الله قد رحم عباده، فاستثنى لهم ما توجبه الضرورات التي تنزل بهم في أحوال لا تندفع إلا بارتكاب شيء من المحرم، خاصة إذا كانت هذه الضرورات تتعلق بحفظ أنفسهم، فقال في كتابه العزيز: {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخنزير وَمَا أُهلَّ به لغَيْر اللّه فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْه} [البقرة: 173]، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُررْتُمْ إلَيْه} [الأنعام: 119].
ويتعلق بالسؤال أمران:
الأمر الأول: ما إذا كان من الواجب على المؤسسات أو المنظمات الخيرية أن تسأل عن مصدر الأموال التي ترد لها من الجهات الحكومية.
الأصل أن المسلم غير مكلف بما ليس في وسعه، سواءٌ أكان هذا يتعلق بعباداته أم بمعاملاته؛ لأن ما في غير الوسع غير ممكن الحصول، فنفاه الله عن عباده رحمةً بهم؛ وذلك استدلالًا بقوله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، واستدلالًا بما روي عن رسوله -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)([1]).
ولهذا لم يكلف بالصيام الشيخ العاجز عنه، ولم يكلف به المريض، ولم تكلف به المرضع والحامل إذا كان فيه ما يضر بوليدهما، ولم يكلف الله بالحج إلا المستطيع، وهكذا.
وينبني على هذا أمور كثيرة في معاملات الناس وعلاقاتهم ببعضهم، فليس من اللازم على من دعي إلى طعام مثلًا أن يسأل عن حِلِّهِ، وليس من اللازم على من أُهدي إليه شيء من آخر أن يسأل عما إذا كان هذا حلالًا، وليس من اللازم أن يسأل المشتري البائع عن السلعة التي يريد شراءها منه: أهو مالك لها أم غاصب لها؟، وليس من اللازم على الموصى له أن يسأل الموصي عما إذا كان محل الوصية كسبًا طيبًا أم غير طيب، فالمسلم مستور، وما جهلناه يصير لنا كالمعدوم، ولهذا يجب قبوله على ظاهره، والله -سبحانه وتعالى-هو وحده الذي يتولى السرائر، ويعلم الأحوال، وقد نهانا عن السؤال عن أشياء مما في غير مقدورنا فقال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وفي هذا نهي لمن كان يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إبان نزول الوحي عن أشياء ما كان يجب السؤال عنها؛ لما قد تؤدي إليه من التكليف بما لا يطاق، فكان هذا النهي رحمة بالأمة؛ خوفًا من أن يفرض عليها ما لا تستطيعه، كما فعل بنو إسرائيل مع أنبيائهم حين سألوهم عن أشياء، ثم فرضت عليهم، فتركوها، فقال الله فيهم: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِين} [المائدة: 102].
ولما فرض الحج على الأمة سأل رجل رسول الله -ﷺ- قائلًا: أكلَّ عام يا رسول الله؟، فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله -ﷺ-: (لو قلت: نعم! لوجبت، ولما استطعتم)([2])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)([3])، وقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)([4])، فدل كل ذلك على أن من الواجب على المسلم ألا يتكلف السؤال عما لا يلزمه، سواءٌ أكان في أمور دينه أم في أمور دنياه.
الأمر الثاني: الأموال التي يظن فيها شبهة من حرام:
الغالب في الأموال أن تكون مصحوبة بشبه كثيرة، وإن اختلفت نسبتها قلة وكثرة، وإذا كانت هذه الشبه قليلة في الأزمنة الماضية فهي في الأزمنة المعاصرة كثيرة، وقد فرضتها طبيعة المعاملات، وزوال الحواجز بين مواقع الناس، وما أدى إليه ذلك من تداخل العلاقات، وكثرة النوازل، وتعدد أنواع الربا؛ مما أصبح معه الإنسان معرضًا في ماله لكثير من الشبه، ولهذا قال رسول الله -ﷺ-: (يأتي على الناس زمان يأكلون الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره)([5])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إن التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([6])، وما كان هذا ليكون للتاجر إلا لأنه معرض لمخاطر التعامل من كذب وغش وربا ونحو ذلك، فإذا قدر على أن يتخلص من هذه المخاطر فقد اقتضى ذلك نزوله في تلك المنزلة التي حددها رسول الله -ﷺ-.
وقد تعرض الفقهاء -رحمهم الله- لمسألة الشبه التي يتعرض لها المال، ووضعوا لذلك معيارًا شرعيًّا، هو مدى الغلبة على هذا أو ذاك، فما غلب عليه الحلال فلا بأس به، وما غلب عليه الحرام صار حرامًا.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: روي عن الإمام قوله: “إن كل شيء أفسده الحرام، والغالب عليه الحلال فلا بأس به…، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته”([7]).
وفي المذهب أنه إذا اختلط مائع طاهر بماء مطلق فالعبرة للغالب، فإن غلب الماء جازت الطهارة به…، وإذا كان غالب مال المهدي الحلال فلا بأس بقبول هديته، وأكل ماله، ما لم يتبين أنه من حرام، وإن كان الغالب في ماله الحرام فلا يقبلها، ولا يأكل إلا إذا قال له -أي: المُهْدِي-: إنه حلال ورثه، أو استقرضه، ومن ابتلي بطعام الظلمة فيتحرى، فإن وقع في قلبه حله قبل وأكل، وإلا فلا، وإذا غلب على ظن المشتري أن أكثر بياعات أهل السوق لا تخلو عن الفساد، فإن كان الغالب هو الحرام تنزه عن شرائه، ولكن مع هذا لو اشتراه يطيب له، وإذا اختلط الحلال بالحرام في البلد جاز الشراء والأخذ، إلا أن تقوم دلالة على أنه من الحرام([8]).
وفي مذهب الإمام مالك: تنقسم معاملة مكتسب الحرام كمن يتعاطى الربا والغصوب إلى قسمين:
القسم الأول: إن كان المال الحرام قائمًا بعينه عند صاحبه فلا يحل شراؤه إن كان عينًا، ولا أكله إن كان طعامًا، ولا لبسه إن كان ثوبًا، كما لا يحل قبول شيء منه في هبة، أو أخذه في دين، أو نحو ذلك.
القسم الثاني: أن يكون الحرام قد فات من يده، وأصبح في ذمته فله ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون الغالب على ماله الحلال فأجاز قول في المذهب معاملته، وحرمها قول آخر.
والحالة الثانية: أن يكون الغالب على ماله الحرام فتمنع معاملته كراهة في قول، وتحرم في قول آخر.
والحالة الثالثة: أن يكون كل ماله حرامًا، فإن لم يكن له قط مال حلال حرمت معاملاته، وإن كان له مال حلال، إلا أنه اكتسب من الحرام ما أربى على ماله، واستغرق ذمته، فاختُلف في جواز معاملته من حيث الجواز والمنع، والتفرقة بين معاملته بعوض، فيجوز كالبيع، وبين هبته ونحوها فلا يجوز([9]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا تحرم معاملة مَنْ أَكْثَرُ ماله حرام إذا لم يعرف عينه، لكن يكره، وإذا اختلط في البلد حرام لا ينحصر لم يحرم الشراء منه، بل يجوز الأخذ منه، إلا أن تقترن به علامة تدل على أنه من الحرام، فإن لم يكن في العين علامة تدل على ذلك فتركه ورع، وأخذه حلال لا يفسق به آكله([10]).
والضابط عند الإمام عز الدين بن عبد السلام “أن الكراهة تشتد بكثرة الحرام، وتخف بكثرة الحلال، فاشتباه أحد الدينارين بآخر سبب تحريم بين، وبينهما أمور مشتبهات مبنية على قلة الحرام وكثرته بالنسبة إلى الحلال، فكلما كثر الحرام تأكدت الشبهة، وكلما قل خفت الشبهة، إلى أن يساوي الحلال الحرام، فتستوي الشبهات”([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد: تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن المال إذا خالطه حلال وحرام، فعد هذا شبهة، فأما المعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال، إلا أن يعرف الكره من وجه آخر، وذلك إذا باع ألفًا بألف ومائتين، فالزيادة هي المحرمة فقط، وفي حديثه عن معاملة التتار قال: “إذا علم أن في أموالهم شيئًا محرمًا، لا نعلم عينه، فهذا لا يحرم معاملتهم، كما إذا علم أن في السوق ما هو مغصوب أو مسروق، ولم يعلم عينه، والحرام إذا اختلط بالحلال فهو على نوعين:
النوع الأول: أن يكون محرمًا لعينه كالميتة، مثل أن يعلم أن في البلدة الفلانية من يبيع ميتة، لا يعلم عينها، فهذا لا يحرم عليه اللحم.
والنوع الثاني: “ما حرم لكونه أخذ غصبًا، والمقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر، فهذا إذا اشتبه، واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه، وهذا إلى مستحقه، مثل اللص الذي أخذ أموال الناس فخلطها، أو أخذ حنطة الناس أو دقيقهم فخلطه، فإنه يقسم بينهم على قدر الحقوق، وإذا علم أن في البلد شيئًا من هذا لا يعلم عينه لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد، لكن إذا كان أكثر مال الرجل حرامًا فهل تحرم معاملته أو تكره؟ على وجهين، وإن كان الغالب على ماله الحلال لم تحرم معاملته، لكن قد قيل: إنه من المشتبه الذي يستحب تركه”([12]).
وينبني على ما سبق أن للمؤسسة الخيرية محل السؤال الحقَّ في قبول التبرعات من الجهات الحكومية، وليس عليها في ذلك من حرج، ذلكم أنها لا تعلم عن مصادر الأموال المتبرع بها، ولا يلزمها حينئذ أن تسأل عن هذه المصادر، أو تستمع لمن يريد إخبارها عنها، فالسؤال في مثل هذه الأحوال يعد من باب التكلف والتنطع، وقد روي عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (هلك المتنطعون، قالها ثلاثًا)([13]).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأموال الحكومية أموال عامة، والأصل أنها حلال، فهي إما أن تكون نتيجة استغلال للمصادر الطبيعية كالأنهار والبحيرات، أو استخراج الثروات الموجودة في باطن الأرض، وإما أنها نتيجة جهد الأمة مجتمعة فيما تقوم به من زراعة وصناعة ونحو ذلك مما يعرف بالدخل العام، وما قد يلحق هذه الأموال من شُبهة الربا أو نحوها لا يغير من الطبيعة الشرعية لهذه الأموال، والذين يقولون فيها ما يقولون يفعلون ذلك ورعًا، وما ترك ورعًا فلا يلزم أن يكون أمرًا مشروعًا، فمن يعزف مثلًا عن استعمال الآلات الحديثة المباحة بحجة الورع فإنما يبتدع في الدين ما ليس فيه؛ لأن الله أحل لعباده الطيبات في قوله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وقوله-تعالى-: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5]، وقوله -تعالى-: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
وروي عن الإمام أحمد أنه قال: “جوائز السلطان أحب إلى من الصدقة”، وقال: “ليس لأحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم نصيب، فكيف أقول: إنها سحت”([14]).
وممن كان يقبل الجوائز من السلطان: عبد الله بن عباس، وعائشة، وعبد الله بن عمر، والحسن، والحسين، وابن جعفر، ورخص في ذلك جمع من التابعين والأئمة -رضوان الله عليهم أجمعين-([15])، كما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: “لا بأس بجوائز السلطان، فإن ما يعطيكم من حلال أكثر مما يعطيكم من الحرام”([16])، وقال -رضي الله عنه-: “لا تسأل السلطان شيئًا، وإن أعطى فخذ، فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام”([17]).
وخلاصة المسألة: أن المسلم غير مكلف بما ليس في وسعه؛ لأن ما في غير الوسع غير ممكن الحصول، فلهذا نفاه الله عن عباده رحمة بهم، وفي معاملات الناس وعلاقاتهم ببعضهم ليس من الواجب على المُهدَى إليه أو الموصى له أن يسأل من أهدى إليه، أو أوصى له عن مصدر ماله؛ لأن المسلم مستور، وما جهلناه يصير لنا كالمعدوم، ولهذا يجب قبوله في ظاهره.
ولهذا فإن للمؤسسة الخيرية محل المسألة قبول التبرعات من الجهات الحكومية، وليس عليها في ذلك من حرج، وذلك أنها لا تعلم عن مصادر الأموال المتبرع بها، وليس من اللازم أن تسأل عن هذه المصادر، أو تستمع لمن يريد إخبارها عنها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأموال الحكومية أموال عامة، والأصل أنها حلال، وما قد يلحق هذه الأموال من شبهة الربا أو نحوها لا يغير من طبيعتها الشرعية، والذين يقولون فيها ما يقولون يفعلون ذلك ورعًا، وما ترك ورعًا فليس من اللازم أن يكون أمرًا مشروعًا وقد أجمع كثير من الصحابة والتابعين والأئمة على جواز أخذ ما يعطيه السلطان؛ لأن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام.
والله أعلم.
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله-ﷺ-، صحيح البخاري ج8 ص 142، وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه-ﷺ-، صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص 109.
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص101.
([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب قوله-تعالى-: ﴿لا يسألون الناس إلحافًا﴾، صحيح البخاري ج2 ص131، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص10.
([4]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب ما جاء في حسن الخلق، برقم (1629)، الموطأ ص 650، رواية الليثي، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج1 ص201، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، وأخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، برقم (2317 و2318)، سنن الترمذي ج4 ص483-484، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٨٢٢٤).
([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، برقم (2278)، ج2 ص765، وأخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات في الكسب، ج7 ص243، وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات، برقم (3331)، بلفظ “من بخاره” ج3 ص243-244، وأخرجه الخطيب التبريزي في المشكاة، كتاب البيوع، باب الربا، برقم (2818)، ج2 ص 857، ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، (٤٤٩).
([6]) أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار، وتسمية النبي-ﷺ-إياهم، برقم (1209)، ج3 ص515، وأخرجه التبريزي في المشكاة، كتاب البيوع، باب المساهلة في المعاملات، برقم (2796)، ج2 ص851، قال الألباني في السلسلة الصحيحة، (٣٤٥٣): إسناده جيد .
([7]) بدائع الصنائع للكاساني ج5 ص144.
([8]) انظر في هذا: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص112-113، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج1 ص181-182، وشرح فتح القدير لابن الهمام ج1 ص71-72، والاختيار لتعليل المختار ج1 ص14.
([9]) القوانين الفقهية لابن جزي ص287-288 وانظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج3 ص550-552، والفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني ج2 ص310، والمعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب للونشريسي ج6 ص142-144.
([10]) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية للسيوطي ص 108-109، وانظر: إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص81-115، والمجموع شرح المهذب للنووي ج9 ص353.
([11]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1 ص73.
([12]) الفتاوى، ج 29 ص272-277، وانظر: القواعد النورانية الفقهية ص35.
([13]) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب “هلك المتنطعون”، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص220.
([14]) الشرح الكبير، للإمام عبد الرحمن بن قدامة مع المغني، ج4 ص23.