الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالجواب عن هذا من وجهين: الوجه أولهما: حكم تارك الصلاة، وثانيهما: مدى صحة صيام من كان تاركا للصلاة.
الوجه الأول: حكم تارك الصلاة: فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة أحد أركان الإسلام الخمسة وترتيبها بعد الشهادتين، فمن تركها فقد ترك أحد أركان الإسلام، ولا يكون المسلم مسلما إلا إذا أقام أركان الإسلام إيمانا واعتقادا؛ والأصل في هذا الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فأمر الله تعالى بإقامة الصلاة في قوله عز وجل: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِين} [البقرة: 43]. وقوله عز وجل: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [الأنعام: 72]. وقوله عز من قائل: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]. وقوله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: 114].
أما السنة: فقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: (بُني الإسلام على
خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)([1]).
فدل هذا على فرضيتها على المسلم البالغ العاقل فرضا أبديا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن تركها عمدا عُد غير مسلم. فقد روى يحيى بن يحيى التميمي وعثمان بن أبي شيبة كلاهما عن جرير عن الأعمش عن أبي سفيان قال سمعت جابرا يقول سمعت النبي ﷺ يقول: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)([2]). وعن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)([3]). وعن عبد الله العقيلي أنه قال: «كان أصحاب محمد ﷺ لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة»([4]). وتارك الصلاة إما أن يكون تركه لها إنكارا لوجوبها، وإما أن يكون تركه لها تهاونا وتكاسلا. فإن كان قد تركها منكرا لوجوبها فهذا يعد خارجا من ملة الإسلام بإجماع المسلمين ما لم يكن قد دخل في الإسلام وهو في مكان ناء عن المسلمين، ولم يعرف بعد شيئا عن وجوبها عليه. وإن كان تركه للصلاة تهاونا مع اعتقاده وإقراره بوجوبها فللفقهاء في ذلك عدة أقوال:
فعند الإمام أبي حنيفة: يعد فاسقا ويحبس حتى يصلي؛ لأنه يحبس لحق العبد فحق الحق أحق([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: إن أقر بوجوبها وامتنع من فعلها فيقتل حدا لا كفرا بعد أن يستتاب([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: من ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في الإسلام قيل له صل، فإن ذكر أنه كان ناسيا قيل له فصل إذا ذكرت، وإن ذكر أنه مريض قيل له صل كيف أطقت قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو مومئا، فإن قال أنا أطيق الصلاة وأحسنها ولكن لا أصلي، وإن كانت علي فرضا قيل له الصلاة عليك شيء لا يعمله عنك غيرك ولا تكون إلا بعملك، فإن صليت وإلا استتبت إن تبت وإلا قُتِلت([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: من ترك الصلاة تهاونا لا جحودا دعي إلى فعلها، فإن أبى حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا وقيل يقتل لكفره وهذا هو المذهب وقيل حدا لا كفرا([8]).
هذه خلاصة أقوال الأئمة الأربعة فيمن ترك الصلاة عمدا أو تهاونا وقد نظمها أحد الأحناف في هذه الأبيات بقوله:
في حكم من ترك الصلاة وحكمه إن لم يُـقر بها كحكم الكافرِ
فإذا أقـر بـهـا وجانـب فعلها فالحكم فـيه للسيـف الباتـرِ
وبه يـقـول الشـافعي ومـالك والحنـبلي تمـسكا بالظـاهـرِ
وأبـو حنـيفـة لا يقول بقتلـه ويقول بالحبس الشديد الزاجرِ
والمسلمون دمـاؤهم معصومةٌ حتى تُراق بـمـستـنـير باهـرِ
مثل الزنا والقـتل في شرطيهما وانظر إلى ذلك الحديث السافرِ
هذي مـقـالات الأئـمـة كـلهم وأصحهـا ما قلته في الآخــرِ([9])
الوجه الثاني: مدى صحة صيام من كان تاركا للصلاة: الصيام أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد أمر الله به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. وقد أجمع الأئمة على أن من شرائط الصوم الإسلام([10])، فلا يصح صوم الكافر سواء كان كفره أصليا أو كان مرتدا؛ لأن الصوم عبادة محضة تفتقر إلى النية فكان الإسلام من شرطها، فإن كان تارك الصلاة قد تركها جاحدا لها فهو غير مسلم -كما ذكرت- لا يلزمه الصوم بأي حال. وإن كان قد تركها تهاونا وتكاسلا فعلى رأي من قال من الأئمة بكفره لا يصح صومه؛ لأن الصوم لا يصح من غير المسلم. وعلى رأي من قال بفسقه وحبسه للزجر فيلزمه الصوم؛ لأنه يعد هنا فاسقا والفاسق، يلزمه الصوم.
قلت: أما تارك الصلاة عمدا جاحدا بوجوبها فلا خلاف في خروجه من الإسلام وبالتالي لا خلاف في عدم وجوب الصيام عليه؛ لأن الصيام لا يلزم إلا المسلم. أما من كان تاركا للصلاة تهاونا وتكاسلا أو كان يصلي تارة ويترك تارة أو كان يؤخر الصلاة بعض الوقت مع إقراره بوجوبها، فالأولى إلزامه بالصيام، فلو قيل له لا يلزمك الصيام، ولم يصم تضاعفت السيئات عليه ويئس من التوبة لتركه ركنين من أركان الإسلام. ولما كان الإسلام دينا يبشر ولا ينفر، وييسر ولا يعسر، ويقرب ولا يبعد فالأولى أن يعد المتهاون في الصلاة عاصيا يستحق الزجر والعقاب، ولعل الصيام يفتح له باب التوبة، فيشمله الله برحمته فيتوب ويصلي، والأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة:
فمن الكتاب قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]. وقوله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [التوبة: 102]. أما السنة: فمنها ما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلا كان على عهد النبي ﷺ اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله ﷺ، وقد جلده في الشرب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقــال النبي ﷺ: (لا تلعنوه فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله)([11]). ومنها ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه أتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام بسكران فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله ﷺ: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)([12]).
وخلاصة المسألة: أن الصلاة أحد أركان الإسلام وقد فرضت على المسلم فرضا أبديا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن تركها جاحدا لها عد كافرا خارجا عن ملة المسلمين، ومن تركها تهاونا وتكاسلا فمن الفقهاء من يراه كافرا، ومنهم من يراه فاسقا يستحق الزجر والعقاب.
والصيام أحد أركان الإسلام ومن شرائطه الإسلام؛ فلا يصح صوم غير المسلم سواء كان كفره أصليا، أو كان مرتدا؛ لأن الصوم عبادة محضة تفتقر إلى النية فكان الإسلام من شروطها. فإن كان تارك الصلاة قد تركها عمدا وجحودا خرج عن ملة الإسلام فلا يصح منه الصوم، وإن كان قد تركها تهاونا وتكاسلا، أو كان يصلي تارة ويترك تارة، أو يؤخر الصلاة عن الوقت فالأولى إلزامه بالصيام؛ لعله يفتح له باب التوبة فيشمله الله برحمته فيتوب، فيتوب الله عليه.
والله -تعالى- أعلم.
([2]) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب إطلاق الكفر على تارك الصلاة، صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص70-71.
([3]) أخرجه الإمام الترمذي في أبواب الإيمان، برقم (2756)، ج4 ص126، وقال حديث حسن صحيح غريب.
([4]) رواه الترمذي في أبواب الإيمان، برقم (2757)، ج4 ص126، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٦٢٢).
([5]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج1 ص352 وانظر حاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي ج1 ص170.
([6]) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك للكشناوي ج1 ص263-264، وانظر البيان والتحصيل لابن رشد ج1 ص475-476، والمدونة الكبرى للإمام مالك برواية الإمام سحنون عن الإمام عبد الرحمن بن قاسم ج1 ص64-65.
([7]) الأم للإمام الشافعي ج1 ص 255 وانظر فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب للأنصاري ج1 ص87-88، وانظر نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج2 ص428-429، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد الشربيني الخطيب ج1 ص327.
([8]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي ج1 ص401-405، وانظر المبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج1 ص305-308، والمغني والشرح الكبير ج2 ص298-303، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج22 ص40-63.
([9]) هذه الأبيات وردت في حاشية الطحطاوي الحنفي على الدر المختار المرجع السابق، قوله «أصحها ما قلته في الآخر» يقصد رأي الإمام أبي حنيفة.
([10]) انظر في مذهب الإمام أبي حنيفة بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج2 ص83، وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج2 ص371، وشرح فتح القدير لابن الهمام مع الهداية للمرغيناني ج2 ص302، وانظر في مذهب الإمام مالك عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة لابن شاس ج1 ص360، والكواكب الدرية في فقه المالكية لمحمد جمعة عبد الله ج1 ص190، وانظر في مذهب الإمام الشافعي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج3 ص176، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج لمحمد الشربيني الخطيب ج1 ص432، وانظر في مذهب الإمام أحمد المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج3 ص13، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج3 ص11، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج3 ص280.
([11]) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة، برقم (6780)، فتح الباري، ج12 ص77.
([12]) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة، برقم (6781)، فتح الباري، ج12 ص77.