المسلم يعرف حقًا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، وأصل من أصوله، ولا إسلام لمن لا صلاة له.
وفرضيتها على المسلم معلومة من الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله تعالى في غير موضع من كتابه العزيز: {وأقيموا الصلاة}، وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى}([1])، وقوله تعالى: {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}([2])، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ}([3]).
وأما السنة: فقد صح عن رسول الله ﷺ قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إلَه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله).([4])
وينبني على هذا أن ترك الصلاة يعد كفرًا، وهذا يقتضي التفريق بين مسألتين: ترك الصلاة عمدًا مع جحود وجوبها، وتركها دون جحود لوجوبها.
ترك الصلاة عمدًا مع جحود وجوبها:
من ترك الصلاة عامدًا جاحدًا لوجوبها، يعد غير مسلم، ما لم يكن حديث عهد بالإسلام، ولم يكن مع المسلمين، أو يخالطهم، مدة يعرف فيها وجوب الصلاة عليه؛ لأن ترك الصلاة مع جحودها، يعد إنكارًا للإسلام سواء كان هذا من غير مسلم أصلًا، أو من مسلم ترك الصلاة جحودًا وإنكارًا لفرضيتها، والأصل في كفره ما رواه جابر أن رسول الله ﷺ قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، وعند الترمذي بلفظ: (بين الكفر والإيمان ترك الصلاة)([5])، وما رواه بريدة أن رسول الله ﷺ قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)([6])، وما ذكره عبدالله بن شقيق العقيلي، أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر، غير الصلاة([7]).
قلت: ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها، فهذا إن وفقه الله للتوبة النصوح لا يلزمه قضاء ما فات منها، استدلالًا بالكتاب والسنة، أما الكتاب: فقول الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}([8]). قال ابن العربي: (هذه لطيفة من الله سبحانه منَّ بها على الخليقة؛ وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي ويرتكبون المآثم، فلو كان ذلك يوجب مؤاخذتهم، لما استدركوا برًا توبته ولا نالتهم مغفرة؛ فيسر الله عليهم قبول التوبة عند الإنابة، وبذل المغفرة بالاسلام، وهدم جميع ما تقدم؛ ليكون ذلك أقرب إلى دخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم كلمة الإسلام، وتأليفًا على الملة، وترغيبًا في الشريعة، فإنهم لو علموا أنهم يؤاخذون، لما أنابوا ولا أسلموا)([9]).
قلت: وفي هذا أيضًا تخفيف من الله عز وجل على عباده من المشقة، فلو لزم تارك الصلاة قضاء ما فاته منها لسنوات عديدة، لكان في ذلك تكليف زائد على مافي الوسع، ومشقة عليه، وقد رفع الله هذا التكليف في قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([10]). وأما السنة: فقد صح عن رسول الله ﷺ قوله: (الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها)([11]).
ولما أسلم من أسلم من الكفار، لم يأمرهم النبي ﷺ بأداء الصلاة، أو غيرها من شعائر المسلمين. كما أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يأمروا من ارتد من العرب -من بني حنيفة وغيرهم- ثم أسلم، أن يقضي ما ترك من الصلاة([12]).
ترك الصلاة دون جحود لوجوبها:
وقد تباينت آراء الأئمة في ذلك:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي، ووجه الاستدلال أن الله عز وجل قال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}([13])، وأن رسوله -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة)([14]). وليس من هؤلاء تارك الصلاة.
وفي مذهب الإمام مالك: أنه لا يكفر بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل([15])، ووجه الاستدلال على عدم كفره قول الله تعالى في الآية السابقة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، أما وجه الاستدلال في عدم قتله، فقول الله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}([16])، وقول رسوله -عليه الصلاة والسلام-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلَه إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)([17]). وممن قال بهذا أيضًا، الإمام الشافعي([18]).
وفي مذهب الإمام أحمد: في ظاهر الروايتين أن تارك الصلاة يكفر، وقال بهذا أيضًا جماعة من السلف([19])، وقول لبعض أصحاب الإمام الشافعي([20])، ووجه الاستدلال على ذلك ما ورد في الأحاديث التي سلف ذكرها في كفر تارك الصلاة.
وعند الأئمة الثلاثة يجب على تارك الصلاة، قضاء ما فات منها، أي يصليها قبل التي حضر وقتها إن كان ما تركه خمس صلوات فأقل، فإن كانت أكثر من ذلك بدأ بالصلاة الحاضرة، ثم بعد ذلك بالفائتة([21]).
وفي مذهب الإمام أحمد: من فاتته الصلاة لزمه قضاؤها على الفور، وهذا مقيد بما إذا لم يتضرر في بدنه، وفي معيشة يحتاجها، وقيل لا يجب على الفور مطلقًا، وقيل يجب في خمس صلوات فقط، واختار الشيخ تقي الدين من أئمة المذهب، إن تارك الصلاة عمدًا إذا تاب، لا يشرع له قضاؤها، ولا تصح منه، بل عليه أن يكثر من التطوع([22]).
وهذا هو ما ذهب إليه الإمام ابن حزم بأن عليه الإكثار من فعل الخير، وصلاة التطوع لكي يثقل ميزانه يوم القيامة، وليتب ويستغفر الله عزوجل([23]).
وجماع ما سبق ذكره: أن من ترك الصلاة مع جحود وجوبها أصبح غير مسلم، بلا خلاف بين العلماء، فإذا وفقه الله للتوبة فلا يلزمه قضاء، أما من تركها دون جحود لوجوبها، ففيه خلاف بين العلماء: فمنهم من قال بكفره، ومنهم من قال بعدم كفره، وهذا هو الظاهر.
قلت: والقول بعدم كفره لا يعني سلامته من الإثم العظيم، فمن ترك الصلاة تهاونًا وتكاسلًا، فقد ارتكب إثمًا كبيرًا، وتعرض لذنب عظيم وعقاب أليم.
والأساس في هذا الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}([24])، وقوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين}([25])، {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون}([26]).
وأما السنة: فقول رسول الله ﷺ: (من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله)([27]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من ترك صلاة العصر، فقد حبط عمله)([28]).
والواجب على من ترك الصلاة تهاونًا وتكاسلًا، أن يقضي ما فاته منها، إذا لم يكن عليه مشقة كبيرة تناله في نفسه، أو في معيشته، كما لو كان تركه لها سنوات عديدة. وفي كل الأحوال يجب عليه التوبة بشروطها، وكثرة الاستغفار، وطلب العفو من الله، والمداومة والاستقامة على أدائها في مستقبل حياته؛ لعل الله يقبل توبته ويكفر عنه خطيئته.
والله أعلم.
([1]) سورة البقرة من الآية 238.
([2]) سورة النساء من الآية 103.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم)، برقم 25، فتح الباري، ج1 ص94.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب التكفير بترك الصلاة برقم (134)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص309-310، ورواه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2618)، ج5 ص14.
([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم (1079)، ج1 ص342، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٦٢١).
([7]) رواه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، ج5 ص15، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٦٢2).
([8]) سورة الأنفال من الآية 38.
([9]) أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي القسم الثاني، ص852.
([10]) سورة البقرة من الآية 286.
([11]) أخرجه مسلم، باب الإسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والهجرة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج1 ص137-138.
([12]) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج22 ص45-48، جمع وترتيب عبدالرحمن النجدي.
([14]) أخرجه البخاري في كتاب الديات باب قول الله تعالى: {إنّ النفس بالنفس}، فتح الباري، ج12 ص209.
([15]) انظر بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي على الشرح الصغير للدردير ج1 ص88-89، وبداية المجتهد لابن رشد، ج1 ص90-91.
([16]) سورة التوبة من الآية 5. وانظر في مذهب الإمام مالك بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج1 ص90-91.
([17]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم)، فتح الباري، ج1 ص94، برقم (25)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إلَه إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي ﷺ، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص180، برقم (22).
([18]) انظر المجموع شرح المهذب للنووي، ج3 ص13-14.
([19]) راجع مجموع فتاوى ابن تيمية، ج22 ص43-56، وانظر نهاية المحتاج لشمس الدين الأنصاري، ج1 ص389-390.
([20]) المجموع شرح المهذب، ج3 ص16.
([21]) راجع فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج1 ص96.
([22]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد للمرداوي، ج1ص442-443.
([23]) المحلى بالآثار للإمام ابن حزم، ج2 ص279-280.
([27]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إثم من فاتته صلاة العصر برقم (552)، فتح الباري، ص37.
([28]) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب من ترك صلاة العصر برقم (553)، فتح الباري، ص533.