الرشوة: ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره؛ ليحكم له، أو يحمله على ما يريد([1])، أو هي ما يعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل([2]).
والراشي: من يعطي لمن يعينه على إحقاق الباطل، أو إبطال الحق.
والمرتشي هو: الآخذ لإحقاق هذا الباطل، أو إبطال هذا الحق.
والرائش هو: الساعي أو الوسيط بينهما، وكلاهما آثم فيما يصنع.
ومن معاني الرشوة: العطية، والهدية، والهبة إذا أعطيت للقاضي أو الحاكم ومن في حكمهما، وكان القصد منها إحقاق باطل، أو إبطال حق.
والرشوة محرمة بالكتاب والسنة:
أما الكتاب: فقول الله -عز وجل-: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة:188]، وقوله -عز وجل-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42].
وأما السنة: فما رواه ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش»([3])، وما رواه أبو حميد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- استعمل رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي. قال: «فهلا جلس في بيت أبيه -أو بيت أمه-، فينظر: أيهدى له أم لا؟، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه -: اللهم هل بلغت»؟ ثلاثا([4])، والأحاديث في تحريم الرشوة كثيرة، وإن جاءت بروايات وصيغ مختلفة.
وللفقهاء أقوال متعددة في مسألة الرشوة، سوف نورد بعضا منها بايجاز.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة تقسم الرشوة إلى قسمين:
– الرشوة المحرمة على الآخذ والمعطي: كالتي تعطى للقاضي؛ ليحكم له، فيأثم المعطي، ولو كان محقا في دعواه، ويأثم القاضي إذا حكم لذلك الرجل بناء على الرشوة التي أخذها، ولو كان الراشي محقا في دعواه، ويكون ملعونا.
– الرشوة المحرمة على الآخذ، وغير المحرمة على الدافع: ومثال ذلك: لو دفع أحد رشوة لأحد؛ لخوفه على نفسه أو ماله، أو دفع لآخر رشوة لتخفف طمعه في ماله، وبقصد تخليص بعض ماله منه، فأخذ الرشوة من طرف الآخذ حرام، ولكن إعطاءَها ليس محرما([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز للقاضي ومن في حكمه من الولاة وغيرهم قبول الهدية؛ لكونها تورث إذلال المهدي، وإغضاء المهدى إليه، وفي هذا ضرر وفساد. وقال ابن حبيب: لم يختلف العلماء في كراهة الهدية إلى السلطان الأكبر، وإلى القضاة والعمال وجباة المال، وهذا قول مالك ومن قبله من أهل العلم والسنة، أما كون النبي -ﷺ- يقبل الهدية فهذا من خواصه -عليه الصلاة والسلام-، فهو معصوم مما يتقى على غيره منها، ولما رد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- الهدية قيل له: كان النبي -ﷺ- يقبلها، فقال: كانت له هدية، ولنا رشوة؛ لأنه كان يُتقرب إليه لنبوته، لا لولايته، ونحن يُتقرب بها إلينا لولايتنا.
واستثنى بعض علماء المذهب من تحريم الرشوة ما كان لدفع مفسدة، وفي هذا قالوا: “إذا عجزت عن إقامة الحجة الشرعية، فإن استعنت على ذلك بوالٍ يحكم بغير الحجة الشرعية أثم دونك إن كان الحق جارية يستباح فرجها، بل يجب ذلك عليك؛ لأن مفسدة الوالي أخف من مفسدة الزنا والغصب، وكذلك الزوجة، وكذلك استعانتك بالأجناد يأثمون، ولا تأثم، وكذلك في غصب الدابة وغيرها. وحجة ذلك لأن الصادر من المعين عصيان، لا مفسدة فيه، والجحد والغصب عصيان مفسدة، وقد جوز الشارع الاستعانة بالمفسدة لا من جهة أنها مفسدة، بل على درء مفسدة أعظم منها، كفداء الأسير، فإن أخذ الكفار لمالنا حرام عليهم، وفيه مفسدة إضاعة المال، فما لا مفسدة فيه أولى أن يجوز. فإن كان الحق يسيرا… حرمت الاستعانة على تحصيله بغير حجة شرعية؛ لأن الحكم بغير ما أمر الله أمر عظيم لا يباح باليسير”([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: تحرم الرشوة، فلا يجوز للحاكم ولا للقاضي ومن في حكمهما قبول الهدية، فإن أُهدي لهما من خصومة، أو وهبه، أو ضيفه، أو تصدق عليه فرضا أو نفلا، أو من غلب على ظنه أنه سيخاصم، ولو بعضا له فيما يظهر؛ لئلا يتمنع عن الحكم عليه، أو كان يهدي إليه قبل الولاية، أو من لا خصومة له، ولم يهد إليه شيئا قبل ولايته، أو له عادة بالاهداء له، وزاد عليها قدرا يحال على الولاية غير تميز أو صفة في محل ولايته؛ حرم عليه قبولها، ولا يملكها؛ لأنها توجب الميل إليه في الأولى، ويحال سببها على الولاية في الثانية؛ لأنه ورد في الأخبار الصحيحة: “إن هدايا العمال سحتٌ، وإنما حلت لرسول الله -ﷺ- لعصمته”([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن الرشوة في الحكم ورشوة العامل حرام بلا خلاف؛ بدلالة قول الله -تعالى-: { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }، ولا يجوز أن يقبل الهدية من لم يكن يهدى إليه قبل ولايته؛ لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلب المهدي إليه؛ ليعتني بالمهدي في الحكم، فتشبه حينئذٍ الرشوة. وفي هذا قال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر. فالراشي إن رشا الحاكم ليحكم له بباطل، أو يدفع عنه حقا؛ فهو ملعون، وإن رشاه ليدفع ظلمه، ويجزيه على واجبه، فقال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه. قال جابر بن زيد: ما رأينا في زمن زياد -يقصد زياد بن أبيه- أنفع لنا من الرشا، ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره([8]).
قلت: وينبني على ما سبق ذكره أن الرشوة حرام بالكتاب والسنة، وقد تبلغ بصاحبها إلى الكفر، وسواءٌ كانت بلفظ الهبة، أو العطية، أو الهدية، أو أي وسيلة أخرى، إذا كان القصد منها إحقاق باطل، أو إبطال حق، أما ما ذكره بعض الفقهاء من جوازها للمعطي إذا كان لا يصل إلى حقه من ظالم إلا بها فأمر ينبغي النظر إليه من أربعة وجوه:
الوجه الأول: أن الأصل عند عامة الفقهاء تحريم الرشوة بلا خلاف بينهم في ذلك، حتى إن بعضهم قال بعدم جواز حضور الحاكم (القاضي) وليمة إلا وليمة النكاح؛ لكونها عامة للناس، وأن الأولى له ألا يأكل منها؛ لأن في المسارعة إلى إجابة الدعوة والتسامح بذلك مذلة([9]).
الوجه الثاني: أن إجازة بعض الفقهاء دفع الرشوة لاستخلاص الحق من الظالم، مع تحريمه على الآخذ إنما هو مجرد اجتهاد كان نتيجة فساد بعض الولاة وبعض القضاة في زمانهم، كما أشار إلى ذلك جابر بن يزيد عن الحاجة إلى الرشوة في زمن زياد بن أبيه، وما أشار إليه كذلك الطحطاوي من فساد القضاة في مصر في زمانه بقوله في حق القاضي المرتشي: “لا ينفذ قضاؤه، فلا تصح عقوده وفسوخه، وقد لعن-عليه الصلاة والسلام-الراشي والمرتشي والرائش -أيضا-، وهو من يمشي بينهما، وتؤخذ الرشوة على يده، وينبغي أن نبشر قضاة هذا الزمان بهذا الوعيد، لا سيما قضاة مصر، ومنهم من يتولى بالرشوة، فإذا عوتب عليه ادعى أنه إنما بذله صيانة للمنصب من وقوعه في أيدي الجهال والفساق، والله لا يخفى عليه شيء”. انتهى([10]).
وهذا الفساد في ذلك الزمان لا ينبني عليه قاعدة، ولا يبرر -بأي حال- إباحة الرشوة، فيكون ذلك حجة لأولئك الذين يجترئون على الأحكام الشرعية.
الوجه الثالث: أن الجواز الذي ذكره بعض الفقهاء في زمانهم أشبه ما يكون بحالة الضرورة للمضطر غير المتجانف للإثم عندما يتعلق الأمر بنفسه أو ماله باعتبارهما من الضرورات الشرعية الخمس.
الوجه الرابع: أن الأمم في هذا الزمان أصبحت منتظمة في دول، وتحكمها قواعد وأنظمة ومراجع متسلسلة، إلى جانب قدرة الإنسان على الوصول إلى حقه بعدة طرق إدارية وقضائية وإعلامية؛ مما يقتضي تحريم لجوئه إلى الرشوة.
فعلى هذا يحرم على المفوض (محل السؤال) التعامل بالرشوة في مال إخوانه؛ لما في ذلك من الأدلة الصريحة في تحريم الرشوة، وما ينال متعاطيها من عظيم الإثم وشديد العقاب، وهو بفعله هذا يأثم وحده إن كان إخوانه لا يعلمون، أما إن كانوا يعلمون بفعله فهم في الإثم سواء؛ لأن الله -جل وعلا- يقول في كتابه العزيز: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة:2].
أما قول الأخ السائل: إن المفوض المشار إليه في السؤال لا يدفع زكاة المال فهذا -أيضا- من الإثم والخطيئة؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام؛ عملا بقول الله -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة:5]، وعملا بقول رسول الله -ﷺ-: «بني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام»([11]).
والآيات والأحاديث في فرضية الزكاة كثيرة، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فمن تركها فقد ترك ركنا من أركان الإسلام، وقد توعده الله في كتابه بقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون} [التوبة: 34: 35].
فعلى الأخ المفوض في المال أن يتقي الله فيما فوض فيه، ويتعامل فيه بالحلال، ويدفع زكاته، ففي هذا أجر كبير له ولإخوته، وفيه نفع عظيم للمال.
وخلاصة المسألة: أن الرشوة ما يعطيه الشخص للحاكم ومن في حكمه ليقضي له بإبطال حق، أو إحقاق باطل، وهي محرمة بالكتاب والسنة، سواء كانت بلفظ الهبة أو العطية أو الهدية أو نحو ذلك، والراشي والمرتشي والرائش الساعي بينهما في الإثم سواء.
وقد قال بعض المفسرين والفقهاء: إنها قد تبلغ بصاحبها حد الكفر؛ لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل، والتعدي على حرمات الله، وقد جوزها بعض الفقهاء للمعطي إذا كان لا يصل إلى حقه من ظالم إلا بها، وهذا ينبغي النظر إليه من أربعة وجوه:
أولها: أن الأصل عند عامة الفقهاء تحريمها بلا خلاف بينهم في ذلك.
وثانيها: أن هذا الجواز مجرد اجتهاد كان نتيجة فساد بعض الولاة وبعض القضاة في زمانهم، وهذا الاجتهاد في ذلك الزمان لا ينبني عليه قاعدة، ولا يبرر بأي حال إباحة الرشوة.
وثالث الوجوه: أن هذا الجواز أشبه ما يكون بحالة الضرورة للمضطر عندما يتعلق الأمر بنفسه أو ماله.
ورابع الوجوه: أن الأمم في هذا الزمان أصبحت محكومة بقواعد وأنظمة ومراجع متسلسلة، إلى جانب قدرة الانسان على الوصول إلى حقه بعدة طرق؛ مما يقتضي تحريم لجوئه للرشوة.
وعلى هذا يحرم على المفوض (محل السؤال) التعامل بالرشوة في مال إخوته وهو بهذا يأثم وحده إن كانوا لا يعلمون، أما إن كانوا يعلمون فهم في الإثم سواء، أما عدم دفع المفوض (محل السؤال) زكاة المال فهذا -أيضا- من الإثم والخطيئة؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي معلومة من الدين بالضرورة، ومن تركها فقد ترك ركنا من أركان الإسلام.
فعلى الأخ المفوض أن يتقي الله فيما فوض فيه، فيتعامل فيه بالحلال، ويدفع زكاته، ففي هذا أجر كبير له ولإخوانه، وفيه نفع عظيم للمال. والله المستعان.
([2]) المنجد الأبجدي ص485-486.
([3]) نيل الأوطار ج7 ص170، ورواه أبو داود بلفظ: «لعن الله الراشي والمرتشي»، كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة، برقم (358)، سنن أبي داود ج3 ص300، ضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (٤٦٨٤).
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب من لم يقبل الهدية لعلة، برقم (2597)، فتح الباري ج5 ص260-261، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص220.
([5]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، الكتاب الثاني عشر ص536، وانظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي ج3 ص177، وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج5 ص362.
([6]) كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ج6 ص121، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ج4 ص140، وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام لابن فرحون ص22-23.
([7]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8 ص254-255، والمجموع شرح المهذب ج20 ص130، وحواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي ج10 ص126-127.
([8]) المغني لابن قدامة ج14 ص58-60، وانظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي ج7 ص270-272، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6 ص316-317، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج31 ص286-287.
([9]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام مرجع سابق ص23.
([10]) حاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي مرجع سابق ص177.
([11]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب «دعاؤكم إيمانكم»، برقم (8)، فتح الباري ج1 ص64، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه، صحيح مسلم بشرح النووي، ج1 ص177.