الجواب: الدين هو ما تعلق بذمة المدين للدائن من مال ونحوه تعلقًا لا تنفك منه ذمته إلا إذا أداه هو أو أحد أقربائه أو أصدقائه، أو أبرأه منه الدائن، ولأهمية الدين، وعظم مسؤوليته يجب على المدين أداء دينه في حياته قبل أن يباغته الأجل؛ لأنه إن مات ودينه عليه تعلق به حتى يقضى عنه؛ لما رواه عن رسول الله -ﷺ-: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه)([1])، وما راوه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: توفي صاحب لنا، فأتينا به النبي -ﷺ- ليصلي عليه، فخطا خطوة، ثم قال: (أعليه دين)؟، قلنا:
ديناران، فانصرف، فتحملها أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله -ﷺ-: (أحق الغريم، وبرئ منهما الميت)؟، قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟، فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله -ﷺ-: (الآن بردت عليه جلدته)([2]).
ويجب قضاء الدين قبل الوصية؛ لما رواه الترمذي عن علي -رضي الله عنه-أن النبي -ﷺ-قدم الدين على الوصية، وأنتم تقرؤون الوصية قبل الدين([3])، وما رواه الدراقطني بوجه آخر عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (الدين قبل الوصية، وليس لوارث وصية)([4]).
والدين دينان: دين مناطه حق لله -تعالى-مثل: الكفارات والنذور والزكاة وفريضة الحج، ونحو ذلك مما هو حق لله -تعالى-وحده، ودين مناطه حق للعباد، كالقرض ونحوه، فهذه الديون مما يجب الوفاء بها في حال الحياة، فإن مات قبل أن يوفيها:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يسقط هذا الدين بالموت إلا إذا أوصى به، فيؤدى من ثلث ماله، فإن سكت لم يخرج عنه شيء؛ لأن الركن في العبادات نية المكلف وفعله، وقد فات كل من هذين بموته، ألا ترى أن صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه أخذه، وليس كذلك حقوق الله -تعالى-؛ لأن المقصود فيها نية المكلف قبل أدائها، ثم أداؤها فعلًا، وهذا ابتلاء من الله للعبد، وإلا فهو غني عنه، وعن ماله، وعن العالمين جميعًا([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: خلاف هذا الرأي، فلا تسقط ديون الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنها شغلت ذمة الميت، فوجب قضاؤها من تركته([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا فرق بين ديون الله وديون العباد، فيجب قضاؤها من تركة الميت، سواءٌ أوصى بها أم لم يوصِ([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب تجهيز الميت أولًا من تركته، ثم تقضى ديونه، سواءٌ أكان قد أوصى بها أم لم يوص، وسواء أكانت لله -تعالى- كالزكاة وزكاة الفطر والكفارات والحج والنذر، أو كانت لأدمي كالقرض ونحو ذلك([8]).
وعند الإمام ابن حزم: لا تسقط ديون الله، بل يجب إخراجها أولًا من تركة الميت، كما يجب تقديمها في السداد على ديون العباد([9]).
هذه خلاصة عامة عن آراء الفقهاء فيما يتعلق بذمة الميت من الديون، ما كان منها لله -سبحانه وتعالى-أو ما كان لعباده، والسؤال عما إذا توفي المدين، وليس له مال تقضى منه ديونه، أو كان المال الذي تركه لا يكفي لسداد هذه الديون كما في المسألة.
قلت: إن المسلم قد يتحمل دَيْنًا تضطره إليه ظروف حياته، إما لحاجته للنفقة، أو حاجة من يعول، وإما لتحمله حمالة أخرى، كخسارته في تجارة أو شراكة أو نحو ذلك، وقد يعجز عن سداد هذا الدين إما لعجزه، وإما لتسويفه، أو تهاونه، فيعاجله الأجل، فتعجز تركته عن الوفاء بما عليه من ديون، فهل تبقى ذمته معلقة بها أو تسقط عنه؟.
الأصل أن ينوي المدين وفاء دينه حتى يهيئ الله له من الأسباب ما يعينه على الوفاء؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه-أن رسول الله -ﷺ-قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)([10])، كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-أنها كانت تدانُ، فقيل لها: ما لك وللدين، ولك عنه مندوحة؟، فقالت: سمعت رسول الله -ﷺ-يقول: (ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله -عز وجل-عون، فأنا ألتمس ذلك العون)([11]).
وعلى هذا تكون نية المدين في الوفاء سببًا وعونًا له على الوفاء، فإن مات، ولم يقدر على ذلك تحمل الله عنه دينه، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (من تداين بدين، وفي نفسه وفاؤه، ثم مات، تجاوز الله -تعالى-عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن تداين بدين، وليس في نفسه وفاؤه، ثم مات، اقتص الله -تعالى-لغريمه منه يوم القيامة)([12]).
وقد ذكر الإمام القرطبي “أن الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة-والله أعلم-هو الذي قد ترك له وفاء، ولم يوص به، أو قدر على الأداء، فلم يؤده، أو ادّانه في سرف، أو في سفه، ومات، ولم يوفه، وأما من ادان في حقٍّ واجب لفاقة وعسر، ومات، ولم يترك وفاءً، فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضًا أن يؤدي عنه دينه… قال-ﷺ-: (من ترك دينًا أو ضياعًا فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالًا فلورثته)([13]).
قلت: ولعل المسلم يحتسب عند الله ما فاته من دَيْنه إذا مات مدينه وهو معسر به، فقد أمر الله بالصبر على المعسر في قوله -عز وجل-: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 280]، ففي هذه الآية أمر بانتظار المعسر إلى حين يسره، وأمر لطيف بالصدقة عليه في حط دينه عنه؛ لما في هذا من الخير لمن يفعله، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (من أنظر معسرًا، أو وضع عنه، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)([14])، كما روى محجن مولى عثمان عن عثمان -رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله -ﷺ-يقول: (أظل الله عبدًا في ظله يوم لا ظل إلا ظله أنظر معسرًا، أو ترك لغارم)([15]).
وفي ظل هذا الترغيب والخير للمتصدق على المعسر كان السلف من الأمة يضعون عن المعسر، ويتصدقون عليه، فقد كان أبو قتادة -رضي الله عنه-دائنًا لرجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيتخبئ منه، فجاء ذات يوم، فخرج صبي، فسأله عنه، فقال: نعم! هو في البيت يأكل خبيزة، فناداه، فقال: يا فلان! اخرج، فقد أُخبرت أنك ها هنا، فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟، فقال: إني معسر، وليس عندي شيء، قال: آللهِ إنك معسر؟، قال: نعم! فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله -ﷺ-يقول: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة)، ثم أتى بصحيفة، فمحاها، فقال: إن وجدتَ قضاءً فاقض، وإلا فأنت في حل([16]).
قال ابن العربي: “فهذا في الحي الذي يرجى له الأداء لسلامة الذمة، ورجاء التحمل، فكيف بالميت الذي لا محالة له، ولا ذمة معه؟. وقد سئل الإمام مالك -رحمه الله -عن الرجل يستلف من الرجل، فيهلك ولا وفاء له، قال: أرى أن يحلله، وهو أفضل عندي، فإن الله -تعالى- يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]([17]).
ومما سبق يتبين الآتي:
– أن المدين في المسألة توفي، ولم يترك مالًا لسداد دينه، وليس في تركته سوى مبلغ ضئيل، وهذا المبلغ يُعدُّ تركة يجب السداد منها، ولا يجوز للورثة أخذها، بل يجب دفعها للدائنين؛ لأنها حقهم، فإن كان الورثة قد استهلكوا هذا المبلغ، فيبقى دينًا عليهم، فإن كانوا معسرين فحكمه عليهم حكم الدين على المعسر، ويجب إنظاره إلى حين ميسرته.
– أن للدائنين أجرًا كبيرًا إذا أحلوا المدين من دينه، خاصة أن ورثته فقراء وقصر، ولما كان من المشروع للمسلمين التعاون والتكافل؛ استدلالًا بقول الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فلعل الأخوه المسلمين هناك-خاصة الأغنياء منهم-أن يتعاونوا في مثل هذه المسألة.
وخلاصة المسألة: أن الدين هو ما يتعلق بذمة المدين من مال ونحوه، ولأهمية مسؤوليته وعظمها يجب على المدين أداء دينه في حياته قبل أن يباغته الأجل، والدين على نوعين، فمنه ما هو حق لله -تعالى-كالزكاة، ومنه ما هو حق للعباد، وخلافًا للإمام أبي حنيفة الذي يرى سقوط حقوق الله بالموت، فإن الأئمة يرون وجوب الوفاء بديون الله وديون عباده، كما يجب على المدين أن ينوي سداد دينه؛ حتى يكون ذلك سببًا وعونًا له على الوفاء؛ للأحاديث الدالة على ذلك.
أما في المسألة فإن المبلغ المذكور يُعدُّ تركة يجب السداد بها، ولا يجوز للورثة أخذها، بل يجب دفعها للدائنين؛ لأنها حقهم، فإن كان الورثة قد استهلكوا هذا المبلغ فيبقى دينًا عليهم، فإن كانوا معسرين فحكمه عليهم حكم الدين على المعسر، ويجب إنظاره إلى حين ميسرته، وإن للدائنين أجرًا كبيرًا إذا أحلوا المدين من دينه، خاصة أن ورثته فقراء وقصر، ولما كان من المشروع للمسلمين التعاون والتكافل فلعل الأخوة المسلمين هناك-خاصة الأغنياء منهم-أن يتعاونوا في مثل هذه المسألة.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين، برقم (2413)، ج2 ص 806، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي-ﷺ-أنه قال: “نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه”، برقم (1078 و1079)، سنن الترمذي ج3 ص389- 390، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩٧٢).
([2]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج3 ص 330، والدارقطني في سننه ج3 ص 79، حسنه الألباني في شرح الطحاوية، (٤٥٤).
([3]) تبيين الحقائق للزيلعي، ج6، ص 230.
([4]) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الوصايا، باب تبدية الدين على الوصية، ج6 ص 267-268، وكنز العمال للبرهان فوري، ج6، ص 239، حسنه الألباني في صحيح الجامع، (٣٤١٩).
([5]) انظر في ذلك: تبيين الحقائق للزيلعي ج6، ص 230، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الحنفي، ج5، ص 85-86، واللباب في شرح الكتاب للشيخ عبد الغني الغنيمي الدمشقي الحنفي على المختصر المشتهر باسم الكتاب لأحمد بن محمد القدوري البغدادي الحنفي، ج4، ص 217.
([6]) انظر في هذا: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه ج1، ص 458، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج6، ص 407-408.
([7]) انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج6، ص 8-9، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب، ج3، ص 3.
([8]) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج2 ص 541، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2، ص 575-576، والمقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني لموفق الدين بن قدامة المقدسي، ص 180.
([9]) المحلى بالآثار لابن حزم الأندلسي، ج8، ص 265.
([10]) أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها، صحيح البخاري ج3 ص 82.
([11]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج6 ص 72، 99، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في جواز الاستقراض، وحسن النية في قضائه، ج5 ص 354، قال الألباني في صحيح الترغيب، (١٨٠١): صحيح لغيره.
([12]) أخرجه البرهان فوري في كنز العمال ج5 ص 244، برقم (15448)، قال الألباني في ضعيف الترغيب، (١١٢٤): ضعيف جداً.
([13]) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي من تفسيره، ج2 ص 49، وأخرجه مسلم (٨٦٧) بمعناه.
([14]) أخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم (3006).
([15]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج1 ص73، والبرهان فوري في كنز العمال ج6 ص216، ضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (٩٢٠).
([16]) أخرجه الدارمي في سننه، ج2، ص261-262، والإمام أحمد في المسند، ج5، ص300، وانظر قول ابن العربي في جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي في تفسيره ج2 ص 49-50، صححه الألباني في صحيح الترغيب، (٩١١).