والجواب: أن مسألة الجوار من الأمور المهمة؛ لأن الجار -من حيث العموم- يريد جارًا يأمنه، ويتقي ضرره، ولهذا يضطر أحد المتجاورين إلى شراء الأرض أو المنزل الملاصق له بأثمان مضاعفة؛ خشية بيعه إلى شخص لا يرغب في جواره، وقد جاءت أحكام الشريعة بالتأكيد على أهمية الجوار، وحقوق الجار، ورعاية ذمته.
والأصل في هذا الكتاب والسنة: أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} [النساء: 36].
وأما السنة: فالأحاديث في هذا كثيرة، منها: قول رسول الله -ﷺ-: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)([1])، ومنها: قوله -ﷺ-: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)، قيل: ومن يا رسول الله؟! قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)([2])، فدل هذا من حيث العموم على عظم حق الجار.
أما المسألة محل السؤال فيبدو منها أن الأخ يختص بالأرض وحده، فمن هنا يحق له التصرف فيها بالبيع على أخته أو إخوته أو غيرهم، والسؤال عما إذا كان يحق للأخت الشفعةُ في الأرض بحكم الجوار؛ لكونها تملك أرضًا ملاصقة للأرض المذكورة؟.
لقد تباينت آراء الفقهاء في ذلك:
ففي المذهب الحنفي: تثبت الشفعة للجار، كما هي ثابتة أصلًا للشريك؛ “لأن حق الشفعة بسبب الشركة إنما يثبت لدفع أذى الدخيل وضرره، وذلك متوقع الوجود عند المجاورة، فورود الشرع هناك يكون ورودًا هنا دلالةً”([3]).
وقد أخذت بهذا مجلة الأحكام العدلية، فنصت المادة التاسعة بعد الألف منها على أن “حق الشفعة أولًا للمشارك في نفس البيع. ثانيًا: للخليط في حق المبيع. ثالثًا: للجار الملاصق. وما دام الأول طالبًا فليس للآخرين حق الشفعة، وما دام الثاني طالبًا فليس للثالث حق الشفعة”.
وحجة أصحاب المذهب في ذلك عدد من الأحاديث المروية عن رسول الله -ﷺ-، منها قوله: (الجار أحق بسقبه)، وتمام الحديث عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن مخرمة، فوضع يده على أحد منكبي، إذْ جاء أبو رافع مولى النبي -ﷺ-، فقال: يا سعد! ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: واللهِ ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنهما، فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمئة دينار، ولولا أني سمعت النبي -ﷺ- يقول: (الجار أحق بسقبه) ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أُعْطَى بها خمسمئة دينار، فأعطاها إياه([4]).
ومن هذه الأحاديث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)([5]).
ومنها: ما رواه جابر بن عبد الله قال: “قضى رسول الله -ﷺ-بالشفعة والجوار”، وفي لفظ آخر: “قضى رسول الله -ﷺ- بالشفعة للجار”([6])، وعن سمرة عن النبي -ﷺ- قال: (جار الدار أحق بالدار من غيره)([7]).
وفي رواية أخرى أن رسول الله -ﷺ- قال: (الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدًا)([8]).
ومن هذه الأحاديث: ما رواه الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله! أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار، فقال: (الجار أحق بسقبه ما كان)([9]).
كما استدل أصحاب المذهب بما ورد من أخبار تدل على أن بعض الصحابة والتابعين أجازوا الشفعة في الجوار، ومن هذه الأخبار: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى القاضي شريح أن يقضي بحق الجار في الشفعة([10]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا شفعة لجار وإن كان ملاصقًا([11])؛ لأن حقه محصور في الجوار، وليس في الملك، واستدل أصحاب الإمام مالك على ذلك بمرسل الإمام مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب أن رسول الله -ﷺ- قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة([12])، كما استدلوا بحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -ﷺ-قضى بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة([13]).
ووجه الاستدلال: أن الشفعة إذا كانت غير واجبة للشريك المقاسم فمن باب أولى عدم وجوبها للجار، أي: أن الحديث دل على ثلاثة أحكام:
الأول: أنه أخبر عن جملة محلها غير المقسوم، فلم يبق شفعة في غيره.
والثاني: دليل الخطاب.
والثالث: النص على أن القسمة إذا وقعت انتهت الشفعة، ولأنه ملك محوز كالجار المقابل([14]).
وفي مذهب الأمام الشافعي: لا شفعة للجار وإن كان ملاصقًا؛ لأن الشفعة لا تثبت إلا للشريك في ملك مشاع، أما الجار والمقاسم فلا شفعة لهما، وقد سبق أن ذكرنا في مسألة سابقة محاجة الإمام الشافعي-رحمه الله -بأن المقصود بالجار “الذي وردت الأحاديث على جواز شفعته” هو ذلك الذي لم يقاسم، وأن قول النبي -ﷺ-: (الجار أحق بسقبه) لا يحتمل إلا معنيين:
أولهما: أن يكون قد أجاب عن مسألة لم يخل أكثرها من أن يكون أراد أن الشفعة لكل جار، أو أراد بعض الجيران دون بعض، فإن كان هذا المعنى فلا يجوز أن يدل على أن قوله -عليه الصلاة والسلام- خرج عامًّا أراد به خاصًّا إلا بالدلالة عنه، أو إجماع من أهل العلم، وقد ثبت عنه-ﷺ-أنه قال: (لا شفعة فيما قسم)، فدل على أن الشفعة للجار الذي لم يقاسم دون الجار المقاسم.
المعنى الثاني: أن تكون الشفعة لكل من لزمه اسم جوار، وهذا لا يقول به أحد، وهذا يدل على أنه -عليه الصلاة والسلام- أراد أن الشفعة لبعض الجيران دون بعض، وأنها لا تكون إلا لجار لم يقاسم([15]).
وفي مذهب الأمام أحمد: لا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة، ووجه الاستدلال: أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل؛ إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضا منه، وإجباره على المعاوضة، لكن الشرع أثبتها لمصلحة راجحة، فلا تثبت إلا بشروط:
أحدها: أن يكون الملك مشاعًا غير مقسوم: وينبني على هذا أن الجار لا شفعة له، وحكى القاضي ثبوت الشفعة للجار، وصححه الصيرفي، واختاره الحارثي، كما اختاره الشيخ تقي الدين مع الشراكة في الطريق؛ استدلالًا بالأحاديث الدالة على حق الجار في الشفعة إذا كان طريقهما واحدًا.
والثاني: ما تقدم ذكره كحديث جابر، واستدلالًا -أيضًا- بأن ملك الجار ملك يدوم، ويتأبد، فتثبت فيه الشفعة كالشركة([16]).
ومما سبق ذكره يتبين أن الفقهاء على رأيين في مسألة شفعة الجار:
الفريق الأول: يرى ثبوت الشفعة للجار، مستدلًّا بعدد من الأحاديث الدالة على ذلك، ومن هؤلاء: الإمام أبو حنيفة وصاحباه، وابن أبي ليلى، والثوري، وبعض أصحاب الإمام أحمد.
والفريق الثاني: لا يثبت الشفعة للجار، ومن هؤلاء: الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وآخرون.
قلت: الأصل -كما ذكر- أنه لا يحق انتزاع ملك من صاحبه إلا برضاه، غير أن إثبات حق الشفعة للشريك في الملك مبني على مصلحة راجحة، هي دفع الضرر عنه من قبل شريك جديد، يحتمل أن يسبب له ضررًا، وإذا كانت هي العلة في حق الشريك فهي واردة في حق الجار، فما كان أمر الله بالإحسان إلى الجار إلا لدفع الأذى عنه، وما كان تأكيد رسوله -عليه الصلاة والسلام- حق الجار إلا لدفع هذا الأذى، فإذا كانت الأرض-مثلًا-ملاصقة لأرض مبيعة، فإن وقوع الأذى من جار دخيل أمر محتمل، كما هو محتمل في حق الشريك.
ومع تباين آراء الفقهاء في هذه المسألة، واستدلال كل منهم بما ورد من أحاديث، فإن دفع التخاصم والتشاحن بين المتجاورين وما يؤدي إليه ذلك من ضرر مما تأمر به قواعد الشريعة؛ لهذا فإن ما ذهب إليه الفريق القائل بجواز الشفعة للجار الملاصق هو الأقرب لهذه القواعد.
وخلاصة المسألة: أن الجوار من الأمور المهمة؛ لهذا أمر الله بالإحسان إلى الجار، وأكد رسوله -عليه الصلاة والسلام-على حقوقه، وما كان هذا إلا لدفع الأذى عنه، وفي المسألة محل السؤال يملك الأخ أرضًا تخصه وحده، فيحق له أن يتصرف فيها بالبيع على أخته أو إخوته، ولما كانت أخته تملك أرضًا ملاصقةً له فهل تثبت لها الشفعة في حال بيع أرض أخيها؟.
لقد تباينت آراء الفقهاء بين القول بثبوت هذا الحق، والقول بعدمه، ولكل من الفريقين حججه واستدلالاته، ولا شك أن حق الشفعة للشريك في الملك مبني على مصلحة راجحة، هي دفع الضرر عنه من قبل شريك دخيل، يحتمل أن يسبب له ضررًا، ولما كانت هذه هي العلةَ في حقه فهي واردة في حق الجار.
ومع تباين آراء الفقهاء في هذه المسألة فان دفع التخاصم والتشاحن بين المتجاورين مما تأمر به قواعد الشريعة؛ لهذا فإن ما ذهب إليه الفريق القائل بثبوت الشفعة للجار الملاصق هو الأقرب لهذه القواعد.
والله أعلم بالصواب.
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار، برقم (6014)، فتح الباري ج10 ص455، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار والإحسان إليه، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص176، وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في حق الجار، وأخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حق الجار برقم (1943)، سنن الترمذي، ج4 ص294.
([2]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن بوائقه، برقم (6016)، فتح الباري ج10 ص457، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص17.
([3]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني ج5 ص4، 5، وانظر: كشف الحقائق شرح كنز الدقائق، للأفغاني ج2 ص199، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6 ص221، ونتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار، لقاضي زاده ج9 ص369-371، وحاشية الطحطاوي، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر الكتاب 4 ص678-679.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، برقم (2258)، فتح الباري ج4 ص 510-512، وقال ابن حجر: “والسقب بالسين المهملة والصاد-أيضًا-: القرب والملاصقة”. وفي قوله: “أربعة آلاف” قال ابن حجر: “في رواية سفيان: “أربعمائة
“. وفي رواية الثوري: “في ترك الحيل أربعمائة مثقال”، وهو يدل على أن المثقال إذ ذاك كان بعشرة دراهم.
([5]) أخرجه أبو داود في كتاب الشفعة، باب في الشفعة، برقم (3517)، سنن أبي داود ج3 ص286، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٥١٧).
([6]) أخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب الشفعة وأحكامها، سنن النسائي ج7 ص321، قال الألباني في صحيح النسائي، (4719): صحيح لغيره.
([7]) أخرجه الشوكاني في نيل الأوطار، وقال: “رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه”، نيل الأوطار ج6 ص 84، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٣٠٨٧).
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشفعة، برقم (3518)، سنن أبي داود ج3 ص 286، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الشفعة، باب الشفعة بالجوار، برقم (2494)، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في الشفعة للغائب برقم (1369)، سنن الترمذي ج3 ص 651، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٥١٨).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، برقم (2258)، ينظر: فتح الباري ج4 ص 510، ونيل الأوطار، ج6 ص84..
([10]) كنز العمال للمتقي الهندي ج7 ص10.
([11]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج2 ص759، وشرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، للشيخ عليش ج7 ص191، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل، للحطاب مع التاج والإكليل ج5 ص312، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج3 ص474، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج2 ص257.
([12]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الشفعة، باب ما تقع فيه الشفعة، برقم (1394)، الموطأ ص 503، رواية الليثي، وأخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب ذكر الشفعة وأحكامها، سنن النسائي ج7 ص 321، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الشفعة، باب “إذا وقعت الحدود فلا شفعة”، برقم (2499)، سنن ابن ماجة ج2 ص 834 – 835، صحح إسناده ابن عبد البر في الاستذكار، (٦/٦٩).
([13]) كما ورد في صحيح مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، باب الشفعة، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص 45-46، وكما عند أبي داود، في كتاب البيوع، باب في الشفعة، برقم (3514)، سنن أبي داود ج3 ص 285، وما رواه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء “إذا حُدت الحدود، ووقعت السهام فلا شفعة”، برقم (137)، سنن الترمذي ج3 ص 652-653، وما أخرجه ابن ماجة في كتاب الشفعة، باب “إذا وقعت الحدود فلا شفعة”، برقم (2499)، سنن ابن ماجة ج2 ص 834-835.
([14]) انظر: المعونة في مذهب عالم المدينة، للبغدادي ج2 ص1267.
([15]) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 14 ص201، والأم للإمام الشافعي ج4 ص5، والمجموع شرح المهذب، للنووي مع فتح العزيز ج11 ص392، ج14 ص300، والحاوي الكبير للماوردي ج9 ص3-10، وبجيرمي على الخطيب ج3 ص147، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج5 ص198.
([16]) المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة ج5 ص461-463، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح ج5 ص206، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج4 ص187-188، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، للمرداوي ج6 ص255، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج4 ص106.