ومفاد المسألة سؤال من الأخ أبو حفص بن جرد من الجزائر يقول فيه: كيف تكون زكاة المال بالنسبة لمن يعمل في آلة معينة مثل الجرار الزراعي للحرث والزراعة والفلاحة؟.

زكاة الأموال ذات الريع (المستغلات. (

والجواب على هذا من حيث العموم: أن الزكاة ركن من أركان الإسلام لها غايات شرعية مهمة تتعلق بالمال ذاته، كما تتعلق بكيان الأمة الاقتصادي والاجتماعي. ففي مجال جمع المال نعرف أنه -وفي غالب الأحوال- ما من مال يجمع إلا قد علق به شيء من الشوائب والأدران علِم بها صاحبها أم لم يعلم. ولما كانت هذه العوالق تضر المال وتؤذيه فقد جعل الله في الزكاة تطهيرًا له، وفي ذلك قال عزوجل في كتابه العزيز: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]. وهنا يختص المسلم بهذه الميزة، فعلاوة على أن الزكاة ركن شرعي من أركان الإسلام، فإنها تطهير له من ذنوب ما كان له الخلاص منها إلا بأدائه الزكاة. ولكن ينبغي هنا التنبيه على أنه ليس المقصود تطهير المال الذي جمعه صاحبه عن طريق الظلم، أو الإكراه، أو الغش أو بالوسائل المنافية للأوامر والنواهي الشرعية، وإنما المقصود التطهير من الشوائب القليلة، التي قد تخالط المال من غير قصد.

وإلى جانب تطهير الزكاة للمال، فإن فيها تنمية له، فهي من الزكاء أي النماء والريع، وأصلها في اللغة الطهارة والنماء والبركة والزيادة([1]). وفي ذلك قال الله عزوجل: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. وفي ذلك قال رسوله ﷺ: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة) الحديث([2]).

وليست الزكاة تطهيرًا للمال ومصدرًا من مصادر الدخل والتكافل بين الأمة فحسب بل هي عبادة يثاب عليها المزكي بدلالة قول الله عزوجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون: 1]. إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون} [المؤمنون: 4]، وقوله عز وجل: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم} [الحديد: 18]([3]). أما بالنسبة لزكاة الآلات محل سؤال الأخ السائل فقد تغيرت الأحوال في العصر الحاضر عما كانت عليه في الماضي. ففي الماضي كانت الآلات إما مجرد سلالم تستعمل ببساطة في البناء، أو مجرد آلات حرث بسيطة تجرها الدواب لحرث الأرض وتسويتها، أو مجرد آلات يدوية يستعملها الإنسان لأغراضه البسيطة، ولم يكن لهذه الآلات في ذاتها قيمة تذكر، كما أنه لم يكن لها إلا أثر محدود فيما تستغل فيه. ومع تطور التقنية أصبحت الآلات التي يستخدمها الانسان ذات قيمة عالية سواء قيمتها ذاتها أو ما تنتجه من منافع؛ فأثمان الرافعات (الكرينات) والجرافات (الشيولات) (والتراكتورات) والحراثات وآلات الحصاد والتسميد والتسوية ونحوها، تصل إلى مئات الآلاف من الدراهم، بل إن أثمان بعض هذه الآلات تبلغ الملايين. ومع قوة الطلب عليها واستغلالها، أصبحت دخولها تمثل عاملًا مهمًا في مصادر المال. والسؤال هو عن طبيعة هذه الأموال بالنسبة لزكاتها، وإلى أي نوع تضاف من أنواع الزكاة؟.

قلت: ولعل هذه الأموال وما في حكمها تعد من عروض التجارة، ونظرًا لطبيعتها وكونها من النوازل المعاصرة فقد يثار بشأنها مسألتين:

الأولى: أخذ الزكاة من ريعها؛ ولهذا موجباته وأسبابه، ومن هذه الأسباب أن المقصود من الزكاة الأخذ من نمو المال وليس من عينه، فزكاة الزروع والثمار تؤخذ من نماء الأرض وليس من عينها. ومن هذه الأسباب أن أخذ الزكاة من عينها فيه استهلاك لها، وأن القصد من الزكاة ليس استهلاك رأس المال ويؤيد هذا شاهد من قول رسول الله ﷺ: (ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه تأكله الصدقة)([4]). ومن هذه الأسباب، أن أخذ الزكاة من عين هذه الآلات سيكون مدعاة لعدم دفعها خاصة إذا عرف أصحابها حجم المبالغ التي سيدفعونها، فاقتضى هذا أخذ الزكاة من ريعها لما في ذلك من التيسير على أصحابها ودفعهم لها.

المسألة الثانية: أخذ الزكاة من قيمتها وريعها مثلها في ذلك مثل العروض التجارية بحيث تقوم كل حول، ويدفع مالكها ربع العشر (2.5%) ولهذا القول أيضًا أسبابه وموجباته. ومن هذه الأسباب أن هذه الآلات أموال تنطبق عليها أحكام القرآن والسنة في وجوب الزكاة على الأموال، دون تفريق بين أصلها وريعها. ومنها: أن هذه الآلات تدخل تحت مسمى الكسب الذي أمر الله تعالى بالانفاق منه. ومن هذه الأسباب أنه ليس من الحكمة الشرعية، ولا من مقاصد الشريعة التفريق بين آلات تؤجر بعشرات الآلاف من الدراهم، وبين متاع تقل قيمته عنها بكثير؛ فإذا كان تاجر البر يدفع (بموجب أحكام الزكاة) زكاته بعد تقويم تجارته بما فيها من أصل وريع فمن باب أولى أن يقوم مالك الآلة آلته ثم يدفع الزكاة عن أصلها وريعها. ومن هذه الأسباب أننا إذا جعلنا زكاة هذه الآلات في ريعها فقط فقد نخالف بذلك مفهوم الزكاة والحكمة منها سواء في تطهير المال وصاحبه، أو في بخس أصحاب الزكاة حقوقهم التي فرضها الله لهم.

قلت: ولعل هذا القول أكثر قربًا للحكمة الشرعية من الزكاة؛ لأن الله جل وعلا أمر بأخذها من المال، ولم يخصص مالًا بعينه. وقد أمر عزوجل باعطائها لطائفة معينة فأصبح ذلك حقًا ثابتًا لها ومن صفات الحق الكمال وقد جعلها الله نماءًا وحفظًا للأموال وهذا فضل يجب أن يكون شاملًا لكل الأموال.

وقد ورد في الفقه ما يبين هذه الحقيقة فنقل الإمام ابن القيم عن ابن عقيل الفقيه الحنبلي ما نصه: «قال ابن عقيل يخرج من رواية إيجاب الزكاة في حلي الكراء والمواشط أن يجب في العقار المعد للكراء (وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة) قال: وإنما خرجت ذلك عن الحلي؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا يجب فيه الزكاة فإذا أعد للكراء وجبت. فإذا ثبت أن الإعداد للكراء يُنشئ إيجاب زكاة في شيء لا يجب فيه الزكاة كان في جميع العروض التي لا تجب فيها الزكاة يُنشئ إيجاب الزكاة. ثم قال: يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهما وعينهما، ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع غلبت على إسقاط الزكاة فصار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها أن يُنشئ فيها الإعداد للكراء زكاة»([5]).

وذكر الإمام الكاساني الحنفي: «من ضمن الشرائط التي ترجع إلى المال الذي تجب فيه الزكاة كون هذا المال ناميًا؛ لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي ثم قال: «ولسنا نعني به حقيقة النماء؛ لأن ذلك غير معتبر وإنما نعني به كون المال معدًا للاستنماء بالتجارة» انتهى([6]).

فالآلات المعدة للتأجير، وما في حكمها أموال نامية ومعدة للتجارة. ونموها مترتب على عينها، وبدون هذه العين لا يوجد النماء. وترتيب الزكاة على النمو دون العين ليس له من سند عقلي؛ لأننا نكون بذلك كمن يتحدث عن فرع الشجرة، وينسى أصلها، أو يتحدث عن الماء، وينسى أن له مصدرًا يخرج منه. كما أن ترتيب الزكاة على النمو دون العين ليس له من سند شرعي؛ لأن نصوص الزكاة نصوص عامة لم تفرق بين مال ومال فجاءت مطلقة والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يقيد. ([7])

وعلى هذا تندرج زكاة الآلات المعدة للتأجير تحت هاتين المسألتين أي على الأصل والنماء، أو على النماء فقط وسند هذا الاجتهاد أو ذاك ينبغي البحث عنه في مقاصد الشريعة والحكمة من فرضية الزكاة. وكل ما أبرأ الإنسان ذمته من حق الله وحق عباده كان أسلم له في الدارين.

وخلاصة المسألة: أن الزكاة ركن من أركان الإسلام لها غايات شرعية مهمة تتعلق بالمال ذاته كما تتعلق بكيان الأمة الاقتصادي والاجتماعي فهي تطهير للمال وتنمية له إضافة إلى كونها عبادة يثاب عليها المزكي ويؤجر.

وبالنسبة لزكاة الآلات محل السؤال فقد تغيرت الأحوال في العصر الحاضر فمع تطور التقنية أصبحت الآلات التي يستخدمها الانسان في الزراعة والصناعة ذات قيمة عالية فأصبحت عرضًا من عروض التجارة.

ولكونها من النوازل المعاصرة فقد يثار بشأنها مسألتين: الأولى: أخذ الزكاة من ريعها لما في ذلك من التيسير على أصحابها في دفع زكاتها.

المسألة الثانية: أخذ الزكاة من أصلها ونمائها، مثلها في ذلك مثل العروض التجارية، بحيث تقوّم كل حول ويدفع مالكها ربع العشر (2.5%). ولعل هذا أقرب إلى الحكمة الشرعية من فرض الزكاة وحكمتها، وكل ما أبرأ الإنسان ذمته من حق الله، وحق عباده كان ذلك أسلم له في الدارين.

والله أعلم.

 

([1]) ووزنها فعلة كالصدقة، لسان العرب لابن منظور ج4 ص358.

([2])وتمام الحديث: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)، رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء مثلُ الدنيا مثلُ أربعة نفر، برقم (2325)، ورواه الإمام أحمد في مسند أبي كبشة الأنماري، ج4 ص231، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٣٢٥).

([3]) انظر فيما ذكر أعلاه رسالة في فقه الزكاة منشورات «مجلة البحوث الفقهية المعاصرة»، العدد الثامن والعشرون لعام 1416هـ، ص6-7.

([4]) ) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة اليتيم، برقم (641)، ج3 ص32، وفي إسناده المثنى بن الصباح، قال أبو عيسى: «وإنما رُوي هذا الحديث من هذا الوجه، وفي إسناده مقال؛ لأن المثنى بن الصباح يضعفُ في الحديث».

([5]) بدائع الفوائد ج3 ص143.

([6]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج2 ص11، وانظر: شرح فتح القدير ج2 ص220، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار ج1 ص391.

([7]) رسالة في فقه الزكاة، ص44.