والجواب: أن المقصود بهذا تلك الجلسة الخفيفة بعد السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة. وبين الفقهاء خلاف في ذلك تبعًا لما ورد من روايات متباينة، فقد روى الإمام البخاري عن مالك بن الحويرث، أنه رأى النبي ﷺ )إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا(([1])، وعلى خلاف ذلك روى أبو هريرة أن النبيﷺ)كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه(([2])، فعلى الرواية الأولى: تجب جلسة الاستراحة، وعلى الرواية الثانية: لا تجب.
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الجلوس لهذه الاستراحة غير واجب؛ استدلالًا بحديث أبي هريرة المتقدم ذكره، وبما أخرج عن الشعبي عن ابن مسعود أنه -أي النبي -عليه الصلاة والسلام- كـان ينهض في الصلاة على صدور قدميه، ولم يجلس. واستدلالًا بما أخرج نحوه عن علي وابن عمر، وابن الزبير، وبما أخرج عن الشعبي، قال: كان عمر وعلي وأصحاب النبي ﷺ، ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم. وبما أخرج عن النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله ﷺ فكان إذا رفع أحدهم برأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى، والثالثة نهض كما هو ولم يجلس.
والحجة في المذهب بعدم وجوب هذه الجلسة أن أكابر الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله ﷺ، وأشد اقتفاء لأثره، وألزم لصحبته من مالك بن الحويرث، فوجب تقديم فعلهم. أما ما رواه مالك فمحمول على فعله -عليه الصلاة والسلام- فى حال الكبر على ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يقول: (لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود… فإني قد بدنت)([3]).
“فيوفق بين الأخبار من هذا الوجه أو تترك الأخبار كلها للتعارض ويعمل بالقياس؛ ولأن هذه قعدة استراحة لايأتي بها للفصل، وأن الفصل إنما إما بين السجدتين أو بين الشفعين، ولا حاجة إلى واحد منهما والصلاة ما وضعت لها”([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: إذا نهض المصلي من بعد السجدتين من الركعة الأولى فلا يرجع جالسًا، ولكن ينهض كما هو للقيام([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: قولان أحدهما: لا يجلس المصلي للاستراحة لما رواه وائل بن حجر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ كان إذا رفع رأسه من السجدة استوى قائمًا بتكبيرة، والقول الثاني: يجلس المصلي للاستراحة استدلالًا بحديث مالك بن الحويرث المتقدم ذكره، وفي قول آخر إن كان المصلي ضعيفًا جلس لحاجته للاستراحة، وإن كان قويًا لم يجلس؛ لأنه غير محتاج لها، وفي حال الجلوس يجلس مفترشًا لما روى أبو حميد أن النبي ﷺ ثنى رجله فقعد عليها حتى رجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض([6]). والمشهور؟ في المذهب سن جلسة خفيفة فإن طالت بالتعمد بطلت الصلاة؛ لأن هذه الجلسة شرعت لمعنى يقتصر فيه على مسمى الاستراحة ولا يمكن مقارنتها بالجلوس بين السجدتين الذي يعد ركنًا من أركان الصلاة([7]).
وفى مذهب الإمام أحمد: اختلفت الرواية عن الإمام أحمد فيما إذا كان المصلي يجلس للاستراحة أم لا فروي عنه أنه لا يجلس؛ لأن أكثر الأحاديث على ذلك. والرواية الثانية أنه يجلس. والصحيح من المذهب أنه إذا قام من السجدة الثانية لا يجلس جلسة الاستراحة، بل يقوم على صدور قدميه([8]).
ويتبين مما سبق أن الإمامين أبا حنيفة، ومالكًا، والإمام أحمد (في رواية عنه) يقولون بعدم جلسة الاستراحة للمصلي استدلالًا بما روي أن النبي ﷺ كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه واستدلالًا أيضًا بما كان يفعله جمع من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن
مسعود، وعبدالله بن عمر رضوان الله عليهم كما كان يقول به عدد من التابعين وقال الترمذي بأن العمل عليه عند أكثر أهل العلم.
ويرى الإمام الشافعي (في أحد قوليه) وبعض أصحاب الإمام أحمد وعدد من أصحاب الإمام الشافعي أنه يسن للمصلي جلسة استراحة خفيفة، استدلالًا بما رواه مالك بن الحويرث- في الحديث السابق ذكره -أن النبي ﷺ كان يجلس إذارفع رأسه من السجود قبل أن ينهض. ولما كان هذا الحديث واردًا في صحيح البخاري، فقد حمله القائلون بعدم سنية هذه الجلسة، بأن النبي ﷺ كان يفعله في كبره فتجويز هذه الجلسة مبني إذًا على الحاجة لا على الوجوب، والالتزام.
قلت: والصواب – والله أعلم- أن جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى والثالثة سنة؛ فإن فعلها المصلي فهو خير، وإن لم يفعلها فلاحرج عليه -إن شاء الله- إلا أن فعلها في حال المصلي الذي يشعر بضعف قيامه أوجب، وأدعى لموافقة فعل رسول الله ﷺ لما رواه الإمام البخاري عن مالك بن الحويرث في الحديث السابق ذكره.
وخلاصة ما سبق أن جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى والثالثة سنة، فإن فعلها المصلي فهو خير، وإن لم يفعلها فلا حرج عليه -إن شاء الله- إلا أن فعلها بالنسبة للمصلي، الذي يشعر بضعف في قيامه أوجب وادعى لموافقة فعل النبي ﷺ فيما رواه البخاري في صحيحه. والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض، صحيح البخاري، ج1 ص200.
([2]) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء كيف النهوض من السجود، برقم (288). وقال أبو عيسى في معرض تعليقه على الحديث: )حديث أبي هريرة عليه العملُ عند أهل العلم، يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه. وفيه خالد بن إلياس وهو ضعيف عند أهل الحديث ويقال )خالد بن إياس( أيضاً). سنن الترمذي، ج2 ص80.
([3]) أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب النهي أن يُسبق الإمام بالركوع والسجود، برقم (963)، ج1 ص309، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام، برقم (619)، سنن أبي داود ج1 ص 168، قال أحمد شاكر في تخريج المحلى، (٤/٦٢): [له] أسانيد صحيحة جدا.
([4]) شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني وشرح العناية على الهداية للبابرتي ج1 ص 308-309، وانظر الاختيار لتعليل المختار لابن مودود ج 1 ص52، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق لعبد الحكيم الأفغاني ج1 ص48، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج1 ص506، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني ج1 ص51.
([5]) المدونة الكبرى للإمام مالك برواية سحنون ج 1 ص 74، وانظر الكافي في فقه أهل المدنية المالكي للقرطبي ص 44.
([6]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1 ص 77، وانظر المجموع شرح المهذب للنووي ج3 ص440-441.
([7]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج1 ص 518-519، والمجموع شرح المهذب للنووي ج3 ص 443، وحاشية الجمل على شرح المنهج لسليمان الجمل ج1 ص480-481، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي ص77-78.
([8]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ص567، والإنصاف فى معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج2 ص71-72 تحقيق محمد حامد الفقي، وانظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج1ص454-455، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج1ص 355، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج1ص188، كتاب الفروع لابن مفلح ج1ص438.