والجواب على هذا: أنه رخص للمسافر في قصر الصلاة رحمة به، ودفعًا للمشقة عنه، والحكم في هذا عام وخاص، فأما العام فقول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([1])، وقوله عز وجل: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}([2]). وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}([3]). وأما الحكم الخاص فقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}([4]).
وقد دلت الأخبار، وتواترت عن رسول الله ﷺ أنه كان يقصر الصلاة في أسفاره سواء كان سفره للحج أو العمرة أو الجهاد. روى ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه صلى مع رسول الله ﷺ بمنى ركعتين، ومع أبي بكر بمنَى ركعتين، ومع عمر بمنى ركعتين ثم قال: فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان([5]). وقد سأل ابن أمية عمر بن الخطاب عن قول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}([6]). وقد أمن الناس فقال عمر -رضي الله عنه- عجبتُ مما عَجِبْتَ منه فسألت رسول الله ﷺ فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)([7]).
وقد أورد الإمام مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد، أنه سأل عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن إنا نجد صلاة الخوف، وصلاة الحضر في القرآن، ولا نجد صلاة السفر فقال عبد الله بن عمر: يا ابن أخي: إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدًا ﷺ ولا نعلم شيئًا، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل([8]).
وقد دلت هذه القول على جواز قصر الصلاة في السفر والسؤال هو: ما المدة التي يجوز فيها للمسافر قصر الصلاة؟
قلت: لقد تباينت آراء الفقهاء بالنسبة لهذه المدة.
ففي المذهب الحنفي لا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يومًا أو أكثر؛ لأن السفر إذا صح لا يتغير حكمه إلا بالإقامة، وهذه تكون إما بالنية، وإما بدخول وطنه. واستدلوا على تحديد المدة بخمسة عشر يومًا بما نقل عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا فأكمل الصلاة فيها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصرها([9]).
وإن لم ينو الإقامة ولا يدري متى يرحل فهو مسافر وإن طال مقامه؛ استدلالًا بما روي أن رسول الله ﷺ أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة، واستدلالًا أيضًا بأن أصحاب رسول الله ﷺ أقاموا (بالسوس)([10]) تسعة أشهر يقصرون الصلاة([11]).
والأظهر من مذهب الإمام مالك أن المسافر يستمر على القصر وإن عرضت له إقامة مالم يبلغ بعزيمته أربعة أيام بلياليهن. وقال بعض أصحاب المذهب يقصر بمقدار عشرين صلاة([12]).
وفي مذهب الإمام الشافعي إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول صار مقيمًا ليس له رخصة السفر. فإن أقام في بلد على حاجة إذا تنجزت رحل ولم ينو مدة معينة ففي المذهب قولان: أحدهما يقصر سبعة عشر يومًا استدلالًا بما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: سافرنا مع رسول الله ﷺ فأقام سبعة عشر يومًا بقصر الصلاة. فما زاد على ذلك يبقى على حكم الأصل. والقول الثاني يجوز له القصر أبدًا؛ لأنها إقامة على حاجة تنجز ثم يرحل بعدها([13]).
وفي مذهب الإمام أحمد إذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإلا قصر وهذا هو المشهور في المذهب ويعني ذلك إقامته في البلد أكثر من أربعة أيام فإن أقام لقضاء حاجة قصر أبدًا؛ أي إذا لم ينو الإقامة ولا يعلم فراغ الحاجة قبل فراغ مدة القصر، قال في الإنصاف: (وهذه الصورة يجوز فيها القصر بلا خلاف، وإن ظن أن الحاجة لا تنقضي إلا بعد مضي مدة القصر. فالصحيح من المذهب أنه لا يجوز له القصر([14]).
قلت: وينبغي التنبيه إلى أن المقصود بالمسافر المرخص له في القصر إلى حين إنجاز حاجته، هو ذلك الذي يتحفز؛ لأنجاز هذه الحاجة دون معرفته بالمدة التي ستنتهي فيها. أما إن كان عارفًا بهذه المدة فعليه الإتمام، ومثل ذلك الطلاب الذين يسافرون للدراسة لمدة ثلاث سنوات أو خمس، أو الموظفون الذين ينتدبون للعمل في مكان آخر مدة معينة، أو الذين يتعاقدون للعمل في بلدان غير بلدانهم. فهؤلاء، وأمثالهم يعرفون متى تنتهي حاجاتهم فيصبحون بمثابة المقيم المتأهل.
وجملة ما ذكر أن قصر الصلاة في السفر رخصة للمسلم رحمة به ودرءًا للمشقة عنه: (والله يحب أن تؤتى رُخَصَه)([15])، كما روي ذلك عن رسول الله ﷺ.
ولعل من المفيد أن نشير إلى مسألة أخرى تتعلق بمسألة الرخصة للمسافر بالقصر وهي: هل تعد هذه الرخصة مطلقة في كل سفر بصرف النظر عن الغرض منه؟
تباينت آراء الفقهاء في ذلك:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يرخص للمسافر بالقصر في كل سفر، فالعاصي والمطيع في سفرهما في الرخصة سواء، وبهذا قال أبو ثور([16]) والثوري([17])، باعتبار أن الترخيص مبني على المشقة وليس في هذا تفريق بين سفر وسفر([18]).
وفي مذهب الإمامين مالك والشافعي أن الرخصة للسفر المباح دون سفر المعصية([19]).
ومثل ذلك في مذهب الإمام أحمد؛ لأن القصر في السفر رخصة من الرخص ومن شروطه أن يكون السفر مباحًا لا حرج فيه كالسفر للتجارة “لأن الترخيص شرع للإعانة على المقصود المباح توصلًا إلى المصلحة، فلو شرع هاهنا لشرع إعانته على المحرم تحصيلًا للمفسدة والشرع منزه عن هذا، والنصوص وردت في حق الصحابة وكان أسفارهم مباحة فلم يثبت الحكم فيما خالفهما ويتعين حمله على ذلك جمعًا بين النصوص. وقياس سفر المعصية على الطاعة لا يصح”([20]).
وينبني على هذا -كما يرى الجمهور- عدم جواز قصر الصلاة في كل سفر فيه معصية سواء كانت هذه المعصية تتعلق بما نهى الله عنه من ارتكاب المحرمات، أو كانت تتعلق بحق من حقوق الآدميين أو الاعتداء عليهم كالسفر لقطع طرقهم أو إرهابهم أو ابتغاء الخلاص من حقوقهم أو نحو ذلك مما يعد من المعاصي.
قلت: ولعل عدم جواز القصر لمن يسافر في معصية هو الصواب إن شاء الله؛ لأن الرخصة صدقة من الله على عباده رحمة بهم وشفقة عليهم بما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال -في الحديث المتقدم ذكره- (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) والسفر للمعصية يدل على مخالفة أمر الله، ومن يخالف أمره فقد عصاه، ومن عصاه حري بألا يستحق صدقته، فاقتضى هذا عدم جواز القصر في الصلاة لمن ذهب إلى مكان ليعصي الله فيه، فعلى المسلم أن يجعل سفره مباحًا لا إثم فيه.
وينبني على ما سبق أنه يجوز للأخ السائل القصر أربعة أيام إذا كان ينوي الإقامة في البلد الذي سافر إليه. أما إن كان لم ينو الإقامة وكانت نيته انتظار حاجة ينجزها دون معرفته بالمدة التي ستنتهي فيها هذه الحاجة كما لو كان يقوم بإنجاز عمل كُلِّفَ به من قبل إدارة أو شركة أو مؤسسة أو كان في انتظار تجارة يريد تصديرها أو نحو ذلك من الأعمال المباحة فهذا يجوز له القصر، فإن لم يكن كذلك وقصر الصلاة ظنًا منه بجوازه فلا حرج عليه إن شاء الله استدلالًا بقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}([21])، واستدلالًا بقول رسول الله ﷺ: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)([22]). وبقوله ﷺ: (إنّ الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)([23]).
وخلاصة المسألة: أن قصر الصلاة رخصة للمسلم رحمة به ودفعًا للمشقة عنه وقد قصر رسول الله ﷺ الصلاة في أسفاره، وقصرها أصحابه كذلك. والأصح أن يقصر المسافر إذا كان لا ينوي الإقامة أكثر من أربعة أيام، ما لم يكن له حاجة يريد إنجازها ففي هذه الحالة يجوز له القصر أبدًا إلى أن تنتهي حاجته، والمقصود بهذا هو من يتحفز؛ لأنجاز حاجته، دون معرفته بالمدة التي ستنتهي فيها هذه الحاجة. أما إن كان عارفًا بهذه المدة فلا يجوز له القصر، ومثل ذلك الذين يسافرون للدراسة لمدة محددة، أو الموظفون الذين ينتدبون للعمل مدة محددة، فهؤلاء وأمثالهم يعرفون متى تنتهي حاجاتهم فأصبحوا بمثابة المقيم المكلف بالإتمام.
والسفر المرخص فيه بالقصر هو السفر المباح؛ لأن الرخصة صدقة من الله، وحري بمن ذهب إلى مكان ليعصيه فيه ألا يستحق صدقته، فعلى المسلم أن يجعل سفره مباحًا لا إثم فيه.
والله أعلم.
([1]) سورة البقرة من الآية 286.
([2]) سورة البقرة من الآية 185.
([4]) سورة النساء من الآية 101.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج5 ص204، وأخرجه البخاري في كتاب الكسوف، باب الصلاة بمنى، صحيح البخاري، ج2 ص35.
([6]) سورة النساء من الآية 101.
([7]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، صحيح مسلم بشرح النووي، ج5 ص196، سنن النسائي، ج3 ص116-117.
([8]) موطأ الإمام مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، باب قصر الصلاة في السفر، برقم (331)، ص103، إعداد أحمد راتب عرموش.
([9]) شرح فتح القدير للإمام ابن الهمام على الهداية للمرغيناني مع شرح العناية على الهداية للبابرتي، ج2 ص34-36، وانظر بدائع الصنائع للإمام الكاساني، ج1 ص97-98.
([10]) السوس: من بلاد العراق فتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 16هـ، وهو بلد قديم العمارة في الأرض. انظر البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص89-90، 138.
([11]) الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي الحنفي، تعليق الشيخ محد أبو دقيقة، ج1 ص79-80.
([12]) التلقين في الفقه المالكي للقاضي عبد الوهاب البغدادي تحقيق ودراسة: محمد ثالث سعيد الغاني، ج1 ص127-129، وانظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج1 ص168، والمدونة الكبرى للإمام مالك برواية الإمام سحنون، ج1 ص113-114، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة لابن شاس، ج1 ص211-212، تحقيق د. محمد أبو الأجفان، أ. عبد الحفيظ منصور، والفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني للنفراوي، ج1 ص260-261.
([13]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1 ص102-103، وانظر الأم للإمام الشافعي، ج1 ص186، تصحيح محمد زهري النجار، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج2 ص254-255.
([14]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للإمام علاء الدين المرداوي، ج2 ص329-330، تحقيق محمد حامد الفقي، وانظر المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج2 ص85، 133، وكشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ البهوتي، ج1 ص511-514.
([15]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص108، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ج3 ص140، كتاب الصلاة، باب كراهية ترك التقصير والمسح على الخفين وما يكون رخصة رغبة عن السنة، صححه الألباني في أصل صفة الصلاة، (٢/٥٢٣).
([16]) أبو ثور: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، فقيه صاحب الإمام الشافعي كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنف الكتب وفرع على السنن وذب عنها، توفي ببغداد سنة 240هـ. الأعلام للزركلي، ج1 ص37.
([17]) الثوري: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، من مضر، أبو عبدالله، أمير المؤمنين في الحديث، سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى، وكان آية في الحفظ، ومن كلامه: ما حفظت شيئاً فنسيته، ومن كتبه: (الجامع الكبير)، (الفرائض)، ولد سنة 97هـ وتوفي سنة 161هـ. الأعلام للزركلي، ج3 ص104-105.
([18]) شرح فتح القدير لابن الهمام، ج2 ص46-47، وشرح العناية على الهداية للبابرتي، ج2 ص46، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني ج1 ص82، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2 ص124.
([19]) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس، ج1 ص213، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج1 ص358، وبلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي، ج1 ص170، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للحسيني، ج1 ص140، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي، ج2 ص386-387، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج2 ص263.
([20]) الشرح الكبير للإمام محمد بن قدامة المقدسي مع المغني للإمام عبد الله بن قدامة، ج2 ص91.
([21]) سورة الأحزاب من الآية 5.
([22]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، برقم (2045)، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٤٤٤٥). كنز العمال للبرهان فوري، كتاب أحكام التوبة، باب ذكر من أسقط عنهم التكاليف، ج4 ص232، برقم (1306).
([23]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2043)، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٧٥).