والجواب: أن الحلف لا يكون إلا بالله وأسمائه وصفاته؛ فمن حلف بغيره فقد ارتكب إثمًا عظيمًا؛ ذلك أن في الحلف تعظيمًا للمحلوف به، وهذا التعظيم لا يكون إلا لله؛ فمن حلف بغيره فقد جعل لهذا المحلوف به أثرًا في التعظيم، فيكون قد أتى بابًا من أبواب الشرك الأصغر.
والأصل في تحريم الحلف بغير الله السنة، والإجماع والمعقول.
أما السنة: فالأحاديث في هذا كثيرة، منها: ما رواه عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله r أدرك عمر بن الخطابt وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)، وفي رواية قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي r ذاكرًا ولا آثرًا»([1]). وفي رواية عكرمة أن عمرt قال: حدثت قومًا حديثًا، فقلت: لا، وأبي، فقال رجل من خلفي: (لا تحلفوا بآبائكم) فالتفت فإذا رسول الله r يقول: (لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خير من آبائكم)([2]). ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الترمذي عن ابن عمر أنه سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال: لا يُحلَفُ بغير الله، فإني سمعت رسول الله r يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)([3]). ومنها حديث بريدة أن رسول الله r قال: (من حلف بالأمانة فليس منا)([4]). ولما كان بعض الصحابة حديث عهد بالإسلام، وكان يسبق على ألسنتهم الحلف باللات والعزى -كما كان المشركون يحلفون بها في الجاهلية- نهاهم النبي r فقال: (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إلَه إلا الله)([5]). والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله كثيرة.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن الحلف لا يكون إلا بالله([6]).
وأما المعقول: فإن الحالف حين يعقد حلفه يعظم من حلف به، والمحلوف له هو الآخر يقبل بهذا التعظيم، حين يقبل الحلف من الحالف، ولو لم يقبل هذا التعظيم لما قبل من الحالف حلفه؛ فاقتضى هذا أن المعظَّم -بفتح الظاء وتشديدها- يجب أن يكون هو المستحق فعلًا للتعظيم، ولا يكون هذا التعظيم إلا لله؛ لأنه الواحد الذي تعظمه النفس حقيقة وصدقًا. أما تعظيمها للمخلوق إذا حدث، فيكون لمصلحة عابرة لا ترقى أبدًا لتعظيم الذي خلقها، وقدّر رزقها ومحياها ومماتها ومبعثها. ولو قيل بتعظيم المخلوق بما يكون من الحلف به لأصبح هذا عبثًا لأنه لا يملك أصلًا لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ناهيك بأن تعظيمه يعد تشريكًا له مع الله، وهذا مما يستحق عليه الحالف به العقاب عليه.
قلت: وقد درجت بعض ألسنة الجهلة من العامة، ولا تزال على الحلف بالأمانة، والقرآن، والنبي؛ كقول بعضهم (وحياة والده) (أو أمه) (وحياة أولاده) (وحياة الكعبة) ونحو ذلك، فمنهم من يراه تأكيدًا لقوله في أمر معين، ومنهم من يراه حلفًا، فهذه كلها ألفاظ لا تجوز ولا تعد أيمانًا، بل هي من المعاصي التي يجب فيها التوبة والاستغفار منها؛ لأن الحلف لا يجوز إلا بالله وحده، أما الحلف بالقرآن فإن كان الحالف يحلف بالقرآن بحسبه كلام الله عز وجل فهو يمين، وإن كان الحالف يقصد المصحف أو الصوت المسموع أو المحفوظ في الصدور فعند الإمام ابن حزم ليس يمينًا([7]).
وخلاصة المسألة: أن الحلف لا يجوز إلا بالله عز وجل. والأصل في هذا السنة والإجماع والمعقول. أما السنة فقد وردت أحاديث عدة، تدل على أن الحلف بغير الله يعد كفرًا أو شركًا. وأما الإجماع، فقد أجمع العلماء على أن الحلف لا يكون إلا بالله، وأما المعقول، فإن الحلف يجب أن يكون بالله الواحد، الذي تعظِّمه النفس حقيقة وصدقًا، والحلف بغيره من الخلق يعد من العبث؛ لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ناهيك بأن الحلف به يعد تعظيمًا له، وهذا يعد تشريكًا له مع الله، مما يستحق عليه الحالف العقاب.
وما درجت عليه ألسنة بعض الجهلة من العامة بالحلف بالنبي والمصحف والأمانة والكعبة، وقول بعضهم: وحياة والده وأمه وأولاده؛ فهذه كلها ألفاظ لا تجوز ولا تعد أيمانًا، وعلى من تعوَّدها التوبة إلى الله والاستغفار منها. أما الحلف بالقرآن، فإن كان الحالف يحلف بالقرآن بحسبه كلام الله عز وجل فهو يمين، وإن كان يقصد المصحف أو الصوت أو المحفوظ في الصدور فليس بيمين، كما يراه الإمام ابن حزم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، فتح الباري، ج١١ ص٨٣٥، برقم (٦٣٦٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالآباء، سنن أبي داود، ج٣ ص٢٢٢، برقم (٩٤٢٣، ٠٥٢٣).
([2]) أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج١١ ص٠٤٥، وقال: «ووقع في مصنف ابن أبي شيبة من طريق عكرمة.. وهذا مرسل يتقوى بشواهده».
([3]) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحَلِفِ بغير الله، سنن الترمذي، ج٤ ص٣٩-٤٩، برقم (٥٣٥١)، وحسنه، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (٥/٦٩): صحيح.
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالأمانة، سنن أبي داود، ج٣ ص٣٢٢، برقم (٣٥٢٣)، وقال السيوطي في الجامع الصغير (٨٦٢٧): صحيح.
([5]) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحَلِفِ بغير الله، سنن الترمذي، ج٤ ص٣٩، برقم (٥٣٥١)، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالأنداد، سنن أبي داود، ج٣ ص٢٢٢، برقم (٧٤٢٣)، أخرجه مطولًا البخاري (٤٨٦٠) واللفظ له، ومسلم (١٦٤٧) باختلاف يسير..
([6]) انظر: فتح الباري، ج١١ ص٠٤٥، وينظر: شرح فتح القدير 7 / 182 ، وحاشية الدسوقي 2 / 192 ، مغني المحتاج للشربيني 4 / 473 ، والمغني لابن قدامة 8 / 718 ..