ومفاد المسألة سؤال عن مفهوم الغاية والوسيلة، ومدى التلازم بينهما في الشريعة الإسلامية.

الغاية والوسيلة في الشريعة الإسلامية

الغاية: ما لأجله وجود الشيء، وجمعها: غايٌ وغايات، فغايته أن يفعل كذا. والوسيلة هي: ما يتقرب به، فوَسِلْتُ إلى الله بالعمل: تقربت به إليه، ومن توسل إلى ربه بوسيلة تقرب إليه بعمل([1])، قال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، والوسيلة درجة في الجنة فقد ورد في الحديث قول رسول الله -ﷺ-: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة»([2])، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يستسقي: “اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا..”([3]).

هذا في اللغة، أما في الاصطلاح فالغاية: كل أمر مشروع في ذاته،

 

سواءٌ كان ذلك من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها لحياة الإنسان، أم كان من الحاجيات التي ترفع الحرج، وتخفف جهد التكليف عنه، أم كان من التحسينات التي هي محل التيسير لحياته.

والغاية -أيضًا-: الامتناع والكف عن كل ما نهى الله ورسوله عنه مما يوقع الضرر، ويوجب الخلل في حياة الإنسان، سواءٌ كان ذلك في علاقته بخالقه، وما يجب عليه من الائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه، أو في علاقته مع غيره من وجوه المعاملات الدنيوية، وانتظامها وفق الوجه الشرعي.

أما الوسيلة فهي الأداة أو الفعل الموصل إلى الغاية، والغاية عند أُناس تبرر الوسيلة، وقد عُرِف هذا المبدأ عن (مكيافيللي)، ويقوم هذا المبدأ على أن الغاية تسقط أي اعتبار ينتج عن فساد الوسيلة، أما في الشرع الإسلامي فالوسيلة يجب أن تكون مشروعة في ذاتها، وإلا كانت الغاية غير مشروعة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

فحفظ الدين أساس من أسس التكليف للمسلم، وهو ملزم بالدفاع عنه بالقوة المادية كالسلاح، أو بالقوة المعنوية كالدفاع باللسان والقلم، والوسيلة في هذا الدفاع يجب أن تكون مشروعة، فلا يجوز للمسلم أن يقتل نفسًا بغير حق بحجة الدفاع عن الإسلام؛ لأن الغاية، وإن كانت مشروعة، وهي الدفاع عن الإسلام، إلا أن الوسيلة -وهي القتل بغير حق-غير مشروعة؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، ويقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33].

كما أنه لا يجوز للمسلم أن يتعدى على غير المسلمين بالسب أو الشتم بحجة الدفاع عن الإسلام؛ لأن الغاية،وإن كانت مشروعة، وهي الدفاع عن الإسلام، إلا أن الوسيلة غير مشروعة؛ لأنها قد تفضي إلى سب الإسلام والمسلمين، وفي هذا نهى الله عن سب آلهة المشركين في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].

والحفاظ على النفس غاية شرعية، ومن أسباب هذا الحفظ الأكل والشرب عملًا بقول الله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وقوله -تعالى-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف:31]، فالأكل والشرب هنا وسيلة، وهذه الوسيلة يجب أن تكون مشروعة من وجهين:

الوجه الأول: أن يكون الأكل من الطيبات، فإن كان من غيرها حرم أكله، كما هو الحال في الربا عملًا بقول الله -عز وجل-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقوله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279].

الوجه الثاني: أن يكون الأكل والشرب دون إسراف؛ لما في ذلك من الإخلال بسلامة الجسم، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه»([4]).

والحفاظ على النسل غاية شرعية؛ لأن الله أمر بالزواج، ووصفه بالسكينة والمودة والرحمة، فقال-عز وجل-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فالوسيلة إلى النسل يجب أن تكوم مشروعة، وهي الزواج بأركانه وأسسه الشرعية، فإن كانت الوسيلة بغير هذا كانت الغاية غير مشروعة؛ لأن الله -عز وجل- حرم الزنا في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلا} [الإسراء: 32].

والحاجة إلى المعارف والآداب غاية مشروعة؛ لما فيها من تنمية العقول والمهارات، فإذا كانت الوسيلة إلى هذه المعارف والآداب غير سليمة في ذاتها، أو فيما تدعو إليه كالكتب الماجنة، أو المطبوعات، أو الصور التي تحث على الانحراف وهدم الأخلاق، أصبحت هذه الغاية غير مشروعة؛ لأن الوسيلة التي تؤدي إليها غير مشروعة.

والتداوي من الأمراض غاية مشروعة؛ لأن رسول الله -ﷺ- أمر بالتطبيب والتداوي من الأمراض والعلل، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله -عز وجل-»([5])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء»([6])، والوسيلة إلى التداوي يجب أن تكون مشروعة، فلا يجوز التداوي بما هو محرم كالخمر وما في حكمه؛ لأن رسول الله -ﷺ- قال: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام»([7])، وقد روى مسلم في صحيحه عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي -ﷺ- عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إنها ليست بدواء، ولكنها داء»([8]).

وطلب العلم، والسعي إلى تحصيله غاية مشروعة؛ لأن الله -عز وجل-مدح من يعلم، وفضله على من لا يعلم، فقال-عز وجل-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، وسواء كان العلم من علوم الدين أم من علوم الدنيا فإن الوسيلة إليه يجب أن تكون مشروعة، وإلا كان هذا العلم غاية غير مشروعة، ومن ذلك: ما لو كان العلم الديني يدعو -مثلًا- إلى الغلو أو التعصب، وذلك لنهي رسول الله -ﷺ- عنه بقوله: «إياكم والغلو في الدين»، أو كان هذا العلم يدعو إلى التفريق بين المؤمنين به مما ذمه الله، ونهى عنه في قوله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون} [الأنعام: 159]، أو كان العلم الدنيوي يدعو إلى التحلل من الدين أو القيم، أو يشكك في ثوابت الإنسان وفطرته، فكل هذه وسائل غير مشروعة تجعل طلب العلم محرمًا بحكم فساد الوسيلة إليه.

والتجارة بما فيها من البيع والشراء، والمضاربة، والتقلب والسعي للرزق غاية مشروعة؛ لما فيها من صلاح حال الإنسان في حياته، والوسيلة إليها يجب أن تكون مشروعة، فإذا كانت الوسيلة إليها غشًّا أو تحايلًا، أو تعاملًا بالربا، أو استغلالًا بأي صورة أصبحت الوسيلة غير مشروعة، وبالتالي تصبح الغاية-وهي التجارة-غير مشروعة.

والدفاع عن الوطن والعرض ودفع الظلم غاية مشروعة؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، والوسيلة إلى هذا يجب أن تكون مشروعة، فإذا كانت هذه الوسيلة غير عادلة، كالاعتداء على الأبرياء، أو على غير المحاربين ومن في حكمهم من النساء والعجزة والأطفال، أصبحت الغاية-وهي الدفاع عن الوطن-غير مشروعة؛ لأن الله عزوجل يقول: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190]، وإذا كانت الوسيلة في الدفاع تزيد عن الحد الواجب أصبحت غير مشروعة، وذلك كقتل من يمكن دفع عدوانه أو ظلمه بأقل من القتل.

وهكذا يتبين أن هناك تلازمًا في الشريعة الإسلامية بين الغاية والوسيلة، فالغاية يجب أن تكون مشروعة أصلًا، والوسيلة إليها يجب -أيضًا- أن تكون مشروعة، وإلا فسدت الغاية بحكم فساد الوسيلة؛ وفساد الغاية هنا ليس فسادًا في ذاتها، بل بحكم ما طرأ عليها من فساد الوسيلة، ومثال ذلك: أن التجارة تظل دائمًا غاية مشروعة، ولا تفسد هذه الغاية إلا إذا كانت الوسيلة إليها فاسدة، كالتعامل بالربا في التجارة، وهكذا في مختلف الأمور الأخرى.

وخلاصة المسألة: أن الغاية كل أمر مشروع في ذاته، سواء كان ذلك من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها لحياة الإنسان، أو كانت من الحاجيات التي ترفع الحرج، وتخفف جهد التكليف، أو كانت من التحسينيات التي هي محمل التيسير لحياته.

كما أن الغاية هي الامتناع والكف عن كل ما نهى الله ورسوله عنه، مما يوقع الضرر، ويوجب الخلل في حياة الإنسان، سواء في علاقته بخالقه، أو في علاقته مع غيره.

أما الوسيلة فهي الأداة أو الفعل الموصل إلى الغاية، فإذا كانت الغاية تبرر عند أناس الوسيلة بصرف النظر عن صلاحها أو فسادها، فإنها -أي الغاية- في الشرع الإسلامي لا تبرر الوسيلة، فالغاية يجب أن تكون مشروعة أصلًا، والوسيلة إليها -أيضًا- يجب أن تكون مشروعة، وإلا فسدت الغاية بحكم فسادها.

وفساد الغاية هنا ليس فسادًا في ذاتها، بل بحكم ما طرأ عليها من فساد الوسيلة، ومثال ذلك: أن التجارة تظل دائمًا غاية مشروعة، ولا تفسد هذه الغاية إلا إذا كانت الوسيلة فاسدة، كالتعامل بالربا، وهكذا في مختلف الأمور الأخرى. والله أعلم.

 

([1]) التعريفات للجرجاني علي بن محمد بن علي ص207، 326، والمصباح المنير للفيومي ص457، 660.

([2]) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم (614)، فتح الباري، ج2 ص112.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم (1010)، فتح الباري، ج2 ص574.

([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج4 ص132، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٨٠٩٨).

([5]) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام، باب «لكل داء دواء»، برقم (2204)، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص385.

([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطب، باب «ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء»، ج2 ص1137، برقم (3436)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة، (٤٥١): إسناده صحيح.

([7]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى مع الجوهر النقي ج10 ص5 باب النهي عن التداوي بما يكون حراماً، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٦٩٠).

([8]) أخرجه الترمذي في كتاب الطب، باب كراهية التداوي بالمسكر ج4 ص339-340، برقم (2046)، وأخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، سنن أبي داود، ج4 ص7، برقم (3874)، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٢٠٤٦).